” المدللون” .. من برج الاتصالات الى مقرات الشركات الحلقة “٤”

هندسة الوعي.. السيطرة الناعمة
أفق جديد
عقب هبّة سبتمبر 2013، لم يكن نظام الإسلاميين كما كان قبلها. لم تكن الصدمة في عدد الضحايا ولا في اتساع رقعة الاحتجاجات فحسب، بل في ذلك الشرخ العميق الذي أصاب صورة السيطرة المطلقة. شيء ما انكسر في علاقة السلطة بالشارع، لكن الأخطر أنه انكسر في علاقتها بالعقول. في تلك اللحظة، لم تعد الخرطوم مدينة تُراقَب فقط من فوق الأسطح ونقاط التفتيش، بل من داخل الشاشات الصغيرة التي تسكن الجيوب وغرف النوم.
في أحد مقار العمل الأمني بالعاصمة الخرطوم، انعقد اجتماع أمني رفيع المستوى. المكان لم يكن معلناً، ولا الاجتماع مدرجاً في جداول روتينية. لم تُناقش فيه تطورات ميدانية، ولا تهديدات أمنية مباشرة، ولا تحركات مسلحة. بحسب مصدر حضر الاجتماع، تحدث لـ” افق جديد” فقد خُصص بالكامل لمراجعة ما وُصف داخل الغرفة بـ«أداء الدولة في الفضاء الرقمي»، ووضع تصور عملي للتعامل مع تصاعد النشاط المعارض على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها منصة فيسبوك.
داخل القاعة، جلس عدد من القيادات الإسلامية البارزة إلى جانب مجموعة كبيرة من ضباط جهاز الأمن برتب مختلفة. في صدر الاجتماع كان الفريق أول محمد عطا، بصفته رأس الجهاز في تلك المرحلة. إلى جانبه، حضر إعلاميون محسوبون على الحركة الإسلامية. لم يكن حضورهم بصفاتهم الصحفية، بل بوصفهم أدوات خبرة في صياغة الخطاب، وإدارة الرأي العام، وإعادة إنتاج السرديات.
في أطراف القاعة، جلس تقنيون مختصون في تحليل البيانات، وإدارة المحتوى الرقمي، ورصد التفاعل على المنصات الاجتماعية.. كما حضر علاء الدين يوسف، القيادي في ما كان يُعرف داخل الجهاز بـ«كتيبة الجهاد الإلكتروني»،
أمام الحضور، عُرضت على الشاشات خرائط تفاعلية. لم تكن خرائط جغرافية، بل خرائط بشرية رقمية: شبكات حسابات، مسارات انتشار المحتوى، نقاط التأثير داخل مجموعات فيسبوك، تفرعات التفاعل، العقد المركزية، والصفحات التي تُحدث أثراً مضاعفاً. بدا المشهد أشبه بغرفة عمليات، لكن ميدان المعركة لم يكن شارعاً أو ثكنة، بل الوعي العام.
لم يناقش الحضور كيفية إغلاق هذا الفضاء أو حظره. لم تُطرح مسألة قطع الإنترنت أو تعطيل فيسبوك. على العكس، كان هناك اتفاق ضمني بأن تلك الأدوات لم تعد فعّالة، بل باتت عبئاً سياسياً. وفق المصدر، فقد جرى الاتفاق داخل الاجتماع على مبدأ أساسي: الرقابة والحجب لم يعودا أدوات مجدية، وأن إدارة النقاش العام، وتوجيهه، وتفكيكه عند الضرورة، هي الوسيلة الأكثر نجاعة والأقل كلفة سياسية.
من داخل المنظومة
حصلت “أفق جديد” على هذه المعلومات من تقني أمني سابق، عمل لسنوات ضمن وحدات مرتبطة بالعمل الرقمي داخل جهاز الأمن. لم يكن ارتباطه بتلك الوحدات نابعاً من انتماء سياسي، بل من تخصص مهني فرض وجوده داخل هذه المنظومة. طلب المصدر عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية، لكنه قدّم تفاصيل متقاطعة مع شهادات أخرى ووثائق داخلية اطّلع عليها فريق التحقيق.
يقول المصدر إن دافعه للكشف عن هذه المعلومات ليس سياسياً بقدر ما هو أخلاقي. بعد هبّة سبتمبر – بحسب تعبيره – “تحوّل العمل الرقمي من الرصد إلى الهندسة، ومن المتابعة إلى إعادة التشكيل”. يضيف أن كثيراً من الأدوات الرقمية التي جرى تطويرها تحت شعار “حماية الدولة” استُخدمت لاحقاً في تفكيك المجتمع المدني، واستهداف الأفراد، وانتهاك خصوصياتهم، بغرض إعادة توظيفهم قسراً لصالح جهاز الأمن. وفي بعض الأحيان، استُخدمت هذه الأدوات نفسها ضمن صراعات المصالح داخل المنظومة الأمنية والحركة الإسلامية.
هندسة الوعي الجمعي
في السياق الزمني لهذه الوقائع، كانت رئاسة جهاز الأمن والمخابرات الوطني خلال الفترة الممتدة من 2011 إلى 2014 بيد الفريق أول مهندس محمد عطا المولى عباس، الذي تولّى المنصب منذ 2009 واستمر فيه لعدة سنوات. تُعد هذه المرحلة من أكثر الفترات حساسية في تاريخ الجهاز، إذ تزامنت مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية، وهبّة سبتمبر 2013، واتساع الاعتماد على الأدوات الرقمية في التعبئة ضد السلطة أو لصالحها، إلى جانب عمليات الرصد والمتابعة.
أفضى ذلك إلى إعادة هيكلة العمل الأمني ليجمع بين القمع الميداني التقليدي وهندسة الوعي الممنهج للفضاء العام، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فيسبوك، بوصفها الساحة المركزية للصراع على الرأي العام.
من القمع إلى إدارة النقاش العام
خرج الاجتماع بخطة متعددة المستويات، هدفها النهائي التحكم في الوعي الجمعي دون اللجوء المباشر إلى القمع. ارتكزت الخطة على أربع مراحل رئيسية:
الرصد والتصنيف
صناعة المحتوى
تضخيم التأثير
التدخل الانتقائي عند الضرورة
أُوكل تنفيذ هذه المهام إلى ما بات يُعرف داخل الجهاز بـ«كتيبة الجهاد الإلكتروني»، وهي وحدة تضم طيفاً واسعاً من الإسلاميين بتخصصات مختلفة: أمنيين، إعلاميين، تقنيين، وطلاباً جامعيين. تطورت هذه الكتيبة من وحدة تعمل بردة الفعل ضد الأنشطة المعارضة للنظام إلى وحدة تخطيط وتحليل، تعتمد على عناصر مدرّبة وبنية رقمية تحتية متطورة.
وفقاً لذلك، لم تكتفِ بمراقبة الحسابات المعارضة، بل أنشأت قواعد بيانات تفصيلية عن الناشطين، تشمل اهتماماتهم، شبكات علاقاتهم، نقاط ضعفهم، ومدى قابليتهم للاستقطاب أو الاحتواء.
التنظيم السري للحسابات
إحدى أبرز مخرجات الاجتماع تمثلت في تعميم داخلي مُلزم، موجّه لعضوية الحركة الإسلامية وعناصر الأجهزة الأمنية، يقضي بضرورة إنشاء حسابات على فيسبوك غير الحسابات الرسمية وبأسماء مستعارة، بوصف ذلك إجراءً تنظيمياً وليس خياراً فردياً.
وُجّهت «كتيبة الجهاد الإلكتروني» بالقيام بدور مركزي في إنشاء وإدارة مجموعات وصفحات تُجمع داخلها هذه الحسابات وتُنسَّق حركتها. الهدف كان ضمان تماسك العضوية رقمياً، وتوفير أذرع دعم جاهزة للصفحات المساندة للنظام، وتنفيذ الحملات المنظمة، وتوحيد الرسائل والخطاب في اللحظات المفصلية.
يشير المصدر إلى أن هذا التنظيم صُمّم ليعمل كشبكة متماسكة تتحرك بإيقاع واحد، تُضخِّم الرسائل المطلوبة وتمنحها مظهراً عضوياً واسع الانتشار، بما يعزز فاعليتها ويقلّل كلفتها السياسية.
المحتوى كأداة لصناعة التأثير
بحسب المصدر، نجح جهاز الأمن خلال تلك المرحلة في صناعة عدد كبير من المؤثرين على منصة فيسبوك من داخل شبكاته المغلقة، عبر عملية ممنهجة جمعت بين الدعم التقني والتضخيم المتعمد للتفاعل. جرى تزويد هذه الحسابات برصيد كبير من المتابعين خلال فترات زمنية قصيرة، إلى جانب إمدادها بمحتوى جاهز مُنتج باحترافية عالية.
تنوع هذا المحتوى بين العاطفي، الفكاهي، التحليلي، العلمي، والسياسي، وأحياناً أخبار حصرية، بهدف ضمان التفاعل من خارج الشبكات المغلقة. لم يكن الهدف الترويج المباشر لخطاب أمني، بل دسّ رسائل محددة داخل سياقات تبدو طبيعية وغير مسيّسة، مثل:
إعادة تعريف الأولويات
تطبيع الخوف من التغيير
التشكيك في الفعل الجماعي
إعادة إنتاج سرديات بعينها بصيغ خفيفة وقابلة للانتشار
بهذه الطريقة، تحوّل المحتوى نفسه إلى أداة هندسة وعي تعمل ببطء وتراكم، دون أن تترك أثراً مباشراً يشير إلى مصدرها الحقيقي.
صناعة المؤثرين من داخل الشبكة
في المرحلة الأولى، ركزت الخطة على صناعة مؤثرين من داخل شبكة «كتيبة الجهاد الإلكتروني» وما حولها. جرى اختيار أفراد من مجموعات فيسبوك المغلقة بناءً على قدرتهم على التعبير، قبولهم الاجتماعي، واستعدادهم للتعاون. خضع هؤلاء لتدريب مباشر شمل إدارة المحتوى، فهم الخوارزميات، وأساليب التأثير العاطفي.
في البداية، كان المحتوى يُعد بواسطة خبراء، ثم يُمرر للمؤثرين في صورة أفكار عامة، ليبدو وكأنه إنتاج شخصي. لم يُطلب منهم الدفاع عن السلطة أو مهاجمة الخصوم، بل التركيز على قضايا عامة: التخويف من الفوضى، التشكيك في العمل الجماعي، إعادة ترتيب الأولويات الوطنية.
كما استُخدمت المبادرات الإنسانية كغطاء فعّال، إذ أكسبت هذه الحسابات رصيداً أخلاقياً جرى استثماره لاحقاً في تمرير رسائل سياسية خلال لحظات حساسة.
شراء التأثير
في مرحلة لاحقة، انتقلت المنظومة إلى استهداف مؤثرين من خارج الشبكة، من ناشطين سياسيين أو شخصيات مستقلة ذات مصداقية عامة. تم ذلك بشكل مباشر، أو عبر وسطاء، أو عبر أفراد قُدّموا كمستشارين إعلاميين.
لم يُفرض تغيير فجائي على محتوى هذه الحسابات، بل جرى ضبطه تدريجياً: تخفيف حدة النقد، إعادة ترتيب القضايا، أو اعتماد الصمت المدروس في توقيتات محددة. ظلت الصورة العامة للمؤثر محفوظة، بينما تغيّر الدور الوظيفي للحساب دون إعلان.
من القمع إلى التجنيد
خلال عام 2014، اكتمل العمل الرقمي بحملة اعتقالات ممنهجة. لم تكن عشوائية، بل استندت إلى قوائم أُعدّت مسبقاً داخل الفضاء الرقمي بواسطة «كتيبة الجهاد الإلكتروني». في كثير من الحالات، لم يكن الهدف العقاب، بل فتح قنوات للتفاوض.
عُرضت صفقات شملت أموالاً، فرص عمل، سفر، تسهيلات، أو وقف الملاحقة الأمنية. بالتوازي، جرى اختراق الهواتف وأجهزة اللابتوب خلال الاعتقال باستخدام برامج التجسس (RCS)، بحثاً عن محتوى خاص يُستخدم في الابتزاز والضغط.
تحوّل الاعتقال إلى حلقة ضمن منظومة تبدأ بالرصد الرقمي، تمر بالإكراه الميداني، وتنتهي بإعادة التوظيف داخل الفضاء نفسه.
الأسماء والاستمالة
يواصل المصدر سرد التفاصيل،لـ” افق جديد” مؤكداً أن الخطة شملت استمالة أسماء معروفة في الفضاء الرقمي، بعضهم محسوب على التيار المعارض أو المستقل. جرى استقطاب بعضهم عبر صفقات مباشرة بعد الاعتقال أو الاستدعاء، أو بالابتزاز باستخدام محتوى خاص.
ويكشف التحقيق عن أسماء يقول المصدر إنها خضعت لمسارات الاستمالة، من بينها الناشط المعروف بلقب “تأبط خيراً”، إضافة إلى أسماء أخرى يُشار إليها بالأحرف (هـ.ب)، (أ.ر.ج)، (ا.ل.ض) _ في الحلقة القادمة سنأتي عليهم تفصيلا_ يؤكد أن التعامل معهم تنوّع بين الصفقات، الضغوط، والابتزاز، أو الجمع بين “الجزرة والعصا”، مع الحفاظ على صورتهم العامة.
ويضيف أن الخطة لم تنجح مع الجميع، إذ رفض كثيرون التعاون، أو لم تتوفر أدوات للضغط عليهم بشكل يجبرهم للتعاون مع جهاز الامن.
من الطاعون إلى المنصات الرقمية
ما يكشفه هذا التحقيق يجد جذوره في ما وثّقه فتحي الضو في كتابه “الطاعون”. المنهج ذاته، لكن بأدوات مختلفة. ما كان يُمارس عبر النقابات والاتحادات، يُمارس اليوم عبر الحسابات والخوارزميات والمؤثرين.
تغيّرت الأدوات، لكن العقل الأمني بقي ثابتاً: الاختراق بدل المواجهة، والإدارة من الخلف بدل القمع العلني.
ويرصد هذا التحقيق تحوّلاً جذرياً في إدارة السلطة للمجال العام، حيث تُدار المعركة على الوعي قبل أن تُدار على الأرض، ويُعاد تشكيل وعي المجتمع عبر شاشات تبدو بعيدة عن السياسة، لكنها في الحقيقة في قلبها..





