كامل.. البغلة في الإبريق

من بعيد

بقلم : نشأت الإمام

في خطابه أمام الأمم المتحدة، قدّم كامل إدريس مبادرةً تُصاغ بلغة تبدو في ظاهرها جامعة وهادفة إلى وقف الحرب، مرتكزة على مفردات مألوفة مثل: «انعقاد الحوار السوداني–السوداني خلال الفترة الانتقالية، الذي تتفق فيه القوى السياسية على كيفية إدارة الدولة وحكم البلاد. يعقب ذلك انعقاد انتخابات حرة ونزيهة بمراقبة دولية لاستكمال استحقاقات التحول الديمقراطي الشامل»، وضعها كامل كحل وطني بعيد عن الإملاءات الخارجية.

هذا الخطاب، من حيث الصياغة، يخاطب المجتمع الدولي بلغة دبلوماسية ناعمة، ويمنح الانطباع بأن الأزمة السودانية يمكن تجاوزها عبر جمع كل الأطراف على مائدة واحدة، بوصف الحرب مشكلة سياسية يمكن حلها بالتوافق، لا نتاجًا لتاريخ طويل من الاستبداد والتفكيك المنهجي للدولة.

غير أن هذه اللغة، حين تُقرأ من داخل الذاكرة السياسية السودانية، تفتح بابًا واسعًا للهواجس، لا بسبب الدعوة للسلام في حد ذاتها، بل بسبب الغموض المتعمد في تعريف «من هم الأطراف»، ومن هم الذين يشملهم هذا «عدم الاستثناء»، حينما تتحدث الحكومة في مناسبات عديدة عن (حوار لا يستثني أحدًا). وبشكل عام فإن الخطاب، وإن بدا أكثر أناقة ودبلوماسية من الخطاب الرسمي لمجلس السيادة، أو أكثر تهذيبًا من التصريحات التي يطلقها المسؤولون في المنابر الداخلية، لم يبارح محطة التعنت التي لازمت رد الحكومة السودانية تجاه كل المبادرات التي طُرحت لإيقاف الحرب، وإحداها (منبر جدة) التي استدل بها كامل في خطابه، فكل فرص الحل يعلم الشعب السوداني من يعرقلها، ومن المستفيد من إطالة أمد الحرب.

فثورة ديسمبر لم تكن مجرد انتفاضة ضد حزب أو أزمة اقتصادية عابرة، بل كانت ثورة واضحة الهدف ضد منظومة الكيزان وحزبهم، المؤتمر الوطني، وكل الشبكات السياسية والأمنية والاقتصادية التي حكمت السودان ثلاثين عامًا، وأوصلته إلى الانهيار الذي نعيشه اليوم. لذلك فإن أي خطاب يتحدث عن مستقبل السودان متجاهلًا هذه الحقيقة، أو متجاوزًا لها تحت لافتة «الشمول»، يبدو منفصلًا عن جوهر الصراع الحقيقي.

الهواجس من عودة الكيزان لا تنبع من سوء ظن أو مزاج ثوري متصلب، بل من وقائع ملموسة. هذا التيار لم يُهزم سياسيًا أو تنظيميًا، ولم يخضع لمحاسبة حقيقية، وما زال حاضرًا داخل مؤسسات الدولة، ومؤثرًا في مسارات القرار، وقادرًا على تعطيل أي تسوية لا تضمن له موطئ قدم في المستقبل. ومن هنا، يصبح شعار «لا نستثني أحدًا» في السياق السوداني سلاحًا ذا حد واحد، يُستخدم عمليًا لإعادة إدخال من لفظهم الشارع، لا لفتح أفق جديد قائم على العدالة والقطيعة مع الماضي.

خطاب كامل إدريس، وهو يتجنب تسمية الأشياء بأسمائها، لم يقدّم تطمينات واضحة لقوى الثورة ولا لأسر الشهداء ولا للنازحين الذين دفعوا ثمن دولة مختطفة لعقود. لم يقل بوضوح إن المؤتمر الوطني خارج أي معادلة قادمة، ولم يربط السلام بالعدالة الانتقالية أو بتفكيك بنية التمكين، بل قدّم السلام كغاية يمكن الوصول إليها عبر توافق سياسي عام، وكأن المشكلة بين أطراف متكافئة في المسؤولية، لا بين شعب ونظام دمّر دولته.

هنا تحديدًا تتقاطع المبادرة مع هواجس عودة الكيزان. فالتجربة السودانية علّمت الناس أن الغموض السياسي لا يكون بريئًا، وأن أكثر العبارات نعومة قد تخفي وراءها أخطر عمليات إعادة الإنتاج. «الرؤية السودانية» التي لا تُعرّف خصومها بوضوح، ولا تضع خطوطًا حمراء فاصلة مع النظام القديم، تتحول من دعوة وطنية إلى مظلة واسعة تسمح بعودة ذات القوى التي خرجت الجماهير لإزاحتها في ديسمبر.

السلام الذي ينشده السودانيون ليس سلام تسويات فوقية تُعيد تدوير الأزمة، ولا سلامًا يُبنى على نسيان الثورة وطمس مطالبها، بل سلام يقوم على معادلة واضحة: لا شراكة، ولا مساومة، ولا شرعية لمن أفسدوا الحياة السياسية وقادوا البلاد إلى الحرب. والشعار الثوري الذي ما يزال يموج في الصدور وتهتف به الحناجر: (الثورة ثورة شعب، والعسكر للثكنات، والجنجويد ينحل)، وأي خطاب، مهما بدا عقلانيًا ومتوازنًا في المحافل الدولية، إذا لم ينطلق من هذه القاعدة، فسيظل محل شك، وسيُقرأ باعتباره خطوة أخرى في طريق طويل لإعادة الكيزان إلى المشهد، ولمواصلة حكم الجنرالات، لا لإنهاء المأساة السودانية التي تمثل الحرب أحد فصولها فقط.

Exit mobile version