مكي علي إدريس .. شهقة الخيل الاصيلة

عثمان فضل الله

بقلم : عثمان فضل الله

لم يكن المشهد في تلك الليلة الختامية مجرّد احتفالٍ تأبيني يُدار وفق بروتوكول مألوف، بل كان أقرب إلى طقسٍ جمعيٍّ كثيف، تتداخل فيه الذاكرة بالفن، والسياسة بالحنين، والغناء بما يشبه النشيد القديم الذي يُستدعى كلما ضاقت الأرض بأهلها. في رحاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بدا المكان أوسع من جغرافيته، كأنه امتدادٌ رمزي لبلادٍ أُبعدت قسرًا عن مركزها، لكنها ظلّت حيّة في أصوات أبنائها. هناك، أُسدل الستار على كرنفال تأبين الهرم النوبي مكي على إدريس، بعد نحو شهرين من الفنون المتدفقة، التي لم ترثِ رجلًا بقدر ما استحضرت تجربة كاملة، وتجديد عهدٍ مع الفن بوصفه فعل مقاومة.

منذ اللحظة الأولى، كان واضحًا أن الغياب هنا ليس هو الموضوع. مكي على إدريس كان حاضرًا في كل تفصيلة: في الألوان المعلّقة على الجدران، في الإيقاعات التي تُجسّ نبض القاعة، في الكلمات التي تُقال ببطء كما لو أنها تُستعاد من عمق بعيد. لم يكن التأبين سردًا لسيرة، بل إعادة تمثيل لمسارٍ طويل اختار فيه صاحبه أن يقف في صف الأرض، والإنسان، واللغة، دون مساومة.

وُلد مكي على إدريس في مدينة عبري، في شمال السودان، في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي؛ زمنٍ لم تكن فيه النوبة قد نكبت بجراحها اللاحقة جراء تهجيرٍ قاسٍ، وزمنٍ كانت فيه الدولة الحديثة تتشكّل على حساب الأطراف. عبري، المدينة النوبية الضاربة في القدم، لم تكن مجرد مكان ميلاد، بل كانت التكوين الأول لخياله الفني. هناك، تعلّم أن النيل ليس مجرّد ماء، بل ذاكرة تسير، وأن الجبل ليس حجرًا، بل شاهدًا صامتًا، وأن اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، بل خزان هوية.

منذ بداياته، لم يتعامل مكي مع الفن بوصفه تخصّصًا أحاديًا. كان شاعرًا يرى الصورة قبل أن يكتبها، وتشكيليًا يسمع اللون قبل أن يضعه على اللوحة، وموسيقيًا يعرف أن الإيقاع لغة قائمة بذاتها. وإلى جانب كل ذلك، كان معلّمًا بالمعنى العميق للكلمة؛ لا يدرّس المناهج بقدر ما يدرّس الحسّ، ولا يلقّن المعرفة بقدر ما يفتح أبوابها. لذلك لم يكن غريبًا أن يظل التعليم حاضرًا في كل محطات حياته، كخيطٍ ناظم يربط الفن بالمسؤولية.

غير أن ما منح تجربة مكي على إدريس خصوصيتها الفارقة، هو وعيه المبكر بأن الفن، في السياق النوبي والسوداني عمومًا، لا يمكن أن يكون محايدًا. فالفن الذي لا ينحاز للناس، ولا يتورّط في أسئلتهم الكبرى، يتحوّل سريعًا إلى زينة بلا روح. من هنا، جاء مشروعه الفني مشتبكًا بعمق مع قضايا موطنه النوبي، ومع أسئلة السودان الأكبر: العدالة، والحرية، والحق في الأرض، وكرامة الإنسان.

برز هذا التوجّه بوضوح في عمله الملحمي الشهير «إيسب وهيلا»، الذي مثّل نقطة تحوّل حاسمة في مسيرته. لم يكن العمل مجرّد تجربة غنائية أو شعرية، بل كان بيانًا فنيًا مكتمل الأركان، دعا فيه إلى الثورة ضد الظلم والطغيان، بلغة رمزية لكنها واضحة الدلالة. في «إيسب وهيلا»، وضع مكي الأسس الأولى لما يمكن تسميته بالغناء المقاوم النوبي؛ غناء لا يكتفي بوصف الألم، بل يسعى إلى تجاوزه بالفعل الجماعي.

مع مرور السنوات، تحوّل هذا النهج إلى عنوان ثابت لفنه. وحين جاء انقلاب 1989، وما تبعه من سياسات استبدادية واستهدافٍ ممنهج للنوبيين—ثقافةً وأرضًا ووجودًا—لم يكن مكي من أولئك الذين اختاروا الصمت أو التخفّي خلف المجاز الآمن. على العكس، ازدادت أعماله وضوحًا وحدّة، وصارت الأغنية عنده أشبه بمنشورٍ سياسي مشحون بالجمال.

في تلك المرحلة، قدّم أعمالًا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة النوبية الجمعية، مثل «كجبار» التي تحوّلت إلى نشيدٍ ضد الإغراق والاقتلاع، و**«لولِين دقي»** التي استحضرت معنى الفقد بوصفه جريمة سياسية، و**«نوبة أركن ايين»** التي أعادت تعريف الهوية بوصفها فعل مقاومة يومي، و**«يلا أركونا»** التي خاطبت الجماعة لا الفرد، وحوّلت النداء إلى فعل تعبئة.

لم تكن هذه الأغاني تُؤدّى في المسارح وحدها، بل عاشت في الشوارع، وفي القرى، وفي المنافي. كانت تُغنّى في المواكب، وتُردّد في الجلسات، وتنتقل شفهيًا كما تنتقل الحكايات القديمة. ومع تجدّد محاولات النظام لتشييد سدى دال وكجبار، جاء خطاب مكي الفني أكثر مباشرة، كأن الوقت لم يعد يحتمل الالتفاف. في أعمال مثل «آقجنا اورقوناني» و**«نوق نُتو»** و**«سوكر دقرا جرتون»** و**«علي أبونقا»** و**«فنتقل بنجي»**، بلغت اللغة الفنية ذروة تلاحمها مع خطاب المقاومة، حيث صار الصوت نفسه موقفًا، والصمت تواطؤًا مرفوضًا.

هذا المسار لم يكن منفصلًا عن السياق السوداني الأوسع. فحين اندلعت ثورة ديسمبر 2019، كان حضور مكي على إدريس الفني والرمزي حاضرًا بقوة. لم يكن مجرد داعمٍ من بعيد، بل جزءًا من سردية ترى في الفن رافعة أساسية لمواجهة الاستبداد. أسهمت أعماله في تأصيل فكرة أن الثورة ليست فقط صراعًا سياسيًا، بل معركة وعي، وأن الأغنية يمكن أن تكون ذاكرة الثورة وحارسها.

 

ومع كل هذا الانحياز الصريح للقضايا الكبرى، احتفظ مكي بمساحة إنسانية دافئة في فنه، تجلّت بوضوح في أغانيه العاطفية. لم يكن الغزل عنده هروبًا من الواقع، بل طريقة أخرى لفهمه. خاطب المرأة بوصفها شريكة كاملة، لا موضوعًا للزينة أو التشييء. في رؤيته، المرأة كيان أخلاقي وإنساني، وصنو للرجل في الفعل والحلم. لذلك لم يكن غريبًا أن يردّد قوله النوبي العميق: «دينقل اوقجريدن نوب ادين إدا»، الذي يلخّص فلسفة كاملة في الحب والاحترام. استطاع أن يمزج بين العاطفة والقضايا الاجتماعية، وأن يجعل من الأغنية مساحة توازن بين الخاص والعام.

 

في كرنفال التأبين، كانت هذه الوجوه كلها حاضرة. لوحات تستعيد القرى الغارقة، وأغانٍ تُعيد تشكيل الغضب في قالبٍ جمالي، وشهادات تُروى لا لتجميل السيرة، بل لتأكيد معناها. وفي الليلة الكبرى بالقاهرة، بدا المشهد كأنه استعادة رمزية لوحدةٍ طالما حلم بها مكي: نوبة مصر ونوبة السودان في قاعة واحدة، وسودانيون من كل السحنات والقبائل، يجمعهم صوتٌ واحد وتجربة واحدة.

 

لم يكن الحضور النوبي طاغيًا عددًا فحسب، بل معنى. كان إعلانًا صامتًا بأن هذه الثقافة، رغم كل محاولات الطمس، ما تزال قادرة على إنتاج رموزها، وحماية ذاكرتها. وحين انضم الآخرون من بقية السودان، اكتمل المشهد: هوية لا تُغلق على نفسها، بل تتّسع كلما كانت أكثر ثقة بجذورها.

مع نهاية الليلة، لم يبدُ أن أحدًا يريد المغادرة سريعًا. ظلّ الناس يتبادلون الحديث، يستعيدون مقاطع من الأغاني، يقفون أمام اللوحات كأنهم يودّعون صاحبها للمرة الأخيرة، وهم يعرفون في قرارة أنفسهم أن الوداع هنا ليس نهائيًا. لأن مكي على إدريس، في جوهره، لم يكن فردًا عابرًا في تاريخ الفن النوبي والسوداني، بل مسارًا متصلًا، وتجربةً ستظل تُستدعى كلما احتاج الناس إلى أغنية تقول لهم إن الأرض تستحق، وإن الجمال يمكن أن يكون شجاعًا.

هكذا انتهى الكرنفال، لكن الحكاية لم تنتهِ. فمن اختار أن يجعل الفن نشيد مقاومة، لا يُغلق عليه الستار. يبقى صوته ممتدًا، يتردّد في الأزمنة الصعبة، ويذكّر الجميع بأن الأغنية، حين تُقال بصدق، يمكن أن تكون وطنًا مؤقتًا، وسلاحًا، وذاكرة لا تُغرق.

 

 

Exit mobile version