
لواء شرطة (م) د. عصام الدين عباس احمد
الإطار التحليلي: أين نحن، وماذا نريد؟
يوصف المشهد الأمني والعسكري في السودان بالواقع المأزوم حيث التشظي البنيوي، وتضارب مراكز القوة، وتراجع الاحترافية، مع غياب الشفافية وتعدد الجيوش وضعف الثقة المجتمعية وانعدام التنسيق المؤسسي. هذا الراهن، الذي يمثّل نقطة الانطلاق في الدراسة، لا يُقرأ بوصفه توصيفًا للأزمة فحسب، بل كمنصة تأسيس ضرورية لفهم ما يجب تغييره وما يجب أن يُبنى من جديد. أمام هذا الواقع تقف الرؤية المستقبلية كأفق طموح تتطلع إليه نظرية التغيير، حيث تُستعاد سلطة الدولة، وتُبنى قوات مهنية وموحدة تخضع للقانون وتكسب ثقة المواطنين من خلال الشفافية والمساءلة والتكامل المؤسساتي. أما الطريق الرابط بين الحاضر المأزوم والمستقبل المرتجى فيمر عبر إصلاح مؤسسي جذري، وتطوير سياسات وإجراءات رقابية واضحة، وبناء قدرات مهنية متقدمة، وإعادة دمج أو تفكيك القوات غير النظامية، وتعزيز الثقة المجتمعية كشريك لا متلقٍ فقط للقرار الأمني. بذلك يشكّل هذا الإطار التحليلي خارطة إنتقال واعية بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، متدرّجًا من تشخيص الأزمة إلى رسم مسار عملي للعبور نحو قطاع أمني حديث قادر على حماية الدولة والمجتمع وضمان سلام مستدام.
الواقع المأزوم: نقطة الانطلاق لبناء قطاع أمني حديث
تعاني المؤسسة الأمنية والعسكرية في السودان من التشظي وضعف كفاءة واحترافية أجهزتها، مع نقص في الشفافية والمساءلة، وانتشار القوات غير النظامية، مما يؤدي إلى إنخفاض الثقة العامة ويحد من قدرة الدولة على حماية المواطنين والحفاظ على الأمن والاستقرار.
ضعف الاحترافية
لا جدال إن قضية ضعف الكفاءة والاحترافية هي إحدى أكثر الإشكالات عمقاً وتأثيراً. فالأجهزة الأمنية والعسكرية تعاني من اختلالات بنيوية في منظومات التدريب والتأهيل، وافتقار للمعايير المهنية الموحدة التي تضمن الانضباط، وتراتبية اتخاذ القرار، والتحلي باخلاقيات المهنة. لقد أسهمت عقود من التسييس، وغياب نظم الاختيار المبنية على الكفاءة، واعتماد الولاءات الضيقة بدلاً عن المعايير المهنية، في إضعاف القدرات المؤسسية وتآكل الخبرة الفعلية اللازمة لإدارة الأمن والدفاع بجدارة. انعكس ذلك بشكل واضح في سوء التخطيط العملياتي، تعدد مراكز القرار، ضعف منظومة المعلومات والاستخبارات، واتساع الفجوة بين الأجهزة الرسمية والمجتمعات المحلية التي يفترض بها أن تحميها. ونتيجة لذلك، أصبح القطاع الأمني عاجزًا عن أداء مهامه الأساسية في حفظ الاستقرار، وتوفير حماية فعالة للمدنيين، والاستجابة الاستراتيجية للمهددات الأمنية المعقدة التي تواجه البلاد.
انعدام الشفافية والمساءلة
إلى جانب ضعف الكفاءة والاحترافية، يشكّل انعدام الشفافية والمساءلة أحد أكثر مظاهر الخلل رسوخًا في القطاع الأمني والعسكري السوداني. فالمؤسسات الأمنية تعمل غالبًا ضمن نطاق مغلق ومحصّن من الرقابة المدنية، ما يجعل اعمالها، قراراتها، وميزانياتها بعيدة عن متناول التدقيق العام. هذا الغياب للمساءلة أتاح مساحة واسعة لارتكاب التجاوزات والانتهاكات دون رادع، وأسّس لثقافة الإفلات من العقاب داخل هياكل القوة. كما أن تضارب المصالح، والتداخل بين العمل العسكري والسياسي والاقتصادي، خلق بيئة يتغذى فيها الفساد والمحسوبية، وتنهار فيها ثقة المواطنين بالمؤسسة الأمنية. إن انعدام الشفافية والمساءلة لا يضعف فقط قدرة الدولة على إدارة أمنها باستدامة، بل يشكّل عقبة مركزية أمام أي مسار إصلاحي يسعى لبناء قطاع أمن ودفاع مهني وخاضع لسلطة القانون.
تغلغل الإسلاميين في المؤسسة العسكرية وتحويلها إلى أداة للتمكين السياسي
منذ انقلاب 1989 وحتى انفجار الحرب الأخيرة، شهدت المؤسسة العسكرية السودانية اختراقًا واسعًا من قبل الحركة الإسلامية التي أعادت هيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وفق مشروع تمكين حزبي لا وطني. وقد تمت عملية الاختراق عبر ثلاثة مسارات رئيسية:
اسناد المناصب القيادية داخل الجيش والشرطة والاستخبارات على أساس الولاء الأيديولوجي،
إنشاء قوة موازية غير خاضعة للتراتبية العسكرية التقليدية (مثل الدفاع الشعبي و الدعم السريع)،
أسلمة العقيدة العسكرية وربطها بالمشروع السياسي للحركة وليس بمفهوم الدولة الوطنية.
هذا التغلغل أدى إلى تسييس القرار العسكري وإضعاف الحرفية، كما أنتج جيشًا منقسمًا داخليًا بين مخلصين للمشروع الحزبي وآخرين للمؤسسة المهنية. ومع الوقت، ظهرت أذرع قتالية وأمنية تتبع لدوائر حزبية واقتصادية لا للدولة، مما مهّد الطريق لاحقًا لوجود جيوش متوازية وميليشيات عقائدية واقتصادية. وبفعل هذا التمكين الطويل، تراجعت المعايير المهنية في الترقية والاختيار، وتحوّل الجيش إلى مجال نفوذ سياسي واقتصادي مغلق، مرتبط بشبكات تمويل خارجية وباقتصادات حرب داخلية عززت قدرته على الاستقلال عن الدولة لا الاندماج فيها.
إن أثر التغلغل الإسلاموي لا يتمثل فقط في الماضي، بل إن بقايا شبكات الولاء داخل المؤسسة لا تزال حاضرة في مشهد الصراع. ولذا فإن أي إصلاح بنيوي للقطاع الأمني لا يمكن أن ينجح دون تفكيك إرث التمكين الحزبي، وتحويل الولاء داخل الجيش من الولاء العقائدي إلى الولاء الوطني، عبر إصلاح جذري يمس العقيدة العسكرية، نظم التعيين، الترقيات، التدريب، والرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية.
تعدد الجيوش والمليشيات
في السودان يتجلى الخلل الأمني في تعدد الجيوش والمليشيات المسلحة، حيث لم يعد السلاح مقصورًا على مؤسسة عسكرية واحدة ذات قيادة موحدة، بل تمدد عبر طيف متنوع من التشكيلات النظامية وشبه النظامية وغير النظامية. فإلى جانب الجيش الرسمي برزت قوات موازية تمتلك شرعية قانونية أو شرعية الأمر الواقع، كما نمت فصائل مسلحة مرتبطة بمرجعيات سياسية أو قبلية أو اقتصادية، وتجاورت معها مجموعات مسلحة تعمل خارج منظومة الدولة كليا في شكل ميليشيات محلية تسيطر على الموارد وتتحكم في الممرات. هذا التعدد خلق بيئة أمنية مفككة ومتناحرة أكثر من كونها مؤسسات وطنية منسجمة، حيث باتت القوة موزعة بين جيوش موازية وكتائب خاصة وميليشيات مناطقية. ومع غياب عقيدة عسكرية موحدة، وتباين مستويات التدريب والانضباط، أصبحت سلاسل التحكم والقيادة افقية لا راسية، وازدادت المنافسة على الشرعية والموارد، وصولًا إلى صدام مباشر بين القوات التي يُفترض أن تحمي الدولة ذاتها. وتبعا لذلك تراجعت قدرة الحكومة على احتكار استخدام القوة، وتوسع نفوذ العنف كأداة سياسية واجتماعية، ما أضعف سيادة القانون، وفتح المجال لانشطة غير مشروعة، محولا العنف من تهديد يجب إيقافه إلى وسيلة استدامة وبقاء. بهذه الصورة يصبح أمن البلاد مرتهنًا لتعدد البنادق لا لوحدة القرار الوطني.
اقتصاد الحرب والنشاط المشبوه
شهد مطلع الالفينات انفلات واضح في الوضع الأمني في دارفور مصحوبا بتخلق ونشوء حركات مسلحة امتهنت الاتجار غير المشروع والتهريب والنهب كوسائل لتوفير الدعم اللوجستي لانشتطتها. في المقابل، سمحت حكومة الإسلاميين ببمؤسسة العسكرية والأمنية بالتوسع في أنشطة اقتصادية متعددة مما قاد لتنامي واذدهار الاقتصادي الموازي لاقتصاد الدولة الرسمي. تحولت المؤسسات المسلحة – الرسمية وغير الرسمية – من أجهزة يفترض أن وظيفتها حماية الدولة والمواطن، إلى فاعلين اقتصاديين يمتلكون شبكات مصالح مستقلة ترتبط بالتعدين، التهريب الحدودي، الرسوم غير القانونية، وحركة الموارد الإستراتيجية كالذهب والوقود. وبدل أن يكون السلاح أداة لفرض القانون، أصبح ضمانة لديمومة الريع والعوائد الاقتصادية، مما خلق تشوّها في بنية القرار العسكري، إذ بات الاستمرار في الحرب أكثر ربحية من نهايتها.
هذا الاقتصاد الموازي ولّد بيئة أمنية مشوهة، تدفع الفصائل المسلحة نحو التوسع لا الاندماج، وتغريها بالاحتفاظ بالقوة المسلحة كأصل استثماري لا كتكليف دستوري. ومع تعدد الجيوش وتفكك سلطة الدولة، أصبحت القوة تضمن الوصول للموارد لا عبر القانون، بل عبر السيطرة على الأرض والممرات، ما جعل العنف وسيلة للمنافسة الاقتصادية، ورسّخ ثقافة الإفلات من العقاب.
ضعف الثقة المجتمعية
تواجه المؤسسات الأمنية والعسكرية ثقة محدودة من معظم المجتمع المدني السوداني. فقد تراكمت على مدى سنوات طويلة تجارب من الانتهاكات، والتسييس، وتغليب المصالح الفئوية على الصالح العام، مما ولّد فجوة عميقة بين المجتمع ومؤسسات يفترض أن تكون حامية له لا خصمًا أمامه. ضعف الشفافية وغياب آليات المساءلة، إلى جانب سجل من التعامل العنيف مع الاحتجاجات والمطالب الشعبية، جعل قطاعات واسعة من المواطنين تنظر إلى الأجهزة الأمنية بعين الريبة والخوف لا بعين الثقة والاطمئنان. كما ساهم انعدام التمثيل العادل داخل هذه المؤسسات، وغياب قنوات تواصل مستدامة مع المجتمع المدني، في تعميق هذا الشرخ وتقويض إمكانية الشراكة في بناء الأمن. ونتيجة لذلك، تراجع التعاون المجتمعي في الإبلاغ، وتضاءلت فرص تحقيق تسويات سلمية للنزاعات المحلية، وتقلّص الدعم الشعبي لأي جهود إصلاحية.
غياب التنسيق المؤسسي
يمثّل ضعف التنسيق بين الأجهزة الأمنية المختلفة وبين القوات العسكرية والمدنية تحديًا بنيويًا يعرقل فعالية منظومة الأمن والدفاع في السودان. فغياب آليات واضحة لمشاركة المعلومات وصناعة القرار المشترك يخلق ثغرات واسعة في الاستجابة للمهددات الأمنية، ويؤدي إلى تكرار الجهود أو تعارضها، بل وإلى تدخلات متوازية تُربك الجهاز التنفيذي بدل أن تعززه. وفي كثير من الأحيان تعمل القوات النظامية والأجهزة الشرطية والاستخباراتية وفق منظومات منفصلة، لكل منها قنوات قيادة مستقلة وأولويات عملياتية خاصة، مما يقلل من القدرة على التخطيط الاستراتيجي المتكامل، ويضعف سرعة وكفاءة الاستجابة للطوارئ. كما يساهم التنافس المؤسسي، وتضارب الصلاحيات، وغياب مركز موحد للقيادة والسيطرة، في إطالة أمد النزاعات المحلية، وتوسيع دائرة المخاطر التي يمكن احتواؤها لو توفّر تنسيق فعّال. أما العلاقة بين الأمنيين والعسكريين من جهة، والسلطات المدنية من جهة أخرى، فهي غالبًا مضطربة وتفتقر لآليات واضحة للرقابة والتعاون، مما يعيق بناء سياسات أمنية شاملة تستجيب لأولويات المجتمع والدولة معًا.