
حاتم ايوب ابوالحسن
ليس ما يجري في السودان مجرد حرب بين جنرالين أو صراع نفوذ عابر، بل هو انفجار تاريخي مؤجَّل لفشل الدولة الوطنية نفسها، حين عجزت عن التحول من دولة سلطة إلى دولة مجتمع، ومن حكم القوة إلى شرعية السياسة. الحرب لم تُربك المشهد السياسي فحسب، بل عرّت جوهره، وكشفت أن معظم الفاعلين، مدنيين وعسكريين، لم يغادروا عقلية الغنيمة، وأن الدولة ظلت لسنوات مشروعًا مؤجلًا خلف واجهات الشعارات.
في هذه اللحظة، لم يعد من المجدي قراءة الواقع السوداني بمنطق اليمين واليسار التقليدي، لأن الاصطفافات الأيديولوجية انهارت أمام اختبار الحرب. ما نشهده هو انتقال السياسة من ساحة البرامج إلى ساحة التبرير، ومن التنافس على المستقبل إلى الصراع على رواية الموت. كل طرف يسعى لاحتكار تعريف الوطن، وكل خطاب يدّعي الوطنية بقدر ما يطلب من المجتمع الصمت أو الاصطفاف.
العسكر، بتكويناتهم المختلفة، لم يعودوا حماة دولة، بل أطرافًا تتنازع على شرعنة القوة. خطاب “الحرب الوطنية” ليس سوى أداة قديمة لإعادة إنتاج السيطرة، حيث تُختزل الدولة في الجيش، ويُصوَّر المدني إما تابعًا أو مشتبَهًا فيه. الأخطر أن هذا الخطاب وجد غطاءً من قوى سياسية كان يُفترض أن تكون حارسة لاستقلال السياسة، لكنها فضّلت الاحتماء بالمؤسسة العسكرية أو التماهي معها، فخسرت موقعها الأخلاقي قبل أن تخسر قدرتها على التأثير.
الحركات المسلحة، التي نشأت أصلًا احتجاجًا على مركز الدولة، وجدت نفسها اليوم جزءًا من مركز أزمة جديد. تحالف بعضها مع الجيش والإسلاميين لم يكن نابعًا من مشروع وطني جامع، بل من حسابات الخوف: الخوف من الإقصاء، من فقدان الامتيازات، أو من صعود قوى منافسة. أما الحركات التي انجذبت إلى تحالفات ترفع شعار السودان الجديد، فقد حملت معها تناقضًا جوهريًا يتمثل في محاولة بناء مشروع تحرري بالشراكة مع قوى عسكرية متهمة بإنتاج عنف واسع النطاق. هنا لا تكمن المعضلة في النوايا، بل في منطق السياسة حين تُبنى فوق فوهة البندقية، وحين يُطلب من الضحية أن تؤجل سؤال العدالة باسم التغيير.
تحالفات ما بعد الحرب، سواء تلك التي تطرح نفسها كبديل جذري أو التي تقدم نفسها كخيار وسطي عقلاني، تعكس جميعها انسداد الأفق السياسي أكثر مما تقدم حلولًا مكتملة. فالمشاريع التي تراهن على القوة العسكرية تفشل في تقديم ضمانات أخلاقية للدولة القادمة، وتلك التي تراهن على التسويات الدولية تفتقر إلى قاعدة اجتماعية قادرة على فرض التحول. وبين هذا وذاك، تتآكل الثقة الشعبية، ويزداد الشعور بأن السياسة تُدار بعيدًا عن معاناة الناس لا انطلاقًا منها.
أما الثورة، فهي لم تمت كما يُشاع، لكنها غادرت المشهد الصاخب إلى عمق المجتمع. صارت أقل ضجيجًا وأكثر وعيًا، أقل ثقة في النخب، وأكثر حذرًا من أن تُختطف مرة أخرى باسم الواقعية أو الضرورة. القمع والحرب لم يُنهيا الثورة، بل جعلاها طويلة النفس، بلا قيادة مركزية، لكنها أيضًا بلا أوهام، تحتفظ بذاكرة الدم، وتراقب كل من يحاول التحدث باسمها.
المجتمع الدولي، من جهته، لا يسعى إلى سلام جذري بقدر ما يسعى إلى إدارة الفوضى. الضغوط المحدودة، الهدنات الهشة، والصمت الانتقائي، تؤكد أن السودان يُدار كملف أمني لا كقضية شعب يبحث عن دولة. أما منابر التفاوض، فتعجز عن إنتاج سلام مستدام لأنها تتعامل مع الحرب كخلل مؤقت، لا كنتيجة لبنية سياسية مختلة منذ الاستقلال.
نحن أمام مأزق مزدوج: حرب لا يستطيع أي طرف حسمها، وسياسة عاجزة عن كبحها. السؤال لم يعد من ينتصر، بل هل ستولد السياسة من جديد أم سنظل نعيد تدوير العنف بأسماء مختلفة؟ السودان يقف في لحظة ما بعد الموت الجماعي، حيث لا عودة إلى ما قبل الحرب، ولا إمكانية للاستمرار في الحاضر دون ثمن وجودي.
المستقبل لن تصنعه التحالفات الهشة ولا الخطابات الوطنية الجوفاء، بل قدرة السودانيين على كسر منطق السلاح، وبناء عقد أخلاقي جديد للدولة، تُحاسَب فيه القوة بدل أن تُقدَّس، وتُستعاد فيه السياسة بوصفها أداة حياة لا ذريعة للموت. إما أن نؤسس وطنًا يُدار بالسياسة، أو نستمر في دفن الوطن تحت أنقاض “الانتصارات.
كاتب سوداني