ثورة ديسمبر متطلبات التغيير وضمانات الاستقرار

د. محمد الواثق عبد الحميد الجريفاوي

( 1 )

تمثل ثورة ديسمبر لحظة فارقة في تاريخ السودان الحديث، حيث عبّرت عن تطلعات عميقة نحو الحرية والسلام والعدالة، وعن رغبة جماعية في إنهاء عقود من الاستبداد وسوء إدارة الدولة. وقد رفعت الثورة شعارات واضحة ومكثفة، شكّلت إطارًا جامعًا للحراك الشعبي، وأسهمت في إسقاط النظام وفتح أفق جديد للتحول السياسي. غير أن الانتقال من لحظة الثورة إلى مسار بناء الدولة كشف عن تعقيدات عميقة، جعلت سؤال التغيير مرتبطًا على نحو وثيق بسؤال الاستقرار.

 

( 2 )

فالتغيير الجذري الذي تنشده الثورات لا يتحقق في فراغ، بل ضمن سياق دولة بمؤسسات هشة واقتصاد منهك وتوازنات اجتماعية وسياسية معقدة. ومن ثمّ، فإن أي مقاربة للتغيير لا بد أن تراعي ضرورة الحفاظ على تماسك الدولة ومنع الانزلاق نحو الفوضى، دون أن يعني ذلك القبول بإعادة إنتاج النظام القديم أو الالتفاف على مطالب الثورة.

وفي هذا السياق، يبرز التمييز البنيوي بين منطق الثورة ومنطق الدولة. فتكتيكات العمل الثوري وشعاراته تقوم على التعبئة، والضغط، وتبسيط المطالب في صيغ قادرة على توحيد الجماهير وحشدها. وهي أدوات فعالة في مواجهة السلطة، لكنها تختلف جذريًا عن متطلبات إدارة الدولة، التي تقوم على السياسات العامة، والتخطيط، والتدرج، والتوازن بين المصالح المتعددة. إن الانتقال من الثورة إلى الدولة يستوجب تحولًا واعيًا في أدوات الفعل السياسي، من خطاب الرفض إلى خطاب البناء، ومن منطق التعبئة إلى منطق الإدارة، وهو تحول تعثّر كثيرًا في التجربة الانتقالية، وأسهم في تعميق الفجوة بين تطلعات الشارع وقدرة الدولة على الاستجابة لها.

 

( 3 )

وقد جاءت الحرب لتضاعف من تعقيد هذه المعادلة، إذ لم تعد التحديات محصورة في إدارة الانتقال السياسي، بل امتدت إلى تهديد وجود الدولة نفسها. فالحرب بما أفرزته من عنف ودمار وانهيار مؤسسات، أعادت ترتيب الأولويات، وفرضت واقعًا تتقدم فيه أسئلة البقاء، ووحدة المجتمع، ووقف النزيف الإنساني، على بقية مهام التحول الديمقراطي. وفي هذا السياق، بات من الضروري إعادة صياغة متطلبات التغيير بما يتلاءم مع واقع النزاع، من خلال الربط بين إنهاء الحرب، وبناء السلام، واستعادة الدولة، دون التفريط في جوهر شعارات الثورة.

 

( 4 )

وتتجلى خطورة المرحلة في جملة من المعطيات البنيوية، أبرزها انقسام البندقية، وفوضى السلاح، وتعدد المليشيات، وهو واقع يقوّض احتكار الدولة المشروع للقوة، ويحول الصراع من مسار سياسي إلى صراعات مسلحة متعددة الولاءات. وفي ظل هذا الوضع، يصبح الاستقرار شرطًا سابقًا لأي تغيير حقيقي، لا بوصفه نقيضًا للثورة، بل كإطار ضروري لحمايتها وتحقيق أهدافها.

 

( 5 )

كما فرضت أزمة اللجوء والنزوح تحديات إنسانية واجتماعية عميقة، إذ أدت إلى تفكك المجتمعات المحلية، وانهيار سبل العيش، وتآكل الفاعلية المجتمعية. ولم تعد قضايا التغيير مقتصرة على إصلاح النظام السياسي، بل أصبحت مرتبطة بإعادة توطين الإنسان، وضمان الكرامة المعيشية، ودمج المتضررين من الحرب في أي تصور للاستقرار وإعادة البناء.

 

( 6 )

وأفرزت الأزمة كذلك فرزًا اجتماعيًا جديدًا تجسده ثنائية الخروج أو البقاء، حيث تحوّلت الهجرة إلى خيار قسري للبقاء بالنسبة لشرائح واسعة، ما أدى إلى استنزاف رأس المال البشري، وإضعاف الكتلة الاجتماعية القادرة على الدفع باتجاه التغيير. ويطرح هذا الواقع تحديات إضافية تتعلق بالتمثيل السياسي، والهوية الوطنية، وإعادة الاندماج في مرحلة ما بعد الحرب.

 

( 7 )

ولا يمكن فصل هذه التحولات عن العامل الخارجي، إذ باتت التدخلات الإقليمية والدولية عنصرًا فاعلًا في مسار الصراع، مدفوعة بتقاطعات مصالح سياسية وأمنية واقتصادية. وقد أسهم هذا العامل في تعقيد الأزمة وإطالة أمدها، ما يجعل من استعادة القرار الوطني شرطًا أساسيًا لأي مشروع تغيير، ومن إعادة تعريف العلاقات الخارجية وفق المصلحة الوطنية ضمانة للاستقرار.

 

( 8 )

وفي مواجهة هذا الواقع المركب، تبرز مجموعة من المسارات الممكنة للخروج من الأزمة. يأتي في مقدمتها توحيد الجبهة المدنية حول شعارات الثورة بوصفها حدًا أدنى جامعًا، يُعاد تحويله من مجرد شعارات إلى برنامج سياسي واضح المعالم. كما تمثل معالجة فوضى السلاح مدخلًا لا غنى عنه، عبر مسار تدريجي يبدأ بوقف الحرب، ويمتد إلى ترتيبات أمنية انتقالية تعيد بناء المؤسسة العسكرية على أسس مهنية ووطنية.

كذلك تفرض طبيعة الأزمة تبني برنامج انتقالي طويل نسبيًا، يتيح الزمن الكافي لإعادة بناء الدولة، ومعالجة آثار الحرب، وبناء توافقات سياسية واجتماعية مستدامة، بدل التعجيل باتفاقات هشة تعيد إنتاج الأزمة. وعلى الصعيد الخارجي، تظل إعادة ترميم العلاقات الدولية، وإخراجها من منطق المحاور، عنصرًا حاسمًا في دعم الاستقرار، شريطة أن تُدار وفق رؤية وطنية مستقلة.

 

( 9 )

إن نجاح ثورة ديسمبر لا يُقاس فقط بإسقاط نظام، بل بقدرتها على الصمود أمام التعقيدات، وإعادة إنتاج نفسها كمشروع وطني طويل النفس، يوازن بين متطلبات التغيير وضمانات الاستقرار، ويؤسس لدولة عادلة وقادرة على الاستمرار.

 

 

Exit mobile version