
بعد أن دفعتهم الحرب إلى مغادرة ديارهم قسرًا، وجد آلاف السودانيين أنفسهم أمام تحدي البدء من الصفر في بلدان الجوار. وبينما كان النزوح في ظاهره خسارة لكل ما هو مألوف، تحوّل لدى كثيرين إلى مساحة لإعادة اكتشاف الذات، وكانت النساء في طليعة هذا التحوّل العميق.
في أحياء كاملة نشأت على أطراف مدن المنفى، أعاد السودانيون تشكيل تفاصيل حياتهم اليومية. متاجر صغيرة تبيع الخبز السوداني، مطاعم تفوح منها رائحة البخور، وأكشاك تعرض مجوهرات يدوية الصنع، وصابونًا تقليديًا وعطورًا محلية. لم تكن هذه المشاهد مجرد حنين إلى الوطن، بل كانت تعبيرًا عن اقتصاد مجتمعي نابض، تقوده النساء في الغالب.
مجتمعات جديدة تقودها النساء
تتميّز هذه التجمعات السودانية الناشئة بحيوية لافتة، حيث لم تعد المرأة محصورة في دورها التقليدي داخل المنزل، بل أصبحت فاعلًا اقتصاديًا أساسيًا. كثير من هذه المبادرات النسوية لم تبدأ بدافع الطموح التجاري بقدر ما كانت محاولة للبقاء، لكنها سرعان ما تحولت إلى مشاريع ناجحة غيّرت ملامح المجتمع المحلي.
توضح الدكتورة رندا حمزة إبراهيم قنديل، الأستاذة المشاركة بجامعة الأحفاد للبنات والمنتسبة لبرنامج التعاون الأكاديمي السوداني النرويجي (SNAC)، أن تجربة النزوح لا تعني الشيء ذاته للجميع.
وتقول: “حين نقول: فقدنا كل شيء، فإن هذا التعبير قد يعني أبسط مقومات الحياة للبعض، بينما يعني لدى آخرين فقدان منازل فاخرة، وشركات، وسيارات باهظة الثمن”.
رغم التفاوت الكبير في الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية، يجمع هؤلاء النساء رابط مشترك: تجربة النزوح. فبينما تكافح بعض الأسر لتأمين احتياجاتها اليومية، نجحت أخريات في شراء شقق، وتأسيس مشاريع، والمساهمة بفاعلية في الاقتصاد المحلي.
تنتمي نسبة كبيرة من سيدات الأعمال السودانيات في المنفى إلى الطبقة المتوسطة، ويتمتعن بشبكات علاقات وموارد أولية. إلا أن ما يميّز هذه المجتمعات، بحسب جنديل، هو روح التضامن.
فالأسواق المؤقتة والمتاجر الصغيرة ليست مجرد أماكن للبيع والشراء، بل فضاءات للتلاقي، وتبادل الخبرات، والدعم النفسي والاجتماعي.
حين أصبحت النساء المعيلات
في كثير من الأسر السودانية النازحة، تغيّر ميزان الأدوار داخل البيت. لم يعد الرجل وحده المعيل، بل أصبحت النساء في حالات عديدة المصدر الأساسي للدخل، وهو تحوّل لم يكن سهل القبول اجتماعيًا.
تقول رندا: “قد يواجه بعض الرجال هذا الواقع بالرفض في البداية، لكن عندما يرون أن دخل الزوجة يوفّر تعليم الأطفال والطعام والاستقرار، تتغيّر نظرتهم تدريجيًا”.
وترى الباحثة أن مفهوم “المعيل” نفسه بحاجة إلى إعادة تعريف. ففي الثقافة السودانية التقليدية، ارتبط هذا الدور بالزوج، لكن في سياق النزوح بات المعيل قد يكون امرأة، أو أخًا، أو قريبًا يعمل في الخارج.
لماذا نجحت النساء أكثر؟
تشير جنديل إلى أن فرص العمل المتاحة للرجال السودانيين في المنفى غالبًا ما تكون محدودة، خاصة مع ارتفاع سقف التوقعات المرتبطة بالدخل، ورغبة الكثيرين في بدء مشاريع تتطلب رأس مال كبير. في المقابل، اعتادت النساء العمل في أنشطة تجارية صغيرة، وهو ما منحهن مرونة أكبر وقدرة على التكيّف.
وبالنسبة لبعض النساء، لم يعد المشروع مجرد وسيلة لتغطية نفقات المعيشة، بل أصبح جزءًا من هويتهن الجديدة، ودليلًا على الاستقلال والقدرة على الصمود.
تجسّد رندا حمزة إبراهيم قنديل هذا التحوّل على المستويين الشخصي والمهني. فإلى جانب خبرتها الأكاديمية في التنمية الريفية ودراسات النوع الاجتماعي، تخوض جنديل تجربة النزوح بنفسها، ما يمنحها منظورًا نادرًا يجمع بين النظرية والواقع.
في أبحاثها الحالية، تعمل ميدانيًا وسط سيدات الأعمال السودانيات، مستكشفة عالمهن من زاوية أنثروبولوجية، بالتعاون مع عالمة الأنثروبولوجيا الاجتماعية آن كاثرين كوراليس-أوفيرليد من جامعة بيرغن، ضمن إطار برنامج SNAC الذي يقوده مركز الدراسات الدولية بجامعة الخرطوم.
ورغم اختلاف الخلفيات الأكاديمية والثقافية بين الباحثتين، إلا أن هذا التباين تحوّل إلى مصدر قوة.
تقول رندا:“هذه الاختلافات لا تفصلنا، بل تُكمل بعضنا البعض”.
تلتقي اهتمامات الباحثتين عند سؤال جوهري: كيف يعيد النازحون بناء حياتهم؟ غير أن تجربة راندا الشخصية مع النزوح أضافت بُعدًا غائبًا عن كثير من الأدبيات الأكاديمية.
وتختم بالقول:“هذا المنظور الإنساني المباشر يكاد يكون غائبًا عن النظريات الحالية، وهنا تكمن أهمية عملنا المشترك في سد فجوات معرفية حاسمة”.
نقلا عن – Chr. Michelsen institute