عقد إجتماع جديد
ليس ما يعيشه السودان اليوم مجرّد حرب، بل انكشاف طويل لما كان قائمًا تحت السطح. فالعنف الذي انفجر في أبريل لم يصنع الأزمة بقدر ما عرّاها، ودفع إلى الواجهة أسئلة جرى تأجيلها منذ الاستقلال، ثم الالتفاف عليها، ثم دفنها تحت تسويات مؤقتة. في مثل هذه اللحظات، لا تصبح السياسة مسألة إدارة ممكنات، بل اختبارًا لقدرة المجتمع على إعادة التفكير في ذاته: في دولته، وفي علاقته بالقوة، وفي معنى العيش المشترك بعد كل هذا الخراب.
من هنا، تكتسب بعض الأطروحات أهميتها لا لأنها تقدّم حلولًا جاهزة، بل لأنها تعيد ترتيب الأسئلة على نحو مختلف. ليس السؤال: كيف نوقف الحرب فحسب، بل: لماذا عادت الحرب بهذا الشكل؟ وليس: من يملك الشرعية اليوم، بل: لماذا صارت الشرعية نفسها قابلة للمصادرة بالقوة؟ إن التفكير في السودان بوصفه “دولة مأزومة” لم يعد كافيًا؛ ما بات مطلوبًا هو مسألة النموذج الذي أنتج هذا المأزق مرارًا، ثم عجز عن الخروج منه.
الدولة السودانية، كما تشكّلت تاريخيًا، لم تُبنَ على عقد اجتماعي مكتمل، بل على توازنات هشة بين المركز والهامش، وبين المدني والعسكري، وبين السياسة بوصفها تعبيرًا عن المجتمع، والسلطة بوصفها أداة سيطرة. وحين فشلت هذه التوازنات، لم يُفتح نقاش التأسيس، بل جرى التعويض بالقوة: انقلاب يعالج أزمة، ثم انقلاب يعالج فشل الانقلاب السابق، في دورة لم تنتج دولة، بل تراكمت هشاشتها.
ما جعل هذه الدورة ممكنة، ليس طموح العسكر وحده، ولا إخفاق المدنيين وحدهم، بل غياب اتفاق عميق على قواعد اللعبة نفسها. فالدولة التي لا يُتفق على طبيعتها، وحدود سلطتها، ومصدر شرعيتها، تظل عرضة لأن تُختطف باسم الأمن، أو الدين، أو الوحدة الوطنية. وفي كل مرة، كان يتم تقديم “الاستقرار” بوصفه نقيضًا للحرية، و”الإنقاذ” بوصفه بديلًا عن التأسيس.
الحرب الحالية أعادت طرح هذا التناقض بأقصى درجاته. فميزان القوة الذي يفرض نفسه اليوم بالسلاح، لا يمكن أن يتحول إلى أساس دائم للشرعية من دون أن يزرع بذور حرب مقبلة. والتاريخ القريب، في السودان وفي محيطه، يبيّن أن الدول التي أعادت بناء نفسها على منطق الغلبة العسكرية، لم تنتج استقرارًا، بل أرجأت الانفجار. من هنا، يصبح السؤال عن مستقبل الدولة بعد الحرب سؤالًا سياسيًا وأخلاقيًا في آن واحد: هل يُراد لهذا البلد أن يُدار بوصفه غنيمة، أم بوصفه فضاءً مشتركًا؟
في هذا الإطار، يكتسب حديث رئيس حكومة الفترة الانتقالية ورئيس تحالف القوى الديمقراطية المدنية ” صمود” عبد الله حمدوك في المقابلة التي أجرتها معه ” أفق جديد” عن عقد اجتماعي جديد معناه الحقيقي. ليس باعتباره وثيقة دستورية فحسب، بل باعتباره إعادة تعريف للعلاقة بين الدولة ومواطنيها، وبين القوة والقانون، وبين التنوع والوحدة. العقد الاجتماعي ليس شعارًا يُرفع في المؤتمرات، بل عملية شاقة تعترف بالخلل البنيوي، وتسمّي الأشياء بأسمائها: بأن الدولة فشلت في استيعاب تعددها، وبأن السلطة تحوّلت إلى أداة إقصاء، وبأن العنف صار لغة السياسة حين انسدّ أفقها.
كما أن تفكيك الإرث السلطوي، أيًا كان غطاؤه الأيديولوجي، لا يمكن أن يتم عبر النسيان أو المساومة. التجارب المقارنة تشير بوضوح إلى أن المجتمعات التي تجاوزت حروبها الأهلية لم تفعل ذلك عبر إعادة تدوير النخب ذاتها، بل عبر وضع حدود صارمة بين المشاركة السياسية المشروعة، وإعادة إنتاج منظومات حكم أثبتت تدميرها للدولة. هنا، لا يعود السؤال أخلاقيًا فقط، بل عمليًا: أي دولة يمكن أن تُبنى إذا لم تُحسم علاقتها بماضيها القريب؟
وفي المقابل، لا يمكن تخيّل إعادة تأسيس الدولة من دون استعادة السياسة من قبضة السلاح. فالعسكرة لم تبتلع الدولة وحدها، بل أفرغت المجتمع من أدواته المدنية، ودفعت الناس إلى البحث عن الحماية في الهويات الضيقة. إعادة الاعتبار للمجتمع، ولمبادراته، ولقدرته على ترميم نسيجه، ليست ترفًا، بل شرطًا لأي سلام قابل للحياة. الدولة التي لا تستند إلى مجتمع متماسك، ستظل دولة قسرية، مهما تغيّرت شعاراتها.
أما الخارج، بكل ثقله الإقليمي والدولي، فلا يدخل الفراغ إلا حين يُترك له. البلدان التي تفشل في حسم صراعاتها الداخلية، تتحول تلقائيًا إلى ساحات نفوذ. وفي هذا المعنى، فإن استعادة القرار الوطني ليست مسألة سياسة خارجية فقط، بل نتيجة مباشرة لإعادة بناء الداخل على أسس واضحة ومتفق عليها.
قد لا يكون في هذا الطرح ما يرضي الجميع، ولا ما يقدّم إجابات سريعة لأسئلة ملحّة. لكنه يذكّر بحقيقة غالبًا ما تُنسى في زمن الحروب: أن الدول لا تُنقذ بإدارة الأزمات وحدها، بل بإعادة التفكير في الأسس التي جعلت هذه الأزمات ممكنة. والسودان، وهو يقف على حافة تاريخية فاصلة، لا يملك رفاهية تأجيل هذا التفكير مرة أخرى.