حمدوك لـ”أفق جديد” أزمة السودان لم تبدأ بالحرب، بل بتعريفٍ مختلّ للدولة لنفسها

*غياب الهوية الجامعة لم يكن خلافًا ثقافيًا، بل مولّدًا بنيويًا للحروب.*

*فشل الدولة في استيعاب التنوع حوّل الاختلاف إلى سلاح.*

*نموذج الدولة المركزية الأحادية أثبت فشله تاريخيًا في السودان.*

*لا وحدة للسودان دون الاعتراف بتعدده، ولا دولة دون عدالة.*

*الدولة المدنية اللامركزية ليست خيارًا نظريًا، بل ضرورة تاريخية.*

*لا يمكن بناء دولة مستقرة دون إخضاع الجيش للسلطة المدنية المنتخبة.*

*عسكرة السياسة أفسدت الحكم وألحقت ضررًا بالغًا بالمؤسسة العسكرية.*

*الانقلابات حوّلت العنف إلى وسيلة دائمة لتغيير السلطة.*

*تعدد المليشيات قوّض مفهوم الجيش القومي.*

 

حوار وتحرير عثمان فضل الله

في بلدٍ تتكسر فيه الدولة على إيقاع البنادق، وتُدار فيه السياسة من غرف السلاح لا من ساحات الإرادة الشعبية، يصبح السؤال عن السودان سؤالًا عن الوجود ذاته: هل ما زال ممكنًا إنقاذ وطنٍ يتآكل من داخله، أم أننا نشهد لحظة الانكسار النهائي؟ وسط هذا المشهد الكابوسي، حيث الحرب لم تعد حدثًا طارئًا بل نظامًا للحكم، يبرز صوت د. عبد الله حمدوك، رئيس التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة «صمود»، ورئيس الحكومة الانتقالية التي أطاح بها خصماء اليوم شركاء الامس بوصفه أحد الأصوات التي تحاول إعادة السياسة إلى معناها الأخلاقي، والدولة إلى تعريفها المدني

هذا الحوار الذي اجريناه معه بمناسبة ذكرى الاستقلال المجيد وذكرى اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة  يأتي في توقيت بالغ الحساسية، ليس فقط لأن السودان يعيش أسوأ فصول تاريخه الحديث، بل لأن الأسئلة المؤجلة منذ الاستقلال انفجرت دفعة واحدة: أزمة هوية دولة لم تُحسم، عقد اجتماعي لم يُكتب، جيش لم يعرف حدوده، ونخب سياسية عجزت عن إنتاج توافق وطني جامع. بين ركام المدن، ونزيف الدم، وتفكك النسيج الاجتماعي، لم يعد ممكنًا الهروب إلى العموميات أو الاختباء خلف شعارات رمادية؛ فإما مواجهة الجذور، أو القبول بدولة فاشلة تتآكل حتى الزوال.

في هذا السياق، لا يتحدث حمدوك من موقع الحنين إلى سلطةٍ سابقة، ولا من منصة التبرير، بل من موقع المساءلة التاريخية. مساءلة لتجربة الدولة السودانية منذ تأسيسها، لدور النخب المدنية والعسكرية، لعلاقة الدين بالسياسة، ولمآلات الانقلابات التي قادت البلاد من أزمة إلى حرب شاملة. وهو يطرح، بوضوح نادر في خطاب السياسة السودانية، معادلات حادة: لا سلام دون تفكيك بنية العنف، ولا انتقال ديمقراطي دون إخضاع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية، ولا وحدة للسودان دون الاعتراف بتعدده، ولا مستقبل دون قطيعة صريحة مع مشاريع التمكين والاستبداد.

هذا الحوار ليس برنامجًا انتخابيًا ولا بيانًا سياسيًا عابرًا، بل محاولة لإعادة تعريف الدولة السودانية من الأساس: دولة تقف على مسافة واحدة من مواطنيها، تعترف بتنوعهم لا بوصفه تهديدًا بل مصدر ثراء، وتعيد توزيع السلطة والثروة بما ينهي مركزية الظلم التاريخي. كما أنه حوار مع القوى المدنية نفسها، نقدٌ ذاتيٌ صريح لدورها، وانقسامها، وعجزها أحيانًا عن الارتفاع لمستوى التحدي.

إنه حوار مع لحظة الحقيقة؛ لحظة ما بعد الوهم، وما قبل الانهيار الكامل. حوار لا يَعِد بمعجزات، لكنه يضع خارطة طريق فكرية وأخلاقية لسودانٍ جديد: إما دولة مدنية ديمقراطية تُبنى على أنقاض الحرب، أو فراغ مفتوح على المليشيات والتدويل والتفكك. وبين هذين الخيارين، يضع د. عبد الله حمدوك رؤيته، بلا مواربة، أمام شعبٍ أنهكته الدماء، لكنه لم يفقد بعد حقه في الحلم

تهنئة بمناسبة ذكرى الإستقلال وذكرى إنطلاقة ثورة ديسمبر

في مستهل حواره مع “أفق جديد” تقدم د. عبد الله حمدوك بأصدق التهاني إلى الشعب السوداني بمناسبة ذكرى الاستقلال المجيد، وذكرى انطلاقة ثورة ديسمبر العظيمة، وهما محطتان مفصليتان في تاريخ نضال شعبنا من أجل الحرية والكرامة وبناء الدولة الوطنية.

وقال إن ذكرى الاستقلال تستدعي التأمل العميق في مسار دولتنا منذ ميلادها، وما واجهته من إخفاقات بنيوية حالت دون تحقيق حلم شعبنا في دولة المواطنة المتساوية والعدالة والسلام. كما تحضر ذكرى ديسمبر بوصفها التعبير الأوضح عن إرادة شعبية متجددة، خرجت لتؤكد أن هذا الشعب لا يقبل الاستبداد، ولا يستسلم للظلم، وأن حقه في الحكم المدني الديمقراطي حق غير قابل للمساومة.

وأضاف تأتي هاتان الذكرتان المتزامنتان هذا العام في ظل حرب مدمرة تهدد وحدة البلاد وتماسكها الاجتماعي، وتضع السودان أمام مفترق طرق تاريخي. وهي مناسبة لتجديد العهد على أن وقف الحرب وحماية أرواح المدنيين يظلان أولوية وطنية قصوى، ومدخلًا لا غنى عنه للشروع في إعادة ترتيب الدولة على أسس جديدة، عبر عقد اجتماعي يعترف بتنوع السودان، ويصون كرامة مواطنيه، ويؤسس لدولة مدنية ديمقراطية تنموية.

إن روح ديسمبر، المستندة إلى السلمية، والوحدة، والعدالة، تظل البوصلة التي يمكن أن تهدي السودان للخروج من محنته الراهنة، كما أن معاني الاستقلال الحقيقي لا تكتمل إلا باستعادة القرار الوطني، وبناء مؤسسات تخضع لإرادة الشعب، وتحمي الدولة من الانقلابات والحروب والتبعية.

واردف في هذه المناسبة، أوجه تحية إجلال لشهداء ثورة ديسمبر، ولكل من ضحّى من أجل وطن حرّ ودولة عادلة، و أؤكد على ثقتي في قدرة الشعب السوداني على تجاوز هذه المرحلة العصيبة، وصناعة مستقبل يليق بتضحياته، بعيدًا عن العنف والدمار، وقائمًا على السلام والديمقراطية والعدالة

 

 احتكار الهوية تسبب في النزاعات الدموية

في تفكيكه لأزمة الدولة السودانية، ينطلق د. عبد الله حمدوك من سؤال الهوية بوصفه سؤالًا مفصليا ظل معلقًا منذ نشأة الدولة الحديثة: كيف تعرّف السودان نفسه؟ وأي دولة أُقيمت فوق هذا التعريف؟ وهل كان ممكنًا أن تنجو البلاد من دوامة الصراعات لو جرى التوافق مبكرًا على هوية جامعة تعترف بالعروبة والأفريقانية معًا، وبالمركز والتعدد على قدم المساواة؟

في هذا السياق، يوضح حمدوك أن جذور الأزمة لا يمكن فصلها عن البنية التي ورثها السودان عن الاستعمار، إذ ارتكزت السياسة الاستعمارية في السودان، كتجربة الاستعمار في كل مكان، على أسس تخدم مصالحه الاقتصادية والجيوسياسية والأمنية القائمة على القبضة الأمنية عبر الحكم غير المباشر والنموذج الاقتصادي المرتكز على انتاج المواد الخام الموجهة لخدمة صناعاته في بريطانيا. غير أن المأزق الحقيقي، كما يشير، لم يكن فقط في هذا الإرث، بل في العجز الوطني عن تفكيكه بعد الاستقلال، إذ والمؤسف انه منذ الاستقلال، لم يبذل جهد وطني خالص لإعادة بناء الدولة على أنقاض النموذج الذي تركه المستعمر، بل فشلت الإدارة الوطنية في بناء هوية وطنية جامعة تعكس التعدد الثقافي والإثني واللغوي، وتم استبدال ذلك برؤية أحادية فُرضت من المركز بوصفها تعريفًا للدولة والمواطنة.

هنا، يصبح غياب تعريف متفق عليه لهوية الدولة، واحتكار المركز لهذا التعريف، عنصرًا مولدًا للصراع، لا مجرد اختلاف فكري أو ثقافي، لأن غياب التوافق على هوية الدولة السودانية شكّل أحد الجذور البنيوية العميقة التي حالت دون قيام الدولة الوطنية وسببا رئيسيا للصراعات المستمرة. ويؤكد حمدوك أن هذا الاحتكار لم يبقَ حبيس الخطاب أو الرمزية، بل تمدد إلى جوهر السياسات العامة، حيث هذا الاحتكار للهوية لم يكن مسألة رمزية فحسب، بل تُرجم إلى سياسات إقصائية في الحكم وتوزيع السلطة والثروة، وأدى إلى تهميش واسع للأطراف، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا خلق الفجوة التاريخية بين المركز من جهة والأطراف في الجنوب والغرب والشرق والشمال من جهة أخرى.

في ظل هذه الفجوة، ومع انسداد الأفق أمام المشاركة العادلة والاعتراف المتساوي، لم تعد الدولة بالنسبة لكثير من مجتمعات الهامش إطارًا جامعًا، بل كيانًا إقصائيًا، وهو ما يفسر لماذا تحولت مطالب الاعتراف إلى نزاعات مسلحة، إذ في ظل هذا التهميش، ومع غياب قنوات عادلة للمشاركة السياسية، لجأت مجتمعات عديدة إلى حمل السلاح كوسيلة لفرض الاعتراف بوجودها وحقوقها. ويضيف حمدوك أن جوهر المشكلة لم يكن في التنوع ذاته، بل في كيفية نظر الدولة إليه، حيث كما أن فشل الدولة في استيعاب التنوع باعتباره مصدر قوة، والتعامل معه كتهديد أمني، أسهم في تكرار الحروب في دارفور، وكردفان والنيل الأزرق والشرق.

 

وبذلك، لا يضع حمدوك أزمة الهوية في مرتبة النتائج، بل في موقع الأسباب العميقة التي سبقت كل الانهيارات اللاحقة، مؤكدًا أن الخلل في تعريف الدولة لنفسها هو ما أنتج أزماتها السياسية والاقتصادية، وليس العكس، إذ لذلك يمكن القول إن أزمة الهوية ليست نتاجًا للأزمات السياسية والاقتصادية، بل عامل بنيوي سابق لها، شكّل طبيعة الدولة نفسها وأنتج أزماتها المتلاحقة.

نموذج الدولة المركزية الأحادية فشل

عند طرح مسألة شكل الدولة ومستقبلها، لا يتعامل د. عبد الله حمدوك مع السؤال بوصفه ترفًا نظريًا أو مفاضلة أكاديمية بين نماذج حكم، بل يضعه في سياق التجربة السودانية الثقيلة، حيث فشلت الدولة، مرة بعد أخرى، في إيجاد صيغة تستوعب واقعًا متنوعًا ومعقدًا. فالسؤال عن الدولة القومية أو الدولة متعددة القوميات أو الدولة اللامركزية لا ينفصل، في نظره، عن حصيلة تاريخية أثبتت أن بعض النماذج لم تعد صالحة أصلًا لهذا الواقع، إذ يقول:

لا يحتمل واقع السودان نموذج الدولة القومية الأحادية أو المركزية المفرطة التي أثبتت فشلها تاريخيًا، كما أن سيناريوهات التفكك لا تقدم حلولًا مستدامة كما هو ماثل بعد ذهاب الجنوب لحاله. الخيار الأكثر واقعية يتمثل في بناء دولة مدنية ديمقراطية لامركزية، تعترف بتعدد القوميات والثقافات، وتعيد توزيع السلطة والثروة بصورة عادلة بحيث يرى كل سوداني نفسه في مرآة اسمها السودان، وهو ما يضمن الحفاظ على وحدة الدولة.

ومن هذا التصور لشكل الدولة، ينتقل حمدوك مباشرة إلى جوهر الإشكال الأعمق: العلاقة المختلة بين الدولة والمجتمع، والتي لا يمكن إصلاحها عبر ترتيبات إدارية أو دستورية جزئية، بل عبر إعادة تأسيس كاملة تقوم على اتفاق جامع يعترف بالتنوع الحقيقي ويحمي حقوق المكونات المحلية. فبناء الدولة اللامركزية المدنية، في رؤيته، لا يمكن أن يتحقق تلقائيًا أو بقرارات فوقية، وإنما عبر مسار جديد، وهو ما يعبّر عنه بقوله:

هذا التحول لا يمكن أن يتم دون صياغة عقد اجتماعي جديد، يُبنى عبر عملية دستورية شاملة وتشاركية، تشرك الأقاليم والمجتمعات المحلية، وتؤسس لمبادئ المواطنة المتساوية، وحكم القانون، وعدالة توزيع الفرص والعدالة الانتقالية التي تعزز التصالح والتعافي الاجتماعي، بما يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة تستند على وقوف الدولة على مسافة واحدة من الهويات الدينية، والاثنية والجغرافية والثقافية.

بهذا المعنى، لا يطرح حمدوك نموذج الدولة بوصفه خيارًا تقنيًا، بل كخلاصة لمسار طويل من الإخفاقات، وكمدخل وحيد لحماية وحدة السودان عبر الاعتراف بتعدده، وإعادة توزيع السلطة والثروة، وبناء عقد اجتماعي جديد يعيد الثقة بين الدولة ومجتمعها.

دولة مختلة ودور العسكر:

عند الاقتراب من سؤال الدولة المختلّة في السودان، يبرز دور المؤسسة العسكرية بوصفه أحد أعقد مفاتيح الأزمة، ليس فقط كقوة نظامية، بل كلاعب سياسي فاعل شكّل مسار الحكم لعقود طويلة. فكيف تحوّل الجيش من مؤسسة يفترض أن تكون مهنية ومحايدة إلى طرف سياسي يحسم الصراع على السلطة؟ وما الذي جعل إعادة بناء دولة مستقرة أمرًا مستحيلًا من دون إعادة تعريف جذرية لعلاقة الجيش بالسلطة المدنية؟ ولماذا أصبحت الانقلابات أداة شبه دائمة لإدارة الخلاف السياسي؟

في هذا السياق، يضع د. عبد الله حمدوك توصيفًا مباشرًا لا يوارب في تحميل البنية العسكرية ـ السياسية مسؤولية التشوه التاريخي للدولة، إذ يؤكد ” أن تحوّل الجيش السوداني منذ الاستقلال إلى فاعل سياسي وأداة لحسم الصراع السياسي. ويشير إلى أن هذا المسار لم يكن عارضًا أو مؤقتًا، بل أنتج اختلالًا مزدوجًا طال السياسة والمؤسسة العسكرية معًا، لأن هذا التداخل بين العسكري والسياسي أدى إلى عسكرة السياسة وتسيس الجيش في آن واحد، وجعل الانقلابات العسكرية وسيلة معتادة لتغيير السلطة بدل التداول السلمي.

ويمضي حمدوك في ثنايا حواره مع ” أفق جديد” الى أبعد من التشخيص العام، رابطًا هذا الخلل بسجل تاريخي طويل من الهيمنة العسكرية على الحكم، موضحًا أنه ومنذ رحيل المستعمر قبل سبعين عام ظل الجيش يحكم لفترة 57 عام اتسمت بقبضة حديدية ضد القوى المدنية الساعية لإقامة الحكم المدني الرشيد والقمع الأمني ضد احتجاجات الهامش عبر ظاهرة المليشيات مما الحق ضررا بالغا بالمؤسسة العسكرية نفسها. وبهذا، لا يضع اللوم فقط على عسكرة الدولة، بل يلفت إلى أن هذا المسار ألحق أذىً عميقًا بالجيش ذاته، حين جرى استخدامه كأداة سياسية وأمنية في مواجهة المجتمع بدل حمايته.

وفي ظل هذا الواقع، يربط حمدوك بين عسكرة السياسة وتفجر الحروب الأهلية، معتبرًا أن غياب الدولة المدنية والرؤية الوطنية الجامعة جعل العنف هو اللغة السائدة في إدارة الخلافات، إذ فاتسمت جل فترة استقلال الوطن بالحروب الاهلية التي استنزفت طاقات وموارد الوطن وفى ظل غياب رؤية وطنية توظف التنوع الثرى والموارد الطبيعية الغنية في بناء دولة عصرية ناهضة كانت المحصلة النهائية طبقا لحمدوك  انتشار الحروب وذهاب الجنوب الحبيب وإضعاف الدولة وتخلفها اقتصاديا واجتماعيا وأصبح السودان، للأسف، دولة فاشلة والنتيجة الحرب الشاملة الماثلة امامنا اليوم.

 

تعدد المليشيات، قوّض مفهوم الجيش القومي

يُعاد طرح سؤال المؤسسة العسكرية في السودان اليوم بوصفه سؤال الدولة نفسها: كيف يمكن تفكيك إرث عسكرة السياسة الذي حوّل الجيش من مؤسسة يفترض أن تكون قومية ومهنية إلى فاعل سياسي، ثم فتح الطريق أمام تعدد الجيوش وتفكك مفهوم الجيش القومي؟ وما الذي يتطلبه الانتقال من هذا الواقع المختل إلى مؤسسة عسكرية محايدة تخضع لسلطة مدنية، في بلد أنهكته الحرب وأعاد السلاح رسم خرائط القوة فيه؟

في مقاربته لهذا السؤال، يربط د. عبد الله حمدوك بصورة مباشرة بين استقرار الدولة وإعادة تعريف موقع الجيش داخلها، مؤكدًا أن «لا يمكن بناء دولة مستقرة دون إعادة تعريف جذري لمكان الجيش ودوره في الدولة وعلاقته بالسلطة المدنية وينطبق ذلك على كل المؤسسة الامنية، عبر إصلاح أمني وعسكري شامل يؤسس لجيش مهني قومي واحد، بعقيدة وطنية واضحة، يخضع للسلطة المدنية». وبهذا المعنى، لا يصبح إصلاح الجيش مسألة تقنية تخص البنية العسكرية وحدها، بل شرطًا سياسيًا لبناء الدولة المدنية.

ويمتد تشخيص حمدوك إلى أثر ظهور قوى تعدد المليشيات على وحدة الدولة وهيبتها، حيث يشير إلى ان ذلك يقوّض مفهوم الجيش القومي، ويحوّل السلاح إلى سلطة مستقلة عن الدولة، في توصيف يلخّص كيف انتقلت القوة المسلحة من يد الدولة إلى فضاء مفتوح يتنازع فيه الفاعلون السياسيون والعسكريون السيطرة والنفوذ.

أما ما بعد الحرب، فلا يقدّم حمدوك إصلاح المؤسسة العسكرية بوصفه مسارًا مستحيلًا ولا طريقًا سهلًا، بل عملية معقّدة مشروطة بإرادة سياسية جامعة، إذ يقول نصًا إن «إعادة توحيد القوات المسلحة والمؤسسة الأمنية بعد الحرب ممكنة لكنها معقدة، وتتطلب تسوية سياسية شاملة، وبرامج دمج وتسريح وإعادة تأهيل، وضمانات دستورية، وإرادة وطنية صلبة ودعمًا إقليميًا ودوليًا». وهنا، تُدمج رؤية إعادة التوحيد في سياق أوسع، يتجاوز البعد العسكري إلى مشروع وطني شامل يعيد احتكار السلاح للدولة، ويؤسس لعلاقة جديدة بين الجيش والمجتمع والسلطة.

الحركة الإسلامية تحولت إلى شبكة مصالح معقدة

يستدعي تفكيك مأزق الدولة السودانية التوقف عند مسارين متداخلين شكّلا جوهر الأزمة: مسار عسكرة السياسة الذي أبقى الجيش فاعلًا سياسيًا لا مؤسسة مهنية محايدة، ومسار الإسلام السياسي الذي أعاد تشكيل الدولة منذ 1989 على أسس أيديولوجية وسلطوية. والسؤال هنا لا ينفصل: ما المطلوب لضمان انتقال الجيش من لاعب سياسي إلى مؤسسة قومية مهنية؟ وكيف أثّر المشروع الإسلامي في تشويه بنية الدولة، وإضعاف مؤسساتها، وربط السياسة بالعنف والتمكين؟

في هذا السياق، يضع د. عبد الله حمدوك تجربة الإسلام السياسي في السودان في إطارها البنيوي، معتبرًا أنها لم تكن مجرد مرحلة حكم، بل مسارًا أعاد هندسة الدولة نفسها بصورة مدمّرة. ويقول حمدوك: «منذ عام 1989، لعب الإسلام السياسي دورًا بنيويًا هداما في تشكيل الدولة السودانية، عبر دمج الأيديولوجيا بالسلطة، والحزب بالدولة، ما أضعف المؤسسات وقوّض مبدأ المواطنة.» بهذا الدمج القسري بين الفكرة والسلطة، لم تعد الدولة إطارًا جامعًا لكل المواطنين، بل أداة في يد مشروع أيديولوجي مغلق.

ولا يتوقف حمدوك عند توصيف الفشل بوصفه خللًا فكريًا مجردًا، بل يربطه بطبيعة الممارسة السلطوية التي اختطفت الدولة واستخدمت الدين غطاءً للتمكين، إذ يؤكد أن «فشل هذا المشروع، الذى اختطف الدولة، لم يكن فكريًا فقط، بل نتاج ممارسة سلطوية قمعية استخدمت الدين كأداة للتمكين السياسي والاقتصادي والأمني، فتحولت الحركة الإسلامية من مشروع أيديولوجي إلى شبكة مصالح معقدة.» وبهذا التحول، انتقلت الحركة الإسلامية من خطاب الدعوة والفكرة إلى منطق الشبكات، حيث تداخل الأمن بالاقتصاد، والولاء السياسي بالثروة والسلاح.

ويمضي حمدوك في ربط هذا المسار بسجل دموي طويل من الحروب والانتهاكات، معتبرًا أن الدولة المؤدلجة أنتجت عنفًا منظمًا ضد المجتمع، إذ يقول نصًا: «شهدت فترة حكم المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية أبشع الحروب في الجنوب الذي مورس فيه الجهاد وابادة جماعية في دارفور أدت في الى ملاحقة رأس النظام من المحكمة الجنائية الدولية، كأول سابقة منذ انشاء المحكمة، فضلا عن الحرب المدمرة في جبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان والقمع الدموي للاحتجاجات في كجبار.» هنا، لا تُقدَّم الحروب بوصفها أخطاء سياسات، بل كنتيجة مباشرة لتحويل الدولة إلى أداة أيديولوجية مسلحة.

ولا ينفصل ذلك، في رؤية حمدوك، عن منظومة القمع الداخلي التي رافقت هذا الحكم، حيث يضيف قائلًا: «هذا بالإضافة للقمع المنظم للمظاهرات وتصفية الخصوم وممارسة التعذيب (بيوت الأشباح) وبارتباطاته مع شبكات الإرهاب الدولي حول النظام السودان الى دولة مارقة عزلته عن العالم وجلبت على المواطن السوداني شتى أنواع العقوبات.» وبهذا، لم يدفع ثمن المشروع الإسلامي خصومه السياسيون فقط، بل المجتمع بأسره، الذي وجد نفسه معزولًا ومثقلًا بالعقوبات والانهيار.

ومن هذا المنطلق، يخلص حمدوك إلى أن نهاية هذا المسار لم تكن حادثة طارئة، بل نتيجة تاريخية حتمية، إذ يقول نصًا: «إذا كان لابد لهذه التجربة ان تفشل وكانت نهايتها الحتمية على أيدي جموع الشعب السوداني عبر ثورة ديسمبر المجيدة.» وبهذا المعنى، تصبح ثورة ديسمبر ليس مجرد إسقاط لنظام، بل لحظة فاصلة أنهت مشروعًا بنيويًا فشل في بناء الدولة، وتركها مثقلة بالحروب، وممزقة المؤسسات، ومفتوحة على سؤال إعادة التأسيس.

لا يمكن السماح بعودة من اذاقوا الوطن الامرين

يُطرح سؤال ما بعد الحرب في السودان بوصفه سؤالًا مزدوجًا لا يمكن فصله: كيف يمكن ضمان انتقال الجيش من فاعل سياسي إلى مؤسسة مهنية محايدة خاضعة للسلطة المدنية؟ وفي الوقت نفسه، ما هو الموقع الذي يمكن أن يشغله الإسلاميون في معادلة ما بعد الحرب دون إعادة إنتاج الصراع أو استدعاء منظومة التمكين التي قادت البلاد إلى الانهيار؟ ثم، إلى أي مدى يرتبط نجاح أي مشروع لدولة مدنية حقيقية بتحديد موقع الإسلام السياسي داخل المنظومة القانونية والسياسية، لا خارجها ولا فوقها؟

 

في مقاربته لهذه الأسئلة، يضع د. عبد الله حمدوك حدًا فاصلًا بين المشاركة السياسية المشروعة، وبين إعادة تدوير مشروع سلطوي ثبت فشله التاريخي، ويقول :

“يدور الكثير من اللغط حول مشاركة الإسلاميين. وأود ان أكون واضحا، لا يمكن السماح بإعادة إنتاج التمكين والسماح بعودة الذين اذاقوا الوطن الامرين ودمروه، بل وتسببوا فيما نحن فيه الان. التاريخ المعاصر يوفر لنا نماذج ناجحة في التعامل مع التجارب المريرة المشابهة للحالة السودانية واشير هنا الى حل وتجريم النازية في المانيا بعد الحرب العالمية الثانية ومحاكمة قادتها تماما كما حدث مع الفاشية في إيطاليا. والتسوية التاريخية في جنوب افريقيا تحققت فقط حين قبل نظام الفصل العنصري البغيض بدفع استحقاقات التسوية عبر الاعتراف بالخلل البنيوي للنظام وضرورة تفكيكه والاعتراف والمحاسبة على الجرائم المرتكبة في كنفه والالتزام بالمبادئ الدستورية التي تقوم على المواطنة المتساوية. نحن لسنا ضد الإسلاميين بصورة مطلقة اذ لدينا علاقات ممتازة مع حزب المؤتمر الشعبي بقيادة دكتور على الحاج تقوم على توافقنا التام مع موقفه الرافض لمبدأ الانقلاب العسكري ومناوأته للحرب وايمانه بعودة التحول المدني الديمقراطي. اذا المشاركة في الحياة السياسية يجب أن تكون وفق قواعد ديمقراطية وقانونية صارمة، تضمن احتكار الدولة للعنف والفصل بين الدين والسياسة، وتمنع توظيف الدين لأغراض سلطوية، باعتبار ذلك شرطًا أساسيًا لنجاح أي مشروع لدولة مدنية.”

بهذا القول الكامل، يربط حمدوك بين سؤال موقع الإسلاميين وسؤال الدولة المدنية نفسها، واضعًا معايير واضحة لا تقوم على الإقصاء المطلق، ولا تسمح في الوقت ذاته بإعادة إنتاج التمكين أو توظيف الدين في الصراع على السلطة، ومؤكدًا أن نجاح أي انتقال مدني حقيقي يظل مرهونًا باحتكار الدولة للعنف، وخضوع جميع الفاعلين—السياسيين والدينيين والعسكريين—لقواعد دستورية واحدة.

القوى المدنية مازالت بخير

في تناوله لدور القوى المدنية في لحظة الانقسام المجتمعي العميق الذي يعيشه السودان، ينطلق د. عبد الله حمدوك من سؤال القدرة قبل سؤال النوايا: هل تمتلك هذه القوى، رغم خلافاتها وتجاربها المتعثرة، القدرة الفعلية على التفاعل والتواصل مع مجتمعات أنهكتها الحروب؟ وهل تستطيع تجاوز أسر الخطابات الأيديولوجية المغلقة، وصياغة مشروع وطني جامع يعيد الثقة بينها وبين المجتمعات المحلية التي خذلتها النخب مرارًا؟

في إجابته على هذه الأسئلة، يرفض حمدوك التعامل مع القوى المدنية بوصفها كيانًا هشًا أو عاجزًا بطبيعته، ويضع تجربتها التاريخية في قلب التقييم، ويقول:

تتميز الساحة السودانية بحراك مدني حيوي رغم ما ظلت تتعرض له من الأنظمة الشمولية، وتمتلك القوى المدنية من حيث المبدأ القدرة على لعب دور وطني بناء وليس ادل على ذلك من قدرة القوى المدنية من أحزاب سياسية وتنظيمات مهنية ونقابية والشباب والمرأة وقوى الريف من القيام بثلاث ثورات اسقطت أعتى الديكتاتوريات. بلغ هذا الدور ذروته حين تمكنت القوى الحية في مجتمعنا من مقاومة انقلاب 2021 مما اضطر مدبروه الى الذهاب لإشعال الحرب الحالية. ويردف “ما زلت أؤمن بان القوى المدنية ما زالت بخير وقادرة، بالسمو فوق الصراع الأيديولوجي، من هزيمة قوى الظلام وبناء مشروع وطني جامع، يقوم على أولويات واضحة: السلام، الدولة المدنية الديمقراطية، والعدالة”

بهذا التوصيف، يجيب حمدوك على تاكيد دور القوى المدنية، التى راكمت، عبر تاريخ طويل من النضال، شرعية اجتماعية تؤهلها للقيام بهذا الدور، كما يربط تجاوز الانقسامات الأيديولوجية بقدرتها على الارتكاز إلى أولويات وطنية واضحة لا تحتمل التسييس أو المساومة. وفي هذا الإطار، تصبح استعادة ثقة المجتمعات المحلية ليست مهمة إضافية، بل جوهر المشروع المدني نفسه، إذ لا يمكن لأي خطاب وطني جامع أن يستقيم دون قاعدة اجتماعية تؤمن به وترى فيه انعكاسًا حقيقيًا لتضحياتها وتطلعاتها”.

المبادرات المدنية وبناء جبهة مجتمعية للسلام

في مقاربته لسؤال الاستقطاب الجهوي والإثني الذي عمّقته الحرب، يتعامل د. عبد الله حمدوك مع المبادرات المدنية بوصفها أحد المفاتيح القليلة المتبقية لإعادة وصل ما انقطع داخل المجتمع السوداني. فالسؤال هنا لا يتصل فقط بقدرة هذه المبادرات على تخفيف حدة الانقسام في مناطق الحرب، بل بمدى ارتباطها الفعلي بالقاعدة الاجتماعية، وباحتياجات المجتمعات التي دفعت الثمن الأكبر من النزاع، بعيدًا عن الخطابات النخبوية أو الاصطفافات الضيقة.

ومن هذا المدخل، يتفرع سؤال أكثر اتساعًا: هل يمكن تجاوز الإطار الحزبي التقليدي، وبناء جبهة مجتمعية للسلام تضم القيادات التقليدية، والنازحين، والنساء، والشباب، على قاعدة برنامج حد أدنى يعيد الاعتبار لفكرة العيش المشترك، ويبدأ عملية ترميم النسيج الاجتماعي الذي تمزق بفعل الحرب والعنف والانقسام؟

يجيب د. عبد الله حمدوك :

«يمكن للمبادرات المدنية أن تسهم في الحد من الاستقطاب الجهوي والإثني إذا انطلقت من القاعدة الاجتماعية واحتياجات المجتمعات المتأثرة بالحرب. بناء جبهة مجتمعية للسلام، تضم القيادات التقليدية والنازحين والنساء والشباب، والاتفاق على برنامج حد أدنى وذلك يمثل ضرورة تاريخية لإعادة ترميم النسيج الاجتماعي.

..

العلاقات الخارجية في ظل سيناريوهات الاصطفاف  

 

في سياق حرب داخلية مفتوحة على احتمالات التدويل، يطرح سؤال السياسة الخارجية نفسه بإلحاح: كيف يمكن للسودان أن يعيد بناء علاقاته الخارجية في بيئة إقليمية ودولية  شديدة الاستقطاب، تتنازعها المحاور، وتتشابك فيها المصالح على حساب الدول الهشة؟ وهل ما زال ممكنًا الحديث عن سياسة خارجية مستقلة في ظل اعتماد قوى محلية متصارعة على دعم خارجي، عسكريًا وسياسيًا، بما يضعف القرار الوطني ويهدد سيادة الدولة؟ ثم، إلى أي مدى يمكن أن ينزلق السودان، إذا استمرت هذه الديناميات، ليصبح ساحة نفوذ إقليمي دائم، يعاد فيها تشكيل الدولة وفق مصالح الآخرين لا وفق إرادة شعبها؟

يضع د. عبد الله حمدوك هذه الأسئلة في إطار أوسع، يبدأ بتشخيص جذور الأزمة، قبل الانتقال إلى التحذير من مآلاتها الإقليمية والدولية، مؤكدًا أن مفتاح الخروج من هذا المأزق لا يكمن خارج السودان، بل داخله أولًا. ويقول د. عبد الله حمدوك

«دعني أكون واضحا وصريحا، هذه الحرب اشعلتها أيدي سودانية وعلينا نحن فقط تحمل عواقبها ومسئولية وقفها فورا حفاظا على دماء وارواح أبناء وبنات الوطن وإنهاءآ لما يواجهونه من ويلات الجوع والمرض والتشرد والحيلولة دون من تشظي وتفتت السودان. تجارب كل الحروب حولنا تشير انه حين تفشل الإرادة السياسية لأبناء الوطن في معالجة النزاع الداخلي تتحول البلاد الى ساحة صراع إقليمي ودولي والسودان ليس استثناءآ. لذلك أتوجه بنداء لكل أبناء السودان المخلصين دعونا نوحد صفوفنا لإيقاف هذه الحرب اللعينة وانتشال السودان من خطر الانقسام بل والزوال كدولة. واناشد أطراف المجتمعين الإقليمي والدولي ان يكون دورهم بناءا بالوقوف مع الشعب السوداني في وقف هذه الحرب والبعد عما من شانه تأجيجها.»

في هذا القول، يربط حمدوك بوضوح بين ضعف الإرادة الوطنية الداخلية وفقدان الاستقلال الفعلي للقرار الخارجي، معتبرًا أن ارتهان القوى المحلية للدعم الخارجي لا يقود فقط إلى إطالة أمد الحرب، بل يفتح الباب واسعًا أمام تحويل السودان إلى ساحة صراع بالوكالة، تُدار فيها المعارك وفق حسابات إقليمية ودولية، لا وفق مصالح السودانيين.

كما يعيد حمدوك تعريف دور المجتمعين الإقليمي والدولي، لا كبديل عن الفعل الوطني، بل كعامل مساعد مشروط بوجود إرادة سودانية موحدة، محذرًا ضمنيًا من أن غياب هذه الإرادة هو ما يسمح للآخرين بإعادة رسم الخرائط، والتأثير في مسار الدولة، بل وتهديد وجودها ذاته، لم نكتفي بهذه الإجابة فعاجلنا الرجل بسؤال آخر وهو أي الخيارات أكثر قابلية للتطبيق في واقع دولة أنهكتها الحرب والانقسامات؟ هل هو الانحياز الصريح لأحد المحاور الإقليمية والدولية، بما يحمله ذلك من مكاسب قصيرة الأجل ومخاطر بعيدة المدى؟ أم الحياد الاستراتيجي الذي يتطلب دولة مستقرة وقادرة على فرض توازناتها؟ أم سياسة خارجية متعددة المسارات، تحاول المناورة بين المصالح دون الوقوع في فخ التبعية أو التحول إلى ساحة صراعات بالوكالة؟

في إجابته، يضع د. عبد الله حمدوك تصورًا واضحًا لهذا الخيار، منطلقًا من مبدأ المصلحة الوطنية، ومن التجربة السودانية المريرة مع الاصطفافات، ومحددًا الإطار الذي يرى أنه الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق في هذه المرحلة، قائلا::

«السياسة الخارجية الأكثر قابلية للتطبيق هي الحياد الإيجابي والبناء متعدد المسارات، القائم على المصالح الوطنية، وبناء علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف، في إطار مؤسسي شفاف في اطار مبادئ القانون الدولي وخاصة حسن الجوار التعايش السلمى وعدم التدخل في شئون الغير وتعزيز التعاون وتبادل المنافع…»

بهذا القول، لا يطرح حمدوك الحياد بوصفه انسحابًا من العالم أو موقفًا سلبيًا، بل يقدّمه كخيار نشط، يقوم على التوازن والانفتاح المدروس، ويبتعد عن منطق المحاور الصفرية التي تفرض على الدول الضعيفة أثمانًا باهظة. كما يشدد على أن تعدد المسارات في السياسة الخارجية لا يمكن أن يكون اجتهادًا فرديًا أو مناورة ظرفية، بل يجب أن يستند إلى إطار مؤسسي شفاف، يحكمه القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار وعدم التدخل، بما يحصّن السودان من الوقوع في صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل.

في هذا المحور، تتقاطع رؤية حمدوك للسياسة الخارجية مع مشروعه الأوسع لبناء الدولة: دولة تستعيد قرارها من الداخل أولًا، ثم تنفتح على الخارج وفق مصالحها، لا وفق إملاءات المحاور، وتدرك أن أخطر ما يمكن أن تواجهه ليس العزلة، بل التبعية المقنّعة تحت شعارات الدعم والحماية.

 

مستقبل الدولة السودانية بعد الحرب

أفرزت الحرب واقعًا جديدًا لا يمكن القفز فوقه عند التفكير في مستقبل الدولة السودانية. فالتفكك الذي أصاب مؤسسات الدولة، وتآكل سلطتها في أطراف واسعة من البلاد، وظهور مراكز قوة عسكرية وإدارية بحكم الأمر الواقع، أعاد طرح السؤال الجوهري حول ما إذا كان نموذج الدولة المركزية، بصيغته التي حكمت السودان لعقود، لا يزال ممكنًا بعد هذا الخراب الواسع. وهل ما جرى مجرد انكسار عابر يمكن ترميمه، أم أنه تحوّل بنيوي سيعيد تشكيل الدولة من جذورها؟

 

ومن هذا السؤال تتفرع سيناريوهات متعددة باتت مطروحة في النقاش العام: هل يمكن استعادة دولة موحدة مركزية كما كانت، أم أن المستقبل يتجه نحو لامركزية واسعة تعيد توزيع السلطة والثروة؟ أم أن خيار الكونفدرالية سيطفو بوصفه حلًا وسطًا بين الوحدة والتفكك؟ أم أن أخطر السيناريوهات، وهو تعدد كيانات الأمر الواقع، سيصبح هو المسار الغالب إذا فشلت القوى الوطنية في إنتاج تسوية سياسية جامعة؟

ويتقاطع كل ذلك مع سؤال ميزان القوى بعد الحرب: إلى أي مدى سيؤثر التفوق العسكري أو السيطرة الميدانية لبعض الأطراف في فرض شكل الدولة القادمة؟ وهل يمكن أن يتحول ميزان السلاح إلى مصدر شرعية سياسية دائمة، يعاد من خلاله إنتاج الأزمة بدل حلها؟

في إجابته على هذا المحور، يضع د. عبد الله حمدوك تشخيصًا مباشرًا لآثار الحرب على بنية الدولة، محذرًا في الوقت نفسه من خطورة تحويل مخرجات القوة العسكرية إلى أساس للحكم. ويقول د. عبد الله حمدوك:

«الحرب أضعفت نموذج الدولة المركزية إلى حد كبير، وخلقت واقع جديد على الأرض سيؤثر على شكل الدولة القادمة. ميزان القوى العسكري والسياسي بعد الحرب سيؤثر في مسار الانتقال، لكنه لا ينبغي أن يتحول إلى مصدر لشرعية سياسية .

يحمل هذا القول اعترافًا صريحًا بأن ما بعد الحرب لن يكون امتدادًا آليًا لما قبلها، وأن نموذج الدولة المركزية بصورته القديمة تلقى ضربة قاسية لن يتعافى منها دون إعادة نظر شاملة. لكنه في الوقت ذاته يضع حدًا فاصلًا بين الاعتراف بالواقع وبين التسليم له، حين يؤكد أن تأثير ميزان القوى، مهما كان حاسمًا على الأرض، يجب ألا يُشرعن سياسيًا أو يتحول إلى قاعدة دائمة لإعادة بناء الدولة.

ومن بين سطور هذا الموقف، تتضح رؤية حمدوك لمستقبل الدولة: دولة يعاد تشكيلها عبر تسوية سياسية شاملة، ويعاد تعريف مركزها وأطرافها على أسس جديدة. 

مفترق الطرق وإعادة تأسيس الدولة

ومع  إعادة الحرب لرسم كل ما كان يُعدّ مسلّمًا به في بنية الدولة السودانية، يفرض سؤال إعادة البناء نفسه بوصفه سؤال اللحظة التاريخية. فلم يعد كافيًا الحديث عن وقف إطلاق النار أو إدارة انتقال هش، بل بات مطروحًا بحدة: ما حجم الإصلاحات المطلوبة في الدستور والاقتصاد ونظام الحكم لإعادة بناء الدولة من الأساس؟ وهل ما ينتظر السودان بعد هذه الحرب هو ميلاد دولة حديثة تستند إلى عقد اجتماعي جديد، أم مجرد إعادة إنتاج لنموذج قديم أثبت هشاشته وعجزه، ومحكوم بدورات متكررة من الاضطراب والانهيار؟

هذه الأسئلة  هي ما ختمنا به مقابلتنا مع د. عبد الله حمدوك وهي أسئلة لا تتصل بالمستقبل البعيد فقط، بل تمس جوهر الخيارات التي ستُتخذ في لحظة ما بعد الحرب مباشرة:.

في هذا السياق، يضع حمدوك المسألة في إطارها الحاسم، بوصفها خيارًا تاريخيًا لا يحتمل الرمادية أو الحلول الجزئية. ويقول:

«السودان يقف أمام مفترق طرق تاريخي: إما الشروع في إصلاحات دستورية واقتصادية ونظم حكم عميقة تؤسس لدولة حديثة بعقد اجتماعي جديد، أو إعادة إنتاج نموذج هش محكوم بدورات متكررة من الاضطراب. واستنادا للدروس المستفادة من تجارب الماضي والنزاع الدموي الحالي، سنعمل مع كل الحادبين على مستقبل السودان لوقف هذه الحرب أولا والتوافق على أسس جديدة لإرساء دعائم الدولة المدنية الديمقراطية التنموية التي ننشدها بعيدا عن الدماء والدمار.»

بهذا القول، لا يكتفي حمدوك بوصف المأزق، بل يحدد ترتيب الأولويات بوضوح: وقف الحرب أولًا، لا بوصفه هدفًا إنسانيًا فقط، بل كشرط ضرورى لأي إصلاح جاد. ثم الانتقال، عبر توافق وطني واسع، إلى إصلاحات عميقة تطال الدستور والاقتصاد ونظام الحكم، لا كترقيعات فوق بنية متهالكة، بل كعملية إعادة بناء شاملة تقوم على عقد اجتماعي جديد.

ويحمل هذا الختام رؤية تتجاوز إدارة الأزمة إلى محاولة كسر دورتها التاريخية: دولة مدنية ديمقراطية تنموية، لا تُبنى على أنقاض الدم ولا تُدار بمنطق الغلبة، بل تستند إلى توافق وطني يعترف بأخطاء الماضي ويستخلص منها دروس الحاضر. بين خيار دولة المواطنة بلا تمييز وخيار إعادة الإنتاج، يضع حمدوك السودان أمام امتحانه الأصعب: إما دولة جديدة تولد من رحم المعاناة، أو استمرار الدوران في حلقة الاضطراب التي قادت البلاد إلى هذه الحرب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى