بين الخراب والمنفى: خيمة ديسمبر لا تزال صامدة

الزين عثمان

بجرأةٍ واعية وشجاعةٍ نادرة، يضع الشاعر أزهري محمد علي الأوضاع في نصابها الصحيح، قادماً برسالته من كمبالا؛ حيث تمتد صفوف اللجوء بلا نهاية، وحيث يبدو الغناء للسلام فعلاً مقاوماً في زمن الحرب. ومن هناك، يوجّه كلماته مباشرة إلى رئيس مجلس السيادة، في سودان الحرب، وقبله سودان الانقلاب، قائلاً:

روح فوتنا روح فوتنا
فتش في نواحي الدنيا عالم غيرنا
ده العز البتقدل فوقه لحم أكتافو
فضلة خيرنا
الكاب المشنقو كابنا
والقاش البتكربو قاشنا
والبوت البتلبسو بوتنا
والنجم اللمع فوق كتفك
دقيناهو من ياقوتنا
ربيناهو من حر مالنا
قطعنالو عيشنا وقوتنا
الغرسنو كنداكاتنا
واللموه برضو شفوتنا

في العاصمة اليوغندية كمبالا، اجتمع أزهري محمد علي، وتروس، وأبوبكر سيد أحمد، ونانسي عجاج، ومئات السودانيين، ليغنوا الأغنية ذاتها؛ أغنية ما زال صداها يتردد في الآفاق، مؤكدة المؤكد: لا بد من ديسمبر، وإن طال السفر، وإن اشتد وعثاء الطريق، فالوصول حتمي إلى سودان الحرية والسلام والعدالة.

النازح اليوم في ذمة اللاجئ، والمرافعة واحدة، هي ذاتها “المرافعة” التي انطلقت قبل سبع سنوات تحت الشعار الخالد: الثورة خيار الشعب. والشعب، في جوهر مطالبه، لا يرغب في أكثر من وطنٍ رحب، لا يضيق بأحلام أهله في الحياة. ويحسم الشاعر الجدل حول الشرعية بوضوح قاطع؛ فلولا “الشفوت والكنداكات” في ديسمبر، لما صعد البرهان. مكائد وفلول تترصد: انقلاب ثم حرب، ولا تزال ديسمبر صوت الناس حين ضاقت بهم شوارع بلادهم، فحملوها معهم إلى المنافي.

كان حفل كمبالا امتداداً عضوياً لمشروع شوارع المدن السودانية، وهي تستعيد ديسمبر في يوم انطلاقتها. بدا وكأن ديسمبر تعود لتقتص من أعدائها، وبالأسلوب ذاته الذي عُرفت به، تمد لسان سخريتها من الحرب، كما كانت تفعل مع “كتائب الظل” في زمن المخلوع. فديسمبر تدرك أن من أشعلوا هذه الحرب لم يفعلوها كراهيةً في الدعم السريع، بل كراهيةً في ديسمبر: في روحها، ورمزيتها، ومشروعها القائم على المدنية والحرية والمساءلة. هم أعداء ديسمبر منذ يومها الأول، أعداء كل ما يذكّر بسيرتها، وكل شارع يستعيد صوتها، وكل ذكرى تفضح حقيقتهم. وما يؤكد ذلك حملات الاعتقال المسعورة التي أعقبت مواكب 19 ديسمبر في القضارف ودنقلا، وقبلها استخدام الغاز المسيل للدموع في أم درمان.

العداء المطلق لديسمبر يمكن متابعته مباشرة عبر كتابات من قذفت بهم إلى مزبلة التاريخ؛ إذ طالب بعض المحسوبين على نظام البشير المخلوع بمحاكمة من شاركوا في إحياء ذكرى ديسمبر، بينما نادى آخرون بإعدامهم رمياً بالرصاص. وكتب الصحفي الإسلامي عبد الماجد عبد الحميد أن السماح “للمتعاونين مع شياطين الحرية والتغيير وأبالسة التمرد السريع” بالتظاهر في مناطق سيطرة الجيش لا يمكن وضعه في خانة الروح السياسية أو السماحة في التعامل مع الرأي الآخر.

ويرى هؤلاء أن السماح لما يسمونه “ربائب المنظمات وبقايا الخراب الديسمبري” بالتظاهر في قلب الخرطوم ومدن أخرى كالقضارف، لا يمكن وصفه إلا بالصنجة والتماهي مع جلد الحية الرقطاء، وكأن ديسمبر في اشتعالها الأول كانت قد طلبت الإذن من سلطة ما.

ومن كمبالا، حيث اجتمع السودانيون على حلمهم الواحد، عاد الهتاف ذاته: ما في مليشيا بتحكم دولة، العسكر للثكنات، والجنجويد ينحل. ويكتب الصحفي السوداني وائل محجوب أن الحياة بكل تعقيداتها رجّحت كلمة ثوار ديسمبر، وهزمت أعداءها، وعززت مكانتهم ومكانة شهداء الثورة في قلوب أحرار العالم، حتى صارت ديسمبر أيقونة للشرفاء في كل مكان.

هذه الحرب لن تهزم شعبنا، لكنها ستقود إلى تحالف فريد، يحقق هزيمة ساحقة لحلفاء الضلال وبيوت الأشباح وقتلة ثوار ديسمبر. وسينهض السودان مجدداً مثل الأماني الزاهية، حتى وإن غامت الرؤية عند كثيرين. فبحسب وائل وآخرين، ستظل ديسمبر، طال الزمن أو قصر، راجحة الكفة، عصية على الهزيمة.

لا تزال ديسمبر تخطو في شوارع السودان. ويصفها خالد عمر يوسف، نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني والقيادي في تحالف “صمود”، بقوله: كم هي عميقة ديسمبر؛ لم تتزحزح شبراً من نفوس الناس وعقولهم. اخترقوها من الداخل، فغربلتهم وميّزت الخبيث من الطيب. انقلبوا عليها، فخرجت من كل فج عميق لتكتب في سجل الانقلابات أن 25 أكتوبر هو أفشلها بلا منازع. أشعلوا حرباً ضروساً، وحين ظنوا أنها قضت عليها، خرجت كالعنقاء في كل مكان، مؤكدة أن السودان لن يعود مرة أخرى لعصور الاستبداد.

هتافات الشوارع في سودان تمزقه الحرب، والرقصات التي حاولت لملمة شتات الجميع في كمبالا، في الفعالية التي أقامتها قوى مدنية مناهضة للحرب، إلى جانب مشهد التحولات في عموم السودان سلماً وحرباً، كلها تؤكد حقيقة واحدة: أن ديسمبر، الثورة، ما تزال المحرك الأساسي للتفاعلات في المشهد السوداني، سواء عبر المواقف الداعمة لها أو حتى مواقف المناوئين والرافضين لشرعيتها.

منذ انتصارها بإزاحة عمر البشير ونظامه الدموي، ظلت ديسمبر أداة الاستقطاب الرئيسية في البلاد؛ ينقسم الناس وفق مواقفهم منها. ولم يترك أعداؤها وسيلة إلا وجربوها للنيل منها، حتى أنهم رأوا في مواكب 13 ديسمبر، الساعية لتفويض الجيش، مقابلاً موضوعياً لها وآخر سطر يمكن أن يُكتب في كراستها. والمفارقة اللافتة أن حتى من يريدون النيل منها يفعلون ذلك بسلاحها ذاته: المواكب. وهي مفارقة تتقاطع مع حقيقة أن المنقلبين عليها أجهدوا أنفسهم في محاولة الاستحواذ على شرعيتها، إلى الحد الذي جعل قوات الدعم السريع تزعم أن حربها إنما تُخاض من أجل إنجاز التحول الديمقراطي ونصرة مشروع ديسمبر.

سحب التضليل والأكاذيب وخطابات الكراهية، ومحاولات الكذبة واللصوص من صفوف الحركة الإسلامية وجنجويدهم، لن تحجب أنوار ثورة ديسمبر الساطعة، ولن تفتح الطريق لعودة رموز النظام البائد، مهما تلحفوا بادعاءات حماية أهل السودان سعياً لمقاعد السلطة. فقد قال أهل السودان كلمتهم، وقُضي الأمر الذي فيه تستفتيان؛ جفت الأقلام وطويت الصحف.

بينما ظلت صفحة ديسمبر مفتوحة على مصراعيها، في انتظار مواصلة الكتابة، امتداداً للهتاف ذاته الذي ارتج له هدوء كمبالا: ثوار أحرار وح نكمل المشوار. قبل أن تصرخ ديسمبرية، ملء صوتها، بترانيم أزهري محمد علي:

تيراب الخليقة أصلنا
ما بتقدر تقصو فرعنا
الصوت اللي بنشهرو سيفنا
والترس النصبنا درعنا
واتحداك داك شارع الله
قوم طالعنا
والزارعنا غير الله
اللي يجي يقلعنا

وكأنها بذلك تؤكد الحقيقة الثابتة: ما تزال خيمة ديسمبر راسخة في مكانها، وما يزال الحلم مستمراً سودان الحرية، السلام، والعدالة

 

Exit mobile version