الشارع والدولة: قراءة في ثورة ديسمبر المجيدة

بقلم : محمد عمر شمينا

لم تأتِ ثورة ديسمبر كحدثٍ مكتمل المعنى، بل كسؤالٍ خرج إلى الشارع ولم يجد بعد لغته النهائية. كانت أشبه بنداءٍ جماعي، لا يعرف أصحابه بالضبط إلى أين يقودهم، لكنهم كانوا متيقنين فقط مما لا يريدونه. وفي لحظة نادرة، بدا كأن الدولة نفسها تراجعت خطوة إلى الخلف، تاركة المجال لناسٍ عاديين كي يتقدموا ويقولوا(يا عنصري ومغرور،كل البلد دارفور)
غير أن الثورة، حين نجحت في إزاحة رأس السلطة، دخلت مباشرة امتحانًا أعقد امتحان تحويل الرفض إلى مشروع. هنا لم تعد الهتافات كافية، ولا الذاكرة الثورية وحدها ضمانة للاستمرار. الدولة، بخبرتها الطويلة، عادت أقل صخبًا وأكثر دهاءً، بينما بدت الثورة مثقلة بتوقعات أكبر من أدواتها. لم تكن الثورة مجرد حدث سياسي، بل تجربة اختبار لقدرة المجتمع على تحويل الغضب إلى بناء، والهتاف إلى برنامج.
تدريجيًا، ظهر الفراغ. ليس فراغ السلطة فحسب، بل فراغ المعنى أيضًا. من يملك حق التحدث باسم الشارع؟ ومن يترجم اندفاعه إلى قواعد وإجراءات؟ في هذا الفراغ، تحوّل الاختلاف الطبيعي إلى تباين حاد، ثم إلى انقسام مكتوم، قبل أن يصبح علنيًا بلا مواربة. الاختلاف بين من يريد أن يحمي الثورة بروح المبادئ، ومن يريدها كوسيلة لتصفية حسابات سياسية، بدأ يطفو على السطح.
حتى الأجسام التي وُلدت من رحم اللحظة الثورية، وتقدمت الصفوف بوصفها صوت المهنيين والعاملين وأصحاب المطالب المحددة، لم تسلم من هذا الامتحان. فحين يطول الوقوف في المسافة بين الشارع والسلطة، يصبح التماسك هشًا. تختلف القراءات، تتباين الأولويات، ويبدأ السؤال عن (التمثيل)في تقويض ما تبقى من الإجماع. لم يكن الانقسام مفاجئًا بقدر ما كان نتيجة طبيعية لثقل الدور وضيق الأفق المتاح، خصوصًا داخل تجمع المهنيين، الذي انقسم بين من يرى ضرورة الاستمرار في الضغط الميداني ومواجهة الدولة، ومن يرى أن الحوار والتفاوض مع السلطة هو الطريق الوحيد لتثبيت المكاسب.
كما ظهرت الانقسامات بوضوح داخل أحزاب سياسية كانت يومًا أقرب إلى روح ديسمبر. فالخلاف لم يكن فقط حول من يمثل الثورة، بل حول طبيعة العلاقة بين الثورة والدولة، وطبيعة المراجعة التي تحتاجها التنظيمات لتبقى حاضنة للمشروع الوطني بدلاً من أن تتحول إلى مجرد أدوات تفاوض على مواقع السلطة. ما يحدث من انقسامات اليوم كان متوقعًا وسيظل، لأنه يعكس التناقض العميق بين الرغبة في التجديد والحاجة إلى التكيف مع السلطة، وهو تناقض لم تستطع أي جهة حسمه بسهولة.
الخيبة التي أعقبت ذلك لم تكن خيانة بالمعنى الأخلاقي المباشر، بل عجزًا عن التوفيق بين نقاء الفكرة وخشونة الواقع. بعض من حملوا الثورة كحلم، وجدوا أنفسهم لاحقًا يحملونها كعبء ثقيل. آخرون اختاروا الدولة، لا اقتناعًا بها، بل خوفًا من الفراغ. وبين الخيارين، تآكلت المساحات الرمادية التي كان يمكن أن تنتج تسوية وطنية مختلفة. الخيبة هنا، في جوهرها، كانت نتيجة ضعف المؤسسات وعدم القدرة على حماية مساحات الاتفاق والتمثيل، أكثر من كونها خيبة شخصية أو أخلاقية.
قد يقال إن هناك دروسًا يمكن الاستعانة بها من تجارب دولية، حيث إن القدرة على إدارة الدولة أحيانًا تتطلب تدريبًا طويل النفس. حين انتُخب توني بلير رئيسًا للوزراء، كان أصغر رئيس وزراء في تاريخ إنجلترا، ومع ذلك لم يكن بمقدوره إدارة الدولة دون المرور بمرحلة تأهيل واسعة. تدخلت المؤسسة الإنجليزية الراسخة فدخلت الحكومة الجديدة في برامج تدريبية مكثفة بجامعة أكسفورد وشيتم هاوس، لتعلم كيفية تنظيم الدولة وإدارة مؤسساتها. هذه التجربة توضح أن الثورة أو التغيير وحدهما لا يكفيان، بل يحتاجان إلى أدوات واستراتيجيات واضحة، وإلى مؤسسات تستطيع تحويل الفكرة إلى فعل مستدام.
ما جرى في السودان لم يكن معزولًا في تنظيم بعينه أو جسم محدد، بل هو تعبير عن مأزق أوسع مأزق ثورة حاولت أن تصبح دولة من غير أن تمتلك أدوات الدولة، ودولة حاولت أن تستعيد توازنها من غير أن تعترف بما كسرته. وفي هذا الاشتباك، أصبح ديسمبر أقل رومانسية، وأكثر قسوة في أسئلته، حيث بدا واضحًا أن الثورة تحتاج إلى استراتيجيات تتجاوز الغضب المباشر، وأن الدولة تحتاج إلى اعتراف بالمكاسب الشعبية قبل أن تعود لتفرض نموذجها القديم.
ومع ذلك، لا يمكن اختزال ديسمبر في خيباته وحدها. فالثورة، مهما تعثرت، كشفت حدود الدولة القديمة، وفضحت هشاشة التوافقات التي تقوم على الخوف لا على العقد الاجتماعي. لقد أظهرت أن الأزمة ليست في الشارع، بل في البنية السياسية التي تعيد إنتاج نفسها كلما غاب الضغط، وكلما استُبدل السؤال الجذري بحلول مؤقتة.
النقد الحقيقي هنا لا يوجَّه إلى الانقسام بوصفه خطيئة، بل إلى إدارة الاختلاف بعقلية الغلبة لا بعقلية البناء. إلى استعجال قطف ثمار لم تنضج، وإلى الارتهان لمعادلات سلطة لم تكن يومًا محايدة. حين تُدار السياسة كسباق مواقع، تفقد الثورة معناها، وتتحول الدولة إلى غنيمة مؤجلة، لا إلى إطار جامع.
غير أن الأمل لا يزال ممكنًا، لا بوصفه شعورًا عاطفيًا، بل كموقف نقدي. أملٌ يقوم على الاعتراف بالأخطاء، وعلى إعادة تعريف العلاقة بين الثورة والتنظيم، وبين الشارع والبرنامج، وبين الحلم والمؤسسة. فالثورات لا تموت حين تُقمع فقط، بل حين تتوقف عن مراجعة نفسها.
ديسمبر قد لا يعود كما كان، وربما هذا أفضل. لأن ما يحتاجه السودان اليوم ليس استعادة لحظة نادرة، بل بناء مسار طويل النفس، أقل صخبًا وأكثر وضوحًا. مسار يدرك أن الدولة لا تُؤخذ دفعة واحدة، وأن الثورة، إن لم تتعلم الصبر والتنظيم والنقد الذاتي، ستظل تدور في المسافة نفسها.
في هذا المعنى، يظل ديسمبر حيًّا، لا في الشعارات، بل في القدرة على البدء من جديد، بعين مفتوحة على الواقع، وذاكرة لا تُقدّس أخطاءها، وإرادة تفهم أخيرًا أن الأمل الحقيقي لا يولد من الإنكار، بل من المواجهة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى