(اللعب على حافة الكيان) بورتسودان تتصدع.. والمدنيين الى تنسيق المواقف

أفق جديد

في لحظةٍ إقليمية بالغة التعقيد، تتقاطع فيها الحسابات الدولية مع تشققات الداخل السوداني، عاد ملف الهدنة والحل السياسي إلى واجهة النقاش بقوة، مدفوعًا بجولات خارجية مكثفة لقائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان. غير أن ما طُرح في تلك اللقاءات – وفق مصادر متعددة – تجاوز بكثير فكرة الهدنة الإنسانية بوصفها إجراءً إسعافيًا، ليمس أسئلة بنيوية عميقة تتصل بشكل الدولة نفسها، وبمستقبل وحدة السودان، وبحدود ما يمكن القبول به إقليميًا ودوليًا في لحظة ضغط قصوى.

في المقابل، وبينما تؤشر الوقائع إلى أن معسكر بورتسودان الداعم لاستمرار الحرب يتجه، بوتيرة متسارعة، نحو التفكك وربما الصدام المسلح الداخلي، كانت القوى المدنية الرافضة للحرب تسير في الاتجاه المعاكس تمامًا: مزيد من التماسك، ومزيد من التنسيق، ومحاولات جادة لبناء موقف سياسي موحد. فقد شهد الأسبوع الماضي وحده سلسلة لقاءات واجتماعات في عدد من العواصم الإقليمية والدولية، انتهت جميعها تقريبًا إلى توافق صريح حول ضرورة إيقاف الحرب، واستعادة مسار الحكم المدني الديمقراطي. أما اللحظة الفارقة، التي يمكن وصفها بـ«الضربة السياسية القاضية»، فتمثلت في الإجماع الذي تبلور مطلع النصف الثاني من شهر ديسمبر الجاري على ضرورة تصنيف الحركة الإسلامية السودانية كتنظيم إرهابي، لا كحزب سياسي قابل لإعادة الإدماج.

تشققات خلف الجدران

تُظهر التطورات الأخيرة أن المؤسسة العسكرية السودانية لم تعد تتحرك ككتلة صلبة ذات قرار موحد، بل باتت مسرحًا لتباينات مكتومة تتعلق بكيفية إدارة الحرب، وبطبيعة التعاطي مع المبادرات الخارجية. هذه الخلافات لا تجد طريقها إلى البيانات الرسمية، لكنها تتجلى بوضوح في تضارب مراكز القوى، وفي الانقسام حول سؤال الهدنة: هل هي مدخل واقعي لإنهاء الحرب، أم ثغرة استراتيجية تمنح الخصم فرصة لإعادة التموضع؟

في هذا السياق، يقول الخبير الأمني والضابط السابق بالقوات المسلحة صديق الفضل لـ«أفق جديد» إن البرهان، وعلى خلاف خطابه الجماهيري المتشدد، يُعد في الواقع أحد أبرز المدافعين داخل المؤسسة العسكرية عن إبقاء خيار الهدنة مفتوحًا، بوصفه أداة مناورة سياسية وعسكرية، لا تنازلًا نهائيًا. ويرى الفضل أن هذا التناقض بين الخطاب العلني والسلوك التفاوضي يعكس إدراكًا متزايدًا لدى البرهان لحجم الضغوط الدولية والإقليمية، ولضيق هامش الخيارات المتاحة أمامه.

ويمضي الفضل أبعد من ذلك، قائلًا إن البرهان يقف اليوم أمام مفترق طرق قاسٍ: إما الاستمرار في الحرب مع ما يحمله ذلك من مخاطر انهيار الجيش، وبالتالي انهيار الدولة نفسها، أو الدخول في مواجهة مفتوحة مع حلفاء خاضوا معه الحرب، وفي مقدمتهم كتائب الإسلاميين التي تضخمت على نحو لافت وباتت تشكل ما يشبه جيشًا موازيًا. ولا يستبعد الفضل أن تنضم إلى هذا المعسكر حركات دارفور المسلحة، التي دفعت ثمنًا باهظًا في هذه الحرب، وفي مقدمة ذلك فاتورة الفاشر الثقيلة.

اللعب على حافة الكيان

في الأثناء، كشفت تسريبات إعلامية متقاطعة أن زيارة البرهان الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية لم تقتصر نقاشاتها على ملف الهدنة الإنسانية، بل امتدت إلى تصورات أوسع تتعلق بمستقبل الحكم في الأقاليم الأكثر تضررًا من الحرب، خاصة دارفور وجنوب كردفان.

ووفقًا لما رشح من معلومات – قُدمت للنقاش لا للتبني – طُرحت أطروحتان رئيسيتان:

الأولى تقوم على منح سلطات واسعة لقادة بعينهم في أقاليم محددة، بما يشبه ترتيبات حكم ذاتي موسّع.

أما الثانية فتذهب إلى أبعد من ذلك، عبر الحديث عن حق تقرير المصير لإقليمي دارفور وجنوب كردفان.

هذه الطروحات، التي تمس جوهر الدولة السودانية، كانت كفيلة بإثارة قلق عواصم إقليمية مؤثرة، وفي مقدمتها القاهرة، التي دفعت بها إلى اتخاذ موقف متشدد خلال زيارة البرهان الأخيرة إليها. وبحسب ذات المعطيات، أبدى البرهان تحفظًا واضحًا على هذه التصورات، ليس فقط لأسباب مبدئية تتعلق بوحدة البلاد، بل أيضًا بدافع واقعي يتمثل في الرفض المتوقع من الحركات المسلحة المتحالفة معه، خاصة في ظل شعورها المتزايد بالتهميش من قبل الولايات المتحدة والسعودية.

خطوط حمراء مصرية

عند نقل هذه الأطروحات إلى الجانب المصري، جاء الرد حاسمًا بالرفض الكامل، في انسجام مع موقف تقليدي تعتبر فيه القاهرة وحدة السودان خطًا أحمر لا يقبل المساومة. غير أن هذا الرفض، وفق مصادر مطلعة، لم يكن كافيًا وحده لطمأنة البرهان، ما دفع القاهرة إلى تعويض ذلك بتصعيد خطابها السياسي الداعم له في البيانات الرسمية، في محاولة لاحتواء مخاوفه من تغير المزاج الإقليمي والدولي تجاه مستقبل السودان.

خلافات العسكريين

التباينات في الداخل لا تقتصر على المجلس السيادي وحده، بل تمتد إلى العلاقة بين البرهان وقيادات «القوة المشتركة»، التي تميل بوضوح إلى خيار الحسم العسكري وإغلاق باب الهدنة نهائيًا، على عكس رؤية البرهان الأكثر ميلاً للإبقاء على هامش للمناورة السياسية. هذا الخلاف يعكس تعارضًا بنيويًا بين منطق الميدان ومنطق السياسة، في حرب لم تعد عسكرية خالصة، بل باتت حرب إرادات وتحالفات.

وعلى مستوى أوسع داخل المؤسسة العسكرية، بدأت تظهر مؤشرات عدم رضا داخل بعض الوحدات الميدانية تجاه أداء هيئة الأركان، ما فتح الباب أمام حديث متزايد عن تغييرات وشيكة في القيادة الميدانية للقوات المسلحة. هذه التوترات، إن تأكدت، تعكس حالة إنهاك بنيوي بعد حرب طويلة بلا أفق حاسم، وبكلفة بشرية ومؤسسية متصاعدة.

المدنيين وتماسك البديل

بالتوازي مع تصدعات معسكر الحرب، بدأ معسكر القوى المدنية الرافضة للحرب يتقدم بخطى ثابتة نحو وحدة الموقف وتنسيق العمل. ففي القاهرة، نجح ضباط متقاعدون الأسبوع الماضي في جمع طيف واسع من القوى المدنية في اجتماع موسع، أفضى إلى تشكيل لجنة تعمل حاليًا على صياغة إعلان مبادئ وإعلان سياسي يقوم على أربع ركائز أساسية: إيقاف الحرب، استعادة الحكم المدني الديمقراطي، قطع الطريق أمام عودة النظام البائد، والتأكيد على وحدة البلاد أرضًا وشعبًا.

أما في نيروبي، فقد ذهبت الخطوة أبعد من ذلك، إذ وقعت مجموعة من القوى السياسية، وحركات الكفاح المسلح، إلى جانب قوى مدنية ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات قومية، على ثلاث وثائق وُصفت بأنها تشكل انقلابًا حقيقيًا في المشهد السياسي السوداني.

من الأخلاق إلى القانون

في إعلان المبادئ السوداني لبناء وطن جديد، لا نقرأ مجرد وثيقة سياسية تقليدية، بل نصًا تأسيسيًا يحاول – بجرأة محسوبة – انتزاع تعريف السودان من أيدي الحرب، وإعادته إلى حاضنته الطبيعية: المجتمع، والذاكرة، والمعنى. الإعلان لا يكتب من موقع الوسيط بين البنادق، بل من موقع الخصم الأخلاقي للحرب نفسها، وهو ما يمنحه كثافة أخلاقية ونبرة تقريرية صارمة تُحسب له قبل أي تقييم سياسي.

بالتوازي، جاءت مذكرة تصنيف المؤتمر الوطني/الحركة الإسلامية السودانية كمنظومة إرهابية كنص صدامي واعٍ بطبيعة اللحظة التاريخية. فهي ليست عريضة احتجاج، بل مرافعة مكتملة الأركان تسعى إلى نقل الصراع مع الإسلام السياسي من مستوى الإدانة الأخلاقية إلى مستوى التوصيف القانوني والسياسي الحاسم. المذكرة تربط، بوعي سببي، بين انقلاب 1989، ودولة التمكين، والإبادة الجماعية، والإرهاب العابر للحدود، وانقلاب 25 أكتوبر، وحرب 15 أبريل، باعتبارها حلقات في مشروع واحد لم ينقطع.

تثبيت موقف وبناء جبهة

أما البيان الختامي لاجتماع نيروبي، فجاء كنص جامع يطمح إلى توثيق لحظة سياسية حرجة، وإعادة بناء المعنى وسط الركام. يبدأ من توصيف المأساة لا لتكريسها، بل لكسر اعتيادها، ثم ينتقل إلى الفعل السياسي، واضعًا الهدنة الإنسانية وحماية المدنيين في صدارة الأولويات، ومنخرطًا ببراغماتية واعية مع المسارات الدولية دون ارتهان لها.

قيمة البيان الحقيقية تكمن في موقعه البنيوي، إذ يربط بين إعلان المبادئ، ومذكرة التصنيف، وخارطة طريق وقف الحرب، ويقدمها كحزمة سياسية واحدة، لا كبيانات متفرقة.

بين التفكك وإعادة التأسيس

في المحصلة، يبدو السودان اليوم واقفًا على حافة خيارات قاسية، حيث تفكك معسكر الحرب يقابله، للمرة الأولى منذ اندلاع الصراع، تماسك نسبي لمعسكر المدنيين. وبين ضغط الخارج وتصدعات الداخل، لم تعد الأزمة مجرد حرب بين طرفين، بل صراعًا مفتوحًا على معنى الدولة نفسها. وفي هذا الصراع، تتقدم الوثائق المدنية بوصفها محاولة جادة لإعادة تعريف السلام لا كصفقة بين السلاح، بل كمشروع إعادة تأسيس لوطنٍ أنهكته الحرب، ولا يزال ينتظر فجرًا جديدًا.

 

 

Exit mobile version