سودانان يتشكلان في وطن واحد حين يصبح البناء الموازي اختبار الدولة الأخير

حاتم أيوب أبو الحسن

حاتم ايوب ابوالحسن

لم يعد ما يجري في السودان مجرد صراع على السلطة أو تنازع على الشرعية، بل تحوّل إلى لحظة تأسيسية معكوسة، تُبنى فيها الدولة من مسارين متوازيين داخل الجغرافيا نفسها. فبين معسكر التأسيس ومعسكر بورتسودان، لا يتنافس الفاعلون على الحكم فحسب، بل يعيد كل طرف تعريف معنى الدولة، ومن يمتلك حق تمثيلها، وكيف تُدار القوة والاقتصاد والسياسة. هنا يتقدّم مفهوم البناء الموازي من كونه توصيفًا عابرًا إلى كونه واقعًا يتشكل يومًا بعد يوم، واقع يوحي بأن السودان يقف على حافة التحول إلى سودانين داخل وطن واحد.

 

الخطير في هذه اللحظة أن الانقسام لم يعد فوقيًّا أو سياسيًا محضًا، بل تسلل إلى قلب المؤسسات. ففي المجال العسكري، لم يعد السلاح أداة سيادة وطنية جامعة، بل لغة سياسية قائمة بذاتها. تعددت البنادق، وتباينت العقائد، وتناقضت تعريفات العدو والوطن، فتحول الجيش من رمز للوحدة إلى مرآة للانقسام. كل معسكر يدّعي حماية الدولة، لكن الدولة نفسها باتت فكرة متنازعًا عليها، لا كيانًا متفقًا عليه. ومع كل يوم يمر، تتعمق المسافة بين مفهوم الجيش الوطني وإمكانية استعادته، ليصبح توحيد القوة لاحقًا مسألة سياسية وجودية لا مجرد إجراء أمني.

 

سياسيًا، يعيش السودان حالة ازدواج شرعية صامتة. سلطة تستند إلى الاعتراف الخارجي وبقايا مؤسسات الدولة القديمة، لكنها تفتقد السيطرة الكاملة والقدرة على الإقناع الداخلي. وفي المقابل، قوى تملك النفوذ الفعلي على الأرض، وتطرح خطاب إعادة التأسيس، لكنها لم تنجح بعد في التحول إلى دولة قابلة للحياة. هذا التناقض خلق فراغًا خطيرًا: دولة بلا سياسة تمثل مجتمعها، وسياسة بلا دولة تضبط صراعها. في هذا الفراغ، تصعد اللغة التعبوية، ويُستبدل التنافس بالإقصاء، ويصبح الخلاف السياسي معركة وجود لا مساحة فيها للتسويات.

 

أما الاقتصاد، فيكشف الوجه الأعمق للبناء الموازي. فالسودان لم يعد يعيش اقتصادًا منهارًا فقط، بل اقتصادين منفصلين. اقتصاد رسمي يتآكل تحت وطأة العزلة وانهيار العملة وشلل المؤسسات، واقتصاد موازٍ تديره شبكات الحرب والموارد السريعة والجبايات، يعمل خارج أي رقابة أو عقد اجتماعي. هذا الانقسام لا يمزق السوق الوطنية فحسب، بل يعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية نفسها، حيث تُربط فرص الحياة والنجاة بالانتماء لمناطق نفوذ بعينها، لا بحقوق المواطنة. وهنا يصبح الاقتصاد أداة تقسيم ناعمة، أكثر فاعلية من السلاح.

 

وسط هذا المشهد، يطرح أنصار البناء الموازي سؤال التوازن: هل يمكن لهذا الواقع أن ينتج تنافسًا حرًا يعكس التنوع السوداني، ويمهّد لقطيعة مع دولة الأمس دون تمزيق الوطن؟ التجربة الإنسانية تقول إن ذلك ممكن، لكنه نادر، ومشروط بقدرة الفاعلين على تحويل الصراع من معركة كسر عظم إلى إدارة اختلاف. فالتوازن لا يُولد من تعدد القوى وحده، بل من وجود إطار جامع يعترف بالآخر ويحد من شهوة الإلغاء.

 

السودان اليوم لا يفتقر إلى القوى، بل يفتقر إلى الشجاعة السياسية. الشجاعة التي تعترف بأن لا معسكر قادر على ابتلاع الآخر، ولا مشروع قادر على الحياة دون تسوية تاريخية تعيد تعريف الدولة على أسس جديدة. النجاح، كما تُظهر تجارب الأمم، لا يأتي في لحظات الاستقرار الطويلة، بل في لحظات قصيرة وحاسمة، حين يُهزم الخوف من التغيير، ويُستبدل وهم الحسم بنزعة التعايش.

 

يبقى السؤال معلقًا: هل يتحول البناء الموازي إلى جسر نحو دولة جديدة تتسع لتعددها وتدير تنافسها داخل وطن واحد، أم يصبح مقدمة لانقسام دائم تُدار فيه البلاد كسودانين متجاورين بلا أفق جامع؟ في هذه اللحظة، لا يكمن الخطر الأكبر في الفشل وحده، بل في الاستمرار طويلًا داخل المنطقة الرمادية، حيث يتآكل الوطن ببطء، وتُؤجل مواجهة السؤال الجوهري: أي دولة يريدها السودانيون، ومن أجل من؟

كاتب سوداني

 

 

Exit mobile version