حين يُعلِّمُنا الماءُ شكلَ الذَّاكرة… قراءةٌ في أثَرِ الشَّاعر سيدأحمد علي بلال

إبراهيم برسي

أقربُ ما يمكن قوله عن سيدأحمد علي بلال أنَّه كاتبٌ ينتمي إلى “الهامش المضيء”. ذلك الهامش الَّذي لا يطلب الاعتراف، لكنَّه يُنتِجُ أدبًا يُعلِّمُكَ أنَّ العالم يبدأ من التَّفاصيل الصَّغيرة.

من حَجَرٍ على ضفَّةِ النَّيلِ، من سِكَّةٍ تُفضي إلى الميناء، من صمتٍ يسبِقُ الكلمة.

كلَّما حاولتُ الكتابةَ عنه، شعرتُ بأنَّني لا أقرؤه بل أستعيدُه.. كأنَّ نصوصَه ليست مادَّةً للقراءة، بل آثاراً لرحلةٍ بدأت في قرية حزيمة وتواصلت بين أمواج بورتسودان. هناك، في التَّماسِّ بين التُّرابِ والملح، يتشكَّلُ هذا الصَّوت الَّذي لا يجِدُ مكانَه في خانةٍ جاهزة.

شاعرٌ يحمِلُ النَّهر في نبرتِه، وساردٌ يُشَرِّحُ اللَّحظةَ كأنَّها لُقيةُ أثر، ومترجمٌ يختبِرُ حدودَ اللُّغةِ ويجعلُها أكثرَ قدرةً على الاحتمال. هكذا بدا لي أوَّلَ مرَّةٍ عندما عرَفتُ كتاباتِه؛ وحين قرأتُ له للمرَّة الأولى، شعرتُ بأنَّني أمام كاتبٍ يختبِرُ الحافَّة… ثمَّ اكتملتِ الرُّؤية عبر تلك المحادثاتِ الهاتفيَّةِ الطَّويلة الَّتي كنتُ أتحاورُ فيها مع محمَّد خلف، بثقَلِه الفلسفيِّ وشغفِه بالحفرِ في المعنى؛ وعادل القصَّاص، ذلك السَّاردُ الَّذي يعرِفُ أين يضعُ إصبعَه على نبضِ الحكاية.

هناك، في تقاطعِ أصواتِنا عن الموضوعاتِ المختلفة، أخذ نصُّ بلالٍ شكلَه الأكثر وضوحًا… والأكثر غموضًا معًا. عندها فقط شعرتُ أنَّ بلالًا يُكتَبُ مرَّتين: مرَّةً على الورق، ومرَّةً في وعيِنا الجمعي. ومع طولِ النِّقاش، بدا بلالٌ كأنَّه يخرُجُ من النَّصِّ لِيجلِسَ قُربَنا.. يُناقِشُنا في ما لم نجرؤ على تسميتِه، كأنَّ الكتابةَ ذاتَها تُعيدُ تشكيلَ حضورِ الكاتب في الوعي، وتجعلُ القراءةَ حدثًا يتجاوزُ الورق إلى تلك المنطقةِ الَّتي يُولَدُ فيها المعنى من احتكاكِ ثلاث ذواتٍ تبحثُ -كلٌّ بطريقتِها- عن جوهرِ النَّص.

كاتبٌ لا تَشغلُه الزِّينةُ بقدرِ ما تُشغِلُه القدرةُ على الإصغاء لما تقوله الأشياءُ حين تصمت. هكذا اقتربتُ منه أوَّلَ مرَّةٍ: شاعرًا يلتقطُ ارتجافَةَ الوجودَ، وكاتبَ مذكِّراتٍ يعرِفُ أنَّ الذَّاكرة ليست وعاءً بل طريقةَ نظر، ومترجمًا يفتحُ للعربيَّةِ نافذةً على ما ورائها.

ومنذُ قراءتي الأولى له، أدركتُ أنَّه ليس شاعرًا فقط، بل كائنًا يقيسُ المسافةَ بين القلبِ والعالم، ويُحوِّلُ كلَّ خُطوةٍ في الذَّاكرة إلى جُملةٍ تتنفَّس.

في “عنابر ديم التِّيجاني” لا يضعُ المؤلِّفُ سيرته على الطَّاولة كما تُوضَعُ وثيقةٌ للمراجعة، بل يتركُ للمكانِ أن يكتُبَ نفسَه بنفسِه. الحيُّ العمَّاليُّ في الميناء يتحوَّلُ إلى معملٍ للوعي: أجسادٌ تعودُ برائحةِ الملح والزَّيت، أسماءُ عُمَّالٍ تُشبه إيقاعَ خطاهم، غرفٌ ضيِّقةٌ لكنَّها “تتَّسِعُ بما يفيضُ عنِ العَيشِ من معنى”. هذا النَّصُّ ليس نوستالجيا تُبَرِّجُ الماضي، بل نقداً حميميًّا للماضي وهو يتلبَّسُ الحاضر. فالذَّاكرةُ هنا ليست أرشيفًا للصُّور؛ إنَّها حقلُ صراعٍ على الدَّلالة، على مَن يملُكُ الحقَّ في تسميةِ الأشياء: “أكان ذلك بيتًا أم عنبرًا؟ أكانت طفولةً أم “ورديَّةً” إضافيَّةً في المصنع؟”.
في هذا الكتاب يلتقي المنظورُ الاجتماعيُّ بالمنظورِ الجماليِّ دون أن يتكلَّفَ التَّنظير: المكانُ يُعادُ ترتيبُه بصبرِ رسَّامٍ يعرف أنَّ الضَّوء يأتي متأخِّرًا، لكنَّه يأتي.

ولأنَّني أؤمنُ، على طريقة غرامشي، بأنَّ “لكلِّ إنسانٍ وظيفةً فكريَّة وإن لم يُدرِكْها بعدُ”، أقرأُ بلالًا بوصفِه أحدَ تمثُّلاتِ “المثقَّفِ العملي” الَّذي لم يكتفِ ببلاغةِ الأسلوب، بل اختبرَ اللُّغةَ في ورشةِ الواقع. نصوصُه لا تُزخرِفُ الفقرَ، بل تُعَرِّيه. لا تُغَنِّي للبحرِ، بل تلتقِطُ “المِلحَ” على وجوهِ العائدين. هنالك في “عنابر ديم التِّيجاني” اقتصادٌ سرديٌّ يُلامِسُ القسوةَ من غيرِ ادِّعاء البطولة؛ جُمَلٌ قصيرة، لقطاتٌ مكثَّفة، وحوارٌ خفيضٌ مع طبقاتٍ من الصَّمت. هذه كتابةٌ تعرِفُ أنَّ التَّاريخَ ليس سيرةَ الزُّعماء فقط، بل “سيرةَ الممرِّ اليوميِّ إلى لُقمةِ العَيش”.

أمَّا “وَقَعَ الغطاءُ عنِّي”، فهو كتابُ الجُملةِ الَّتي لا تتصالَحُ بسهولة، كتابُ الشِّعر حين يختبِرُ النَّثرَ، والنَّثرُ حين “يطلبُ وزنَه الخاص”. هناك، تتجاورُ ثنائيَّاتُ الميلادِ والفناء، السُّيولةُ والجفاف، النُّورُ والعَتَمَة؛ لا باعتبارِها استعارةً تهرُبُ من الجسدِ إلى الفراغ، بل كـ”بنيةٍ إدراكيَّةٍ” تقترِحُ على القارئ أن يرى العالمَ بما يتخلَّفُ عنه من ظلٍّ.

أرى أنَّ هذا الدِّيوان كُتِبَ على إيقاعِ “تلعثُمٍ مقصود”: الكلماتُ تتقدَّمُ خُطوةً وتتراجعُ خُطوتَيْن، كأنَّ الشَّاعرَ يحفِرُ في طبقاتِ اللُّغة ليُبرِزَ ما تراكمَ فيها من كثافةِ ما يُراكِمُه اليوميُّ على العين. “القصيدةُ”، هنا، ليست طبقةٌ لغويَّة لا تتورَّطُ في ما تحتها؛ إنَّها طريقةُ نظر. وكم أحببتُ ذلك الوميضَ الَّذي يخرُجُ من احتكاكِ المفردةِ بالمكان: ماءُ الشَّمالِ النِّيليِّ وهو يُعلِّمُنا رياضةَ الانتماء، طينُ القريةِ وهو يُوقِّعُ باسمِه على أجسادِنا، الشَّارعُ وهو يتحوَّلُ إلى جملةٍ اعتراضيَّةٍ في الوعي.

ولأنَّ الشِّعرَ، كما يُلمِّحُ إرنست بلوخ، “وعدٌ بما لم يكتملْ بعدُ”، فإنَّ قصائدَ بلالٍ لا تُعيدُ إنتاجَ اليأسِ الرُّومانسي، بل تضَعُ اليأسَ في مواجهةِ سؤالِ العمل… ليس عنده ترفُ التَّعالي اللُّغويِّ على جِراحِ الجماعة؛ لُغتُه تقطعُ المسافةَ بين الخاصِّ والعامِّ بلا ارتباك، كأنَّها تقول: “ما لم يُفكِّر فيه النَّاسُ بصوتٍ عالٍ، ينبغي للقصيدةِ أن تُجرِّبَه”. هنا يظهرُ أثرُ التَّكوينِ البصريِّ في الكتابة: توزيعُ البياض، إدارةُ الصَّمت، لقطاتٌ تشتغِلُ مثل مونتاجٍ هادئ.. تلاشي مشهدٍ، دخولُ آخَرَ. حتَّى الاستعارةُ عنده “تتلفَّتُ” أكثر ممَّا تتباهى، تُشيرُ بدلَ أن تُقرِّر، وتتركُ للمشهدِ أن يقولَ نصفَه الأخير.

وليس من بابِ المصادفة أن يظهرَ وجهُ بلالٍ الآخَرُ في التَّرجمة. حين تَرجَمَ “تصوُّف: مُنقِذو الآلهة” لنيكوس كازانتزاكيس، بدا لي أنَّه لا ينقلُ نصًّا من لغةٍ إلى أخرى، بل يَعبُرُ “حاجزَ الرُّوحِ” إلى منطقةٍ ثالثة.. منطقةٍ يُختَبَرُ فيها معنى أن تستعيدَ العربيَّةُ حِسَّها بأن تكونَ بيتًا يفتحُ نوافذَه على المتوسِّط. التَّرجمةُ هنا ليست وظيفةً تقنيَّة؛ إنَّها “اختبارٌ وجوديٌّ” للُّغةِ كما يقولُ فالتر بنجامين في روحِ فكرتِه… استمرارٌ لحياةِ النَّصِّ في لسانٍ آخر. كأنَّ بلالًا وهو يمشي مع كازانتزاكيس على حافَّةِ المعنى، يستعيدُ ما فُقِدَ من شجاعةِ السُّؤالِ في العربيَّةِ الحديثة: “هل يمكن للإنسانِ أن يخلُصَ إذا خلُصتِ اللُّغة؟ وهل يمكن للُّغةِ أن تخلُصَ إذا خلُصَ الإنسان؟”. هنا أسمعُ صوتَه لا صوتَ المؤلِّفِ المُترجَمِ عنه: صوتَ سودانيٍّ جرَّب المنفى واحتفظَ بالمعجمِ الحارِّ للجذور.

ولستُ أُخفي نزوعي إلى قراءةِ بلالٍ مرآةً لجيلٍ سودانيٍّ كاملٍ تعلَّم القسوةَ في المدرسةِ الخطأ. ذلك الجيلُ المتشظِّيُ بين المنفى والمكان، بين أثينا ونيقوسيا ولندنَ من جهةٍ، وبين حزيمة وبورتسودانَ من جهةٍ أخرى؛ جيلٌ يكتُبُ وهو يُحدِّقُ في التَّقويمِ السِّياسي، يُترجِمُ وهو يقيسُ المسافةَ بين “هُويَّةٍ تضيقُ” و”عالمٍ يتَّسع”. أشعُرُ أحيانًا أنَّ بلالًا يُعالِجُ في تجربتِه العصبيَّةَ المُرهَفَة لهُويَّةٍ تحت القصف. هو لا يُعلِنُ ذلك، لكنَّه يتركُه في هوامشِ الجُمَل: صمتٌ أطولُ من اللَّازم، تردُّدٌ محسوب، مَيلٌ إلى “المجازِ العَمليِّ” أكثر من الاستعارةِ المفخَّمة. هناك لغةٌ نُسِجَت لتُرى لا لتُصفِّق. وهذه إحدى فضائلِه الكبرى.

هل أُغالِي حين أقولُ إنَّ “عنابر ديم التِّيجاني” عَمَلٌ يُدَرَّسُ في السَّردِ الاجتماعيِّ العربي؟ ربَّما. لكنَّني أرى أنَّه نصٌّ يُذكِّرُنا بأنَّ كتابةَ النَّاسِ عنِ النَّاسِ فعلٌ سياسيٌّ حتَّى حين يتظاهرُ بالحياد. يكفي أن تلتقِطَ اسمَ عاملٍ بورتسودانيٍّ وتُعيدُ له نَسَبَه في اللُّغة؛ يكفي أن تفصِلَ بين “الوظيفةِ” و”الإنسان” لِتُفكِّكَ عُقدةً كاملةً في اقتصادِ المعنى. هنا تقتربُ الكتابةُ من النَّقدِ الماركسيِّ لأدلجةِ اليومي: لا لرفعِ شعاراتٍ، بل لإظهار ِكيف تصنَعُ البنيةُ الفوقيَّةُ أشكالَ إدراكِنا للحياة. بلالٌ يفعلُ هذا بكياسةِ شاعرٍ لا يحبُّ الخُطَب. يتركُ الفكرةَ تمشي على قدمَيْن، تمرُّ، تلمَحُها، فتتبعُها.

ومع ذلك، لا يُخضِعُ بلالٌ النصَّ لصرامةِ الأُطروحة؛ يُخلِّصُه دائمًا بجرعةِ حنانٍ غير مُعلَنة. “نبرةُ اعترافٍ” تتسرَّبُ بين السُّطور: اعترافٌ بحكايةٍ شخصيَّة، لكنَّها قابلةٌ لأن تكونَ حكايةَ الجميع. أحيانًا يقولُ كأنَّه يُحدِّثُ عابرًا أمام الميناء: “لا أُريدُ أن أتذكَّر، لكنَّ المكانَ يصِرُّ”. وأحيانًا يعترفُ بحذر: “لم أكُن شاعرًا.. كنتُ صبيًّا أتعلَّمُ كيف أرى”. هذه العباراتُ الصَّغيرة هي الَّتي تُحوِّلُ السِّيرةَ إلى “حياةٍ قابلةٍ للمشاركة”، وتُعيدُ للنَّصِّ فضيلتَه الأولى: الأصالةُ بلا ادِّعاء.

أمَّا حين يُمسِكُ الشِّعر بتقنيَاتِه البصريَّة، فإنَّ مشاهدَ بلالٍ تبدو -حرفيًّا- قابلةً للَّوحةِ والسِّينما. زاويةُ رؤيةٍ منخفضةٍ تُلاحِقُ صعودَ العمَّالِ على السُّلَّمِ المعدني، كتفٌ تبتَلُّ بعرقٍ يشبه المطر، ضحكةٌ تُقطَعُ بالموج، لقطةُ يدٍ تُقلِّبُ رغيفًا على صاجٍ مُسَخَّن، وأخرى تبحثُ في جَيبِ مِعطَفٍ عن تذكرةِ عبورٍ قديمة. هذه “الحِرَفيَّة الهادئة” في صَوغِ اللَّقطةِ تمنحُ السَّرد إيقاعًا بصريًّا بلا ضجيج. وأحسَبُ أنَّ هذا السَّببَ بالذَّاتِ هو ما يجعلُ “وَقَعَ الغطاءُ عنِّي” أكثرَ من مجموعةِ نصوصٍ: إنَّه مختَبَرٌ لتدريبِ الحَدَقَةِ على الإصغاء.

في الخلفيَّة، تتردَّدُ أسئلةٌ لا تُجابُ لمرَّةٍ واحدة. ماذا تفعلُ التَّرجمةُ بالهُويَّة؟ هل تفتحُ اللُّغةُ نافذةً أم تستبدِلُ بابًا بباب؟ وما مصيرُ الشَّاعرِ حين يقضي عُمُرُه بين مُعجَمَيْن: مُعجَمِ الطُّفولةِ ومُعجَمِ العالم؟ هنا يتسرَّبُ صوتُ فاروفاكيس -لا كسُلطةٍ فكريَّة، بل كرفيقِ حِجاج- حين يقولُ بطريقةٍ ما إنَّ “المعرفة ليست منفصلةً عن علاقاتِ الإنتاج، بل منسوجةً فيها”. أقرأ بلالًا على هذا الضَّوء: شاعرًا ومترجمًا وصاحبَ مذكِّراتٍ يختبرُ كيف نعيشُ في اللُّغة، بينما نعملُ ونُجرِّبُ ونُهاجِرُ ونعود. إنَّه يُذكِّرُنا بأنَّ الثَّقافة ليست “ترفًا إضافيًّا”، بل جزءاً من منظومةِ العَيشِ نفسِها؛ ومع كلِّ ضربةٍ تتوارى… تظهَرُ شرارةُ الفهم.

كأنَّ مشروعَه كلَّه يقِفُ عند هذه الجملة: “أُريد لغةً تَصْدُقُني حين أُكذِبُ عليها”. لذلك، يتخفَّفُ من الزِّينةِ وينحازُ إلى ما يُسمِّيه بلوخ “الدِّفءَ الأُنطولوجيَّ” للأمل… ذلك الأملُ الَّذي لا يجهلُ فداحةَ الواقع، لكنَّه يُراهِنُ على إمكانٍ يظلُّ مفتوحًا. لا يكتُبُ بلالٌ ليُحَسِّنَ العالم؛ يكتبُ لِيجعَلَه مرئيًّا. وهذا -في زمنٍ يلتهِمُ فيه الضَّجيجُ أعصابَ الكلمات- أعظمُ ما يمكن للأدبِ أن يفعله.

أعرِفُ أنَّ بعضَ النُّقَّادِ سيطلُبونَ “سيرةً رسميَّة” وتواريخَ مفصَّلةً وصُورًا… لكنَّني أُفضِّلُ، هنا، أن أترُكَ الأثرَ يقودني. ما يهُمُّني هو هذا “الجوُّ الجماليُّ” الَّذي يربطُ بين الشِّعرِ والمكانِ والتَّرجمة: ثلاثيَّةٌ تصنعُ صوتًا لا يُشبِه سواه. شاعرٌ يُعيدُ إلى العربيَّةِ قدرتَها على التَّواضُعِ الوقور، وساردٌ يُدرِّبُنا على سَماعِ الغُرُفِ وهي تتنفَّس، ومترجمٌ يؤمنُ بأنَّ الكلماتِ لا تعيشُ مرَّةً واحدة. ذلك كلُّه يجعلُ سيدأحمد علي بلال أكثرَ من اسمٍ في فهرس؛ يجعلُه تجربةً اعتقاديَّةً في الأدب… تجربةً تقولُ بلا تردُّد: “ما لم نُنقِذْه في اللُّغة، سيضيعُ مِنَّا في الحياة”.

ولعلَّ أجملَ ما في هذا المشروع أنَّه لا يطلبُ اعترافًا، بل يُوَلِّدُ اعترافًا مضادًّا في القارئ. أكتبُ عنه الآنَ وأشعرُ أنَّني أكتُبُ عن نفسي وعن جيلٍ بأكملِه… جيلٍ صار الخروجُ من البيتِ فيه فعلًا يوميًّا، وصارتِ العودةُ إليه فنًّا عسيرًا. لهذا أقول: كأنَّ بلالاً يكتُبُ من المكانِ الَّذي كنتُ أحلمُ به… من تلك العتبةِ الَّتي تفصِلُ بين “أنا” و”نحن”؛ بين “السِّيرةِ” و”المشهد”؛ بين “القصيدةِ” و”الممرِّ”. هناك، في المنطقةِ الرَّماديَّة الَّتي تتطلَّبُ شجاعةَ النَّظرِ، لا براعةَ القولِ، يتقدَّمُ صوتُه بهدوءٍ وثِقةٍ ومَضَاء. وهناك، أيضًا، سنُدرِكُ -إذا أصغينا بما يكفي- أنَّ الماءَ لم يكُن يومًا عنصرًا طبيعيًّا فقط، بل “لغةً ثانية” تُعلِّمُنا كيف نُمسِكُ بالعالم، وكيف يُفلِتُ مِنَّا، وكيف نُواصِلُ الكتابةَ كي لا يضيع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى