أخطر ما في الحرب الدائرة في السودان ليس أصوات المدافع ولا مشاهد الدمار وحدها، بل ما يُدار في الظل، بعيدًا عن عيون الناس، من مساومات تُفرِّغ الوطن من معناه، وتُحوِّل الجغرافيا إلى سلعة، والدم إلى عملة تفاوض. اليوم، يعود شبح التقسيم لا في صورة إعلان رسمي أو مشروع انفصال صريح، بل في صيغة أخبث وأخطر: تقسيم “بلاك”، صامت، متدرّج، يُسوَّق بوصفه “حلًا واقعيًا” أو “مخرجًا اضطراريًا”، بينما هو في حقيقته تفكيك ممنهج للدولة السودانية.
إن وحدة السودان ليست بندًا ثانويًا في أي تسوية سياسية، ولا ورقة قابلة للأخذ والرد، بل هي جوهر الدولة نفسها. دارفور وكردفان ليستا أطرافًا هامشية يمكن التخلّي عنها لإرضاء هذا الطرف أو ذاك، بل هما قلب السودان الاجتماعي والتاريخي، ومرآته الأخلاقية. من يظن أن التضحية بهما ستحفظ ما تبقى من الدولة، لا يفهم طبيعة الانهيار ولا دروس التاريخ؛ فالدول لا تُنقذ بالبتر، بل بالعدالة.
الأخطر في المشهد الراهن أن الحديث عن “ترتيبات إقليمية خاصة” و”سلطات موسعة” و”حلول غير تقليدية” لا يأتي بريئًا، بل يتقاطع مع مساومات واضحة المعالم تقودها بقايا النظام البائد. “الكيزان”، الذين أسقطتهم ثورة ديسمبر وأخرجهم وعي الشارع من معادلة الشرعية، يحاولون اليوم العودة إلى الحكم عبر بوابة الحرب. لا يريدون سلامًا حقيقيًا، بل صفقة: سلطة في المركز، ولو كانت بلا سند شعبي، مقابل ترك دارفور وكردفان تحت نفوذ قائد قوات الدعم السريع.
هذه ليست قراءة دعائية ولا تخمينًا سياسيًا، بل منطق أفعال متراكمة. فالحركة الإسلامية، منذ نشأتها، لم تتعامل مع الدولة بوصفها عقدًا اجتماعيًا، بل بوصفها غنيمة. وعندما تعجز عن السيطرة على الوطن كاملًا، لا تتردد في تمزيقه. فعلتها من قبل حين أشعلت الحروب في الأطراف، وها هي اليوم تعيد إنتاج المنهج نفسه: الاحتفاظ بالمركز، ولو على أنقاض الهامش.
إن المقايضة على دارفور وكردفان ليست فقط جريمة سياسية، بل جريمة أخلاقية وتاريخية. فهي تعني، ببساطة، أن دماء الملايين التي سُفكت في تلك الأقاليم لا قيمة لها، وأن معاناة النازحين واللاجئين مجرد تفصيل يمكن تجاوزه على طاولة تفاوض. كما تعني أن الدولة التي يُراد بناؤها ليست دولة مواطنة متساوية، بل دولة امتيازات ومناطق نفوذ، تُدار بمنطق السلاح لا القانون.
ولمن يروّجون لهذه الأفكار تحت لافتة “الواقعية السياسية”، نقول بوضوح: لا واقعية في تفكيك الوطن. الواقعية الحقيقية هي الاعتراف بأن استمرار الحرب سببه غياب الدولة المدنية، لا غياب التقسيم. وأن الأزمة في السودان ليست أزمة أقاليم متمردة، بل أزمة مركز مختطف، ظل لعقود ينهب السلطة والثروة ويصدّر العنف إلى الأطراف، ثم يلومها على الانفجار.
كما أن الرهان على أن تسليم دارفور وكردفان للفوضى سيحقق استقرارًا، هو رهان قصير النظر. فالقوات التي تُمنح شرعية إقليمية اليوم، ستطالب غدًا بالمزيد، ولن تقف حدود نفوذها عند خط جغرافي. التقسيم لا يوقف الحرب، بل يشرعنها، ويحوّلها إلى حروب دائمة بين كيانات هشة.
وللمغيبين او الغائبين تحت سكرة المكاسب التي حققوها من الحرب نقول إن السودان يقف اليوم عند مفترق تاريخي حاسم
إما دولة واحدة، مدنية، ديمقراطية، تقوم على العدالة والمواطنة المتساوية،
أو فسيفساء من الكيانات المسلحة، تُدار بالصفقات، وتُحكم بالخوف
لا سلام مع تقسيم الوطن
لا استقرار مع بيع الأقاليم
ولا مستقبل مع عودة الكيزان عبر بوابة الدم
إن التحذير من التقسيم “البلاك” ليس ترفًا سياسيًا ولا خطابًا عاطفيًا، بل واجب وطني. فكل تسوية لا تضع وحدة السودان خطًا أحمر، ولا ترفض المساومة على دارفور وكردفان رفضًا قاطعًا، هي تسوية مؤقتة على حساب الأجيال القادمة
السودان لا يحتاج إلى صفقات سرية، بل إلى عقد اجتماعي جديد. لا يحتاج إلى أمراء حرب جدد أو قدامى، بل إلى دولة تحمي مواطنيها جميعًا، بلا استثناء. دارفور وكردفان ليستا ثمنًا لعودة أحد، والسودان ليس جائزة ترضية لمن خسروا شرعيتهم.