ديسمبر تفزعهم.. لذلك يصرخون ويشتمون

حيدر المكاشفي
هلت علينا يوم الجمعة الماضي الذكرى السابعة لثورة ديسمبر المجيدة، ولم ولن تكون ذكرى ديسمبر مجرد مناسبة عابرة في تقويم الذاكرة الوطنية، بل ستظل كما في كل مرة اختباراً فاضحاً لاعدائها وكارهيها، وكشفاً جديداً لهشاشة خطابهم وارتباكهم المزمن أمام حقيقة واحدة لم يستطيعوا ابتلاعها، وهي أن ديسمبر لم تمت، ولن تموت، فقد خرج السودانيون يحتفلون بثورتهم داخل السودان في عدد من المدن والانحاء رغم الحرب ورغم الخراب ورغم الخوف، وللاسف خرجت معهم كالمعتاد أدوات القمع القديمة ذاتها، شرطة تواجه الهتاف بالعصي والغاز والاعتقالات، وسلطة ترى في الارجوزة جريمة والهتاف جناية، وفي الشعار خطراً وجودياً. كما انبرى أنصار النظام البائد من بقايا الفلول والكيزان مسعري الحرب، لشتم الثوار والتحريض ضدهم، ليس لأن الثوار أخطأوا، بل لأنهم تجرأوا على التذكير بالثورة التي تقض مضجعهم، فقد خرج السودانيون يحتفلون بثورتهم داخل السودان في عدد من المدن والانحاء رغم الحرب ورغم الخراب ورغم الخوف، وللاسف خرجت معهم كالمعتاد أدوات القمع القديمة ذاتها، شرطة تواجه الهتاف بالعصي والغاز والاعتقالات، وسلطة ترى في الارجوزة جريمة والهتاف جناية، وفي الشعار خطراً وجودياً. كما انبرى أنصار النظام البائد من بقايا الفلول والكيزان مسعري الحرب، وجوقة الشتم والتحريض من بقايا نظام سقط سياسياً ونفسياً واخلاقياً، نظام ما زال يعيش صدمة الهزيمة، ويتغذى على الكراهية، ويكتب خطابه السياسي من قاموس الهمباتة والعنقالة والفاتيات في الردحي والسباب لشتم الثوار والتحريض ضدهم، يصفقون للهراوات، ويهللون للغاز، ويطالبون بالمزيد من القمع، ليس لأن الثوار أخطأوا، بل لأنهم تجرأوا على التذكير بالثورة التي تقض مضجعهم. إن هؤلاء الذين يهاجمون ديسمبر اليوم، هم أنفسهم الذين خافوا منها بالأمس ثم حاولوا دفنها بانقلاب اكتوبر 2021 ولما فشلوا، حاولوا اخيرا إحراقها بالحرب. إنهم لا يكرهون الثوار لأنهم فوضويون كما يدعون، بل لأن الثوار كشفوا زيف (دولتهم الرسالية) وفضحوا كذبة (المشروع الحضاري) أو الاحرى الاستهبالي، وأسقطوا قداسة السلطة الغاشمة من فوق عرشها الوهمي. وخطاب الشتم والتحريض الذي ولغوا فيه ضد ثوار ديسمبر لم يكن رأياً سياسياً، بل هو امتداد مباشر للحرب، وسلاح آخر من أسلحتها. هو محاولة دنيئة لإعادة تعريف الجلاد كضحية، والضحية كخائن، والثورة كجريمة. هو خطاب العاجز الذي لم ينتصر في السياسة، ولا في الشارع، ولا في التاريخ، فاختار أن ينتقم بالكلمات، بعدما فشل في إسكات الهتاف. وأكثر ما يفضح هؤلاء أنهم لا يوجهون سهامهم نحو أسباب الحرب الحقيقية، ولا نحو من أشعلها، بل نحو القوى المدنية، ونحو ديسمبر تحديداً. ذلك لأنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أن هذه الحرب، مهما لبست من شعارات مخاتلة، إنما استهدفت في جوهرها القضاء على حلم الدولة المدنية الديمقراطية، وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الثورة، ولو على جماجم الناس والمدن والقرى. وأن هذه الحرب موجهة بالأساس لمحاربة القوى المدنية والسياسية الداعية للحكم المدني الديمقراطي، وليس مليشيا الدعم السريع كما يتوهم بعض (المخمومين) والغشيمين، المنساقين كالقطيع بلا وعي ولا تدبر ولا تفكر خلف مزاعم الكيزان والفلول مشعلي الحرب، ومن عجب فما من حديث مكتوب أو ملفوظ يصدر من هؤلاء إلا وتجده موجها بالأساس لسب وشتم وشيطنة القوى المدنية والديمقراطية، وليس ضد الدعم السريع الذي أعلنوا صراحة وتلميحاً أن لا مشكلة لديهم معه ويمكن أن يتصالحوا ويتحالفوا معه إن عاد كسابق عهده إلى موالاتهم وحمايتهم، ثم أن هؤلاء البلابسة المدلسين يظنون واهمين أن حربهم هذه ستقضي على الثورة بكل أهدافها وعلى الثوار بكل شعاراتهم وهتافاتهم، ولكن هيهات فجذوة الثورة ستبقى مشتعلة ومتوهجة ولن يخمدها رماد حربهم القذرة، فهم يخطئون أو يتوهمون أن القمع كفيل بإخراس الذاكرة، وأن الشتائم تصنع شرعية، وأن العنف يعيدهم إلى الحكم. يظنون أن منع احتفال، أو تفريق موكب أو سب ثائر، يمكن أن يمحو حقيقة راسخة هي أن ديسمبر لم تكن لحظة غضب، بل وعياً جمعياً، وأن الوعي لا يقمع، بل يتراكم. أما أولئك الذين يهددون الثوار بأنهم لن يهتفوا (مدنيااااا) إن عادوا، فنقول لهم الهتاف لا يسكن الحناجر فقط، بل يسكن العقول، والقلوب، والذاكرة. و(مدنياااا) لم تعد مجرد شعار، بل صارت معيارا أخلاقيا يفصل بين من يريد دولة، ومن يريد غنيمة. وديسمبر لا تحتاج لمن يدافع عنها، لأنها تدافع عن نفسها بنفسها، في كل مرة يخرج فيها شاب أو شابة، عزل إلا من إيمانهم، ليقولوا لا. لكنها في المقابل تفضح أعداءها بلا رحمة، تفضح جبنهم، وحقدهم، وخوفهم من شعب لم يعد يقبل أن يحكم بالعصا، أو بالخديعة، أو ان يتم استكراده باسم الدين. الأكثر إثارة للسخرية أن هؤلاء الذين يدعون الدفاع عن الدولة، بينما لا يرون فيها سوى جهاز قمع. الدولة عندهم ليست قانونا ولا مؤسسات ولا عدالة، بل شرطي قامع، وبندقية منفلتة، ومنبر شتائم. وحين تذكرهم ديسمبر بأن الدولة يمكن أن تكون شيئا آخر، يصابون بالهلع فيشتمون. يشتمون لأنهم يعرفون الحقيقة التي يحاولون إنكارها أن هذه الحرب، التي نفخوا كيرها وباركوا نارها، لم تكن يوما من أجل السيادة ولا الكرامة، بل كانت محاولة يائسة لإجهاض ثورة لم يستطيعوا هزيمتها سياسيا. ولأنهم فشلوا في قتل ديسمبر بالانقلاب، حاولوا دفنها تحت ركام الحرب، وحين فشلوا أيضا، لم يبق لهم سوى الشتيمة. يهددون الثوار لانهم يتوهمون أن الهتاف يُمنع بالقرار، وأن الوعي يُقمع بالرصاص. لم يتعلموا شيئا، ولم ينسوا شيئا، لأن الهزيمة لم تتحول لديهم إلى مراجعة، بل إلى حقد. من يشتم ديسمبر وثوارها اليوم، لا يدافع عن وطن، بل يدافع عن امتيازات ضائعة. ومن يحرض ضد الثوار، لا يخاف على الأمن، بل يخاف من الحرية. ومن يبرر قمع الاحتفال، إنما يعلن دون أن يدري عجزه عن مواجهة الفكرة فيلجأ إلى العصا. وديسمبر لا تحتاج لمن يثبت شرعيتها، شرعيتها مكتوبة في الشوارع، وفي دماء الشهداء، وفي ذاكرة شعب جرب حكمهم فعرف الفرق. أما هم فسيظلون يدورون في حلقة الشتم ذاتها، كلما مرت ذكرى، وكلما خرج هتاف، وكلما تذكر الناس أن هذا البلد يستحق أفضل من جلاديه. وفي ذكراها السابعة، تبدو الحقيقة أكثر وضوحا من أي وقت مضى، ديسمبر لم تعد حدثا بل صارت كابوسهم الدائم. ولهذا كلما ضاق بهم الخوف اتسع قاموس الشتائم. فديسمبر تخيفهم.. ولهذا يصرخون..





