15 أبريل حرب تصفية الثورة و قواها الحية  

محمد جادالسيد  

لم تعد حرب 15 أبريل في السودان بحاجة إلى كثير من التوضيح ، فكل يوم يمر يَكشف بوضوح أنها لم تُخض دفاعًا عن الوطن ومؤسسات الدولة ، ولا حمايةً للسيادة، ولا انتصارًا للديمقراطية، بل لتحقيق مصالح قادة الحرب وحلفائهم المدنيين والعسكريين من خلفهم . ومنذ اندلاعها حاول أطرافها الاحتماء بسيل من الشعارات المتناقضة مع حقيقتها فتارة تُقدَّم باسم حرب  “الكرامة” و“حرب الوجود” و“ردع التمرد” ” صد العدوان ”  من جهة ، و تُسوَّق تحت لافتات “الديمقراطية” و“محاربة الإرهاب” من جهة أخرى . غير أن الواقع على الأرض، بما يحمله من معاناة وقتل وتشريد ودمار شامل، يفضح زيف هذه السرديات، ويعرّي حقيقة الحرب وأهدافها الفعلية. فما أفرزته الحرب من نتائج، وما خلّفته من آثار كارثية على حياة المدنيين، يؤكد أنها حرب بلا مضمون وطني ولا تمتلك مشروعية سياسية واستمرارها واتساعها مرتبط بـ الاختلالات العميقة في بنية الدولة و تراكمها منذ الاستقلال  على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، ذلك بالإضافة للتدخلات الخارجية التي  أسهمت في تعقيد المشهد وتحويل الصراع إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم اليوم.

 حرب 15 أبريل لم تكن صراعًا عسكريًا معزولًا بين قوتين تتنازعان على السلطة أو الموارد، بل جاءت كتتويج لمسار طويل استهدف ثورة ديسمبر المجيدة منذ أيامها الأولى .ورغم اختلاف أجندات أطراف الحرب وداعميهم المحليين و الإقليميين، إلا أن جوهر هذه الحرب يكشف عن  هدف اجتهد مشعلي الحرب بكل قوتهم لتحقيقه  ، و هو تصفية المشروع المدني الديمقراطي الذي حملته الثورة، وكسر قواها الحية و إقصائها نهائيًا من المشهد السياسي . في هذا السياق تجد ان معسكر الحرب يشمل أطرافًا تختلف في صراعاتها و مصالحها لكنها تلتقي موضوعيًا في عدائها للمشروع المدني.لذلك أصبحت القوى المدنية التي تدعو لوقف الحرب وعودة الحكم المدني، وتحقيق العدالة، وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة هي المستهدف الرئيسي من هذه الحرب.هذا يبين ان هذه الحرب الضروس التي تخاض اليوم هي الامتداد الطبيعي لانقلاب 25 أكتوبر 2021،و محطته الأخيرة و الأكثر عنفًا في مسار استهدف وتصفية ثورة ديسمبر المجيدة. وما يجري اليوم هو إنتقال مشروع الانقلاب من أدوات التعطيل السياسي إلى أدوات الحرب الشاملة، بعد فشله في كسر الإرادة الشعبية الساعية للتغيير  .

بدأ هذا الاستهداف للثورة في مهدها ” فض الاعتصام ” وبعد ذلك في بواكير الفترة الانتقالية،عمل الجانب العسكري ومن خلفه الحركة الإسلامية على إجهاض التحول المدني ، بمحاولات انقلابية فاشلة متعددة  ، وجرى استهداف وحدة القوى المدنية وإضعاف دورها في الإنتقال . تركز الهجوم على الشخصيات والكيانات السياسية الحزبية في البداية و تمت الدعوة لتعزيز دور الكفاءات الوطنية ” التكنوقراط ” في مواقع السلطة التنفيذية في محاولة لإثارة الفتنة بين مكونات الثورة و تعزيز المنافسة بينهم ، بعد ذلك أنتقل الهجوم و الإستهداف للجنة تفكيك التمكين باعتبارها أحد أهم ركائز الثورة المهمة في عملية استعادة مؤسسات الدولة و أيضاً واحدة من عوامل الوحدة و التماسك للقوى المدنية ، ثم انتقل الصراع بين القوى الحزبية نفسها عبر طرائق متعددة ، لاحقاً بدأ خنق الحكومة الانتقالية اقتصادياً وإفراغ الحكومة المدنية من صلاحياتها و تحميلها المسؤولية في نفس الوقت، ثم صناعة تشكيلات مدنية موازية للحرية و التغيير تمهيداً للإنقلاب ؛ وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل دور الحركات المسلحة التي ساهمت في إجهاض الانتقال عبر التحالف مع العسكريين ، ثم وجدوا انفسهم لاحقًا جزءًا من مشهد الاستقطاب والحرب ولم يستطيعوا التحرر و الفكاك منه ، هذا الدور عمّق فقدان الثقة داخل المعسكر المدني ، باعتبار أنهم كانوا  جزءا من قوى الحرية والتغيير في ذلك الوقت . أيضاً جرت عمليات تضليل و إضعاف و تقسيم للشارع الثوري و لجان المقاومة باعتبارها أكبر قاعدة شعبية فاعلة داعمة للثورة في ذلك الوقت ، لتوسعة الهوة بينهم و بين الحكومة المدنية الانتقالية و منعهم من دعمها و توفير الحماية لها . وتم استخدام  أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية لشلّ أي إمكانية لبناء سلطة مدنية حقيقية .

تُوجت هذه العمليات المتتالية بإنقلاب 25 أكتوبر الذي أدى لتعطيل مؤسسات الانتقال. لم يكتفِ تحالف الانقلاب بقمع المواكب وقتل المتظاهرين، بل سعى لتفكيك أدوات الفعل المدني نفسها، جرت محاولات متعمدة لجرّ الاحتجاجات نحو العنف، عبر عناصر تتبع الأجهزة الأمنية ، لتبرير القمع وتحويل الصراع من صراع ذو طبيعة سياسية إلى أمنية لتجفيف أي مساحة مدنية مستقلة . ضُربت أسافين الفرقة بين القوى المدنية و أجتهد العسكريين في تعزيزها . حُملت القوى المدنية كل الاخفاقات بما فيها فشل الانقلاب نفسه ، تم العمل على تعزيز الفرقة بين مكونات الثورة و مضايقه و مهاجمة أي جهة تدعوا للوحدة  ، وتم توفير كل المعينات و المساعدات للجماعات المتطرفة سياسيا داخل معسكر الثورة و خارجة و تم دعمها إعلامياً و مادياً . 

وعندما فشل الانقلاب في فرض واقع جديد، انتبهت قوى الثورة وحاولت القوى المدنية تحقيق أهداف الثورة عن طريق عملية سياسية تفاوضية تمنع الحرب التي باتت تلوح في الأفق بين مكونات الانقلاب، إلا أن مساعيها تبددت مع اندلاع الحرب في 15 أبريل .

لعب الإسلاميون، عبر واجهاتهم السياسية والإعلامية، وتغلغلهم  العميق داخل جهاز الدولة و خصوصاً المؤسسات العسكرية والأمنية، دورًا محوريًا في  الهجوم على القوى المدنية و انخرطوا فيه بكلياتهم عبر التخطيط ، التنظيم ، الدعوة وحشد المناصرين له . فهم لم يغادروا المشهد بعد سقوط البشير، بل أعادوا تنظيم أنفسهم داخل أجهزة الدولة، و استثمروا في تعطيل الانتقال، ثم في الدفع نحو الانقلاب، وأخيرًا في تهيئة المناخ للحرب بتعزيز الخلاف بين المكونات الاجتماعية و الأطراف العسكرية و من ثم إشعال الحرب بصورة مباشرة حين لم تفلح محاولاتهم و جهودهم الداعية للفتنة . خطابهم لم يكن موجهًا ضد طرف عسكري بعينه، بل تركز ضد الثورة  وضد القوى المدنية ، بوصفها الخطر الحقيقي الذي يهدد مشروعهم الاستبدادي الذي يرسّخ لسيطرة الجماعة على السلطة السياسية و موارد البلاد  و تعمل على تكريس السلطة بالسلاح و الاستثمار في خلق الفوضى و التناقضات و تعدد المليشيات و السيطرة على مؤسسات الدولة بشكل كامل .

إستهداف القوى المدنية بعد الحرب دخل مرحلة أكثر خطورة ، لم يعد المطلوب فقط إسكاتها، بل تجريمها بالكامل. أصبح كل من دعا لوقف القتال، أو رفض الإصطفاف، أو تمسك بمشروع الدولة المدنية، وُضع في خانة ” الخيانة ، العمالة ، والارتزاق أو اتهم بالتعاون و الانحياز للطرف الآخر ” . هذا الخطاب تحرك بمنهجية خطط لها بدقة وعناية فائقة هدفها تركيع المدنيين و دفعهم لقبول الانحياز لأحد الأطراف . تعرض دعاة السلام في هذه الفترة لهجوم عنيف من قبل حكومة بورتسودان و المليشيات المتحالفة معها ، حيث تم إستهداف منازل بعض قيادات الأحزاب الرافضة للحرب في الأيام الأولى ، إعتقال رموز الثورة وكل من دعى لإنهاء الحرب ، اغتيالات ، اختطاف ، و تعذيب ، قتل خارج القانون ، أحكام جائرة بالإعدام او السجن المؤبد ، اتهامات وبلاغات جنائية كيدية ، ملاحقات و إختطاف حتى في دول النزوح و اللجوء ، الحرمان من الوثائق الثبوتية ، حملات ممولة لاشانة السمعة و تشويه الصورة السياسية .

طوال فترة الحرب أنصب الهجوم الحقيقي والمستمر على من ظلوا متمسكين بموقفهم المستقل الداعي لوقف الحرب ،  بينما من النادر أن تشاهد أطراف الحرب تهاجم بعضها أو المجموعات المدنية التي تتبع للعدوّ بصورة مباشرة كل هذه المحاولات تهدف لنزع الشرعية عن السياسة المدنية نفسها ليسيطر صوت السلاح على المشهد بالكامل . وجود هذا التيار المدني كان – وما زال – التهديد الأكبر لخطاب الحرب، لأنه يكشف أن الصراع ليس قدرًا، وأن هناك بديلًا سياسيًا ممكنًا.

الحرب  عمّقت الانقسام داخل المجتمع السوداني نفسه ، حالة الاستقطاب الحاد، و الخطاب التعبوي، والانتهاكات الواسعة، أعادت إنتاج الانقسامات الجهوية والسياسية، وانعكست مباشرة على بنية الأحزاب والتحالفات المدنية ، يعكس ذلك مظاهر الانقسامات التي حدثت مؤخراً لعدد كبير من الاحزاب والمؤسسات المدنية ، حيث بدأت  الحرب في التحول إلى عامل تفكيك اجتماعي وسياسي شامل . 

برغم من هذه التحديات العظيمة نجحت قوى الثورة في عمل بعض الاختراقات لإنجاز متطلبات مواجهة خطاب الحرب خصوصاً على المستوى الدولي والإقليمي و نجحت في نزع الشرعية منه بتعريف المجتمع الدولي و الإقليمي و شعوب العالم حول طبيعة الحرب و جذورها وآليات معالجتها ، ذلك بالاضافة لجهودها الكبيرة في التبصير بالأزمة الانسانية و طبيعة الانتهاكات التي حدثت  ما كان له دور مقدر في حشد الموارد لتقديم المساعدات الإنسانية للسودانيين في اماكن النزوح واللجوء. كما سعت في الوقت نفسه لتوحيد جهودها في بناء أكبر جبهة مدنية ضد الحرب ، بالمقابل  فقد نجحت قوى الحرب في استقطاب بعض المدنيين ، الأمر الذي أثر على خطاب السلام و أضعف من تأثيره ، حدث ذلك بصورة مفاجئة عندما نجح الدعم السريع في استقطاب مجموعة من أفراد تنسيقية تقدم ، لتبقى مجموعة ” صمود ” كجهة ملتزمة بقيم وأهداف الثورة وتسعى لإنهاء الحرب  وايضاً لتوسيع قاعدتها السياسية و الشعبية و توحيد جهودها مع القوى الثورية الأخرى الرافضة للحرب . 

في الذكرى السابعة للثورة يجب على القوى المدنية الرافضة للحرب من الأحزاب، ولجان المقاومة، والنقابات، والمبادرات المدنية ، المجموعات الشبابية ، الحركات المسلحة والمجتمع المدني تنسيق جهودها و العمل معاً لتحقيق السلام و الحفاظ على وحدة السودان التي باتت مهددة . فقد اصبحت وحدة القوى المدنية ليست خيارًا سياسيًا، بل شرطاً واجباً لإنهاء الحرب و إعادة تعريف الصراع باعتباره صراعًا بين مشروع مدني يسعى لبناء دولة الحرية والسلام والعدالة، ومشروع الموت ، الخراب ، والدمار ،التمليش و التغنيم . ما يفرض  على المدنيين اتخاذ خطوات نحو استعادة وحدة صفهم باعتبارها ضرورة تعيد الأمل للسودانيين و تبشرهم بان قواهم المدنية قادرة على تحمل مسئولية استعادة المسار الوطني الديمقراطي وتحقيق اهداف وغايات الثورة ..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى