“والماءُ إذا تنفَّس

مقال  نُشِرَ للقاص بشرى الفاضل في صفحة عيسى الحلو بصحيفةِ “الرَّأي العام” في مطلعِ الألفيَّة ثم ظهر في كتابِه “تضاريس” في النَّقدِ الأدبي، المنشور عام (2013)

****

والنِّيلُ لُغزٌ وبرهان

والنِّيلُ ..

وشمُ الزَّمانِ على الآن

هو اللُّيونةُ في ما اكتسى

والماءُ إذا تنفَّس”

 من هذا المقطع جاء عنوان مجموعة الشَّاعر سيدأحمد بلال الشِّعرية الصَّادرة في طبعتها الأولى عام (2007). تنقسمُ المجموعة إلى قسمين، حيثُ اختصَّ القسمُ الأوَّل بقصائدَ  تبدأ من الثَّمانينات، لكنَّ معظمَها من التِّسعينات. أمَّا القسم الثَّاني، فجاءَ بعنوان: (مختارات من كراسة قديمة). كلُّ قصائدِ هذا القسم كُتِبَت بين عامي (1974) و(1975)؛ وهي قصائدُ تفعيلة، التزمت في معظمِها الوزن. لكنَّ هذه المجموعة شهِدت بداياتِ قصيدةِ النَّثر عند سيدأحمد بلال. والصُّورُ الشِّعريَّة في هذا القسم تُفاجئُ القارئ:

“ترتاحُ شفتاها على ثديٍ مؤقَّت..”؛ من قصيدة (مقاطع)، ومنها أيضاً:

“وارتجلت عصير أغنية أرُشُّ به على المارَّة/ لو تتأبَّطُ الرِّيحَ البطيئة

ثم تدخُلُ قلبَ من تَهواهُ/ تسترخي المياهُ بجيدِها النَّعسان”؛ من قصيدة (هذا

الشَّيء المزمن).

في هذا القسم، يُربطُ العشقُ والأنثى في كلِّ زوايا الشِّعر:

“هذا أنا أركضُ طولَ الطَّريقِ إلى شفتيك؛ عشقى القديمُ تمطَّى؛ واستعادت مراهقتي

مراكزَها السَّابقة “؛ من قصيدة (نداءات أثناء سجود السَّهو).

آخِرُ قصيدةٍ في القسمِ الأوَّل كانت بعنوان (عنِ النخَّلة). وعلى الرَّغم من أنَّ الشَّاعر ثبَّتَ تواريخَ معظمِ القصائد، إلَّا أنَّها جاءت بدون تاريخ؛ ولعلَّها كُتِبَت في مطلعِ التِّسعيناتِ أيضاً.

الصُّورُ الشِّعريَّة ترسمُ مُحَيَّا النَّخلةِ رَسماً بديعاً يحسُّ به السَّامع:

“أيَّتُها الذَّاتُ الرَّاقصةُ في الرِّيحِ

شعرُك اليتدلى هابطاً

والينهض صاعداً

وإنَّما ينتشرُ ويتوزَّعُ

فيُغطِّي وجهَكِ وقفاكِ

كأنَّكِ تنزلينَ من السَّماء بمظلَّةٍ من السَّعف”.

يقِفُ الشَّاعرُ أمام النَّخلةِ متأمِّلاً جذعَها، عُرجونَها؛ أمَّا البلحُ الأخضرُ فيعبُرُ في

رحلتِه من الطُّفولة إلى سنِّ النُّضج.

هذا الشَّاعرُ يقولُ نعم للعيونِ المبلَّلةِ بالدَّمعِ، ويقولُ لا للوجوهِ المُغطَّاةِ بالشَّمع.

في قصيدة (نعم …لا )، وفي قصيدة (ذكرى)، يُصوِّرُ الشَّاعرُ حلولَ الذِّكرى في الأشياءِ والكائناتِ من حولنا:

“تنحلُّ الذِّكرى

في موجٍ من نهرٍ

ينزلقُ على ظلِّ الأشجار

تنحلُّ الذكرى

منديلاً وكتاب

وغِناءً للأحباب”.

وتضمُّ المجموعة قصيدة (موسيقى) الَّتي صدح بها الرَّاحل بروفيسور  على المك في

كلِّ محفلٍ بعد أن قرأها في مجلة “المحتوى” الَّتي أصدرتها الجبهةُ الدَّيمقراطية لأساتذة جامعة الخرطوم عام (1987):

“الموسيقى لا تقولُ كلاماً

ولكنَّها تردُمُ الهاوية…

الموسيقى لا تقولُ كلاماً

ولكنَّها تصحبُ الرُّوحَ

وهي تعتليُ القافية …

الموسيقى لا تقولُ كلاماً

ولكنَّها تمنحُ الصَّحَّة والعافية”.

أردف الشَّاعرُ هذا النَّصَّ بنصٍّ آخرَ بعنوان” (موسيقى 2)، كتبه عام (1990):

حيثُ ابتدره بالمقطع:

“الموسيقى تتخلَّى عمَّا عداها “.

وهذا الشِّعرُ أعِدُّه من شعرِ التأمُّل، وهو لا يقولُ كلاماً زائداً عن الحاجة.

وفي قصيدة (توازن)، نقرأ عن تلك الرَّاقصة الَّتي تقول:

“جسدي يُلاحِقُني

ويُرافِقُني

ويُوافِقُني”

وهي قصيدةٌ يُصوِّر فيها اندماجَ الرَّاقصةِ في عملِها البديع:

“حين تلاشتِ الرَّاقصة وسط البلد

تركت آثارَ قدمَينِ فوق التُّراب

ونقطةً في الأبد”

أغلبُ شعرِ المجموعة جاء في قصيدةِ النَّثر؛ وتجِدُني أنحازُ لكتابةِ سيدأحمدَ فيها أكثرَ من انحيازي لقصيدةِ التَّفعيلة الواردةِ في المجموعة. ولعلَّ سيدأحمدَ يُعلِنُ بانحيازِه عمليَّاً بالخروجِ عليها كُلِّيَّةً في القصائدِ الَّتي كتبها منذُ أواخرِ الثَّمانينات. وثمَّةُ قصائدُ كتبها الشَّاعرُ مؤخَّراً لم تضمَّها المجموعة؛ أذكرُ منها، مرثيَّتَه للخاتم عدلان، وقصيدته (شغبٌ صباحيٌّ) عن اِبنتِه ضحى، ممَّا نُشِرَ بالشَّبكةِ الدَّوليَّة. ولدى الشَّاعر  سيداحمد بلال قصائدُ عديدةٌ بالعامِّيَّة أيضاً، أذكُرُ منها مراثيه لوالدته، لكنَّ سيد أحمد بلال ضنينٌ بشعرِه؛ وهو شعرٌ يتَّسِمُ بجمالِ الصُّورِ ودقَّةِ العبارة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى