حين يُعاد تشكيل الإقليم دونك

محمد شمينا

لم يعد امن البحر الأحمر مجرد ممرٍ مائيٍ تتنازعه السفن التجارية والأساطيل العابرة، بل تحوّل بهدوء إلى مساحة سياسية مكتملة الصراع، تُدار فيها التوازنات بوسائل أقل صخبًا من الحروب وأكثر أثرًا من البيانات. ما يجري فيه وحوله لا يُقرأ من زاوية الأمن البحري وحدها، بل من زاوية إعادة ترتيب الإقليم، حيث تُعاد صياغة الخرائط لا عبر الاحتلال المباشر، وإنما عبر الاعتراف، وبناء الشراكات الانتقائية، واستثمار الفراغات السيادية.

 

في هذا السياق، لا يبدو الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال حدثًا معزولًا أو تفصيلاً هامشيًا في ملف القرن الإفريقي. هو فعل سياسي محسوب، يتجاوز منطق التصريحات، ويستهدف تثبيت موطئ قدم في خاصرة أمن البحر الأحمر، خارج تعقيدات الدولة الصومالية المركزية، وبعيدًا عن الاشتباك مع الشرعية الدولية التقليدية. الاعتراف هنا لا يُقرأ كدعم لكيان ناشئ بقدر ما يُفهم كأداة لإنتاج أمرٍ واقع، تُدار من خلالها المصالح في بيئات هشة تبحث عن الاعتراف، فيما تبحث القوى الأخرى عن النفوذ.

 

أرض الصومال، بما تمثله من شريط ساحلي مهم، تتحول في هذا المعنى إلى حلقة جديدة في سلسلة النفوذ الممتدة من خليج عدن حتى باب المندب. ليست المسألة مسألة دولة أو تقرير مصير، بل مسألة تموضع استراتيجي في زمن لم تعد فيه القواعد العسكرية تُقام بالضرورة، بل تُستبدل بشبكات مصالح، وترتيبات أمنية، واعترافات سياسية تُنتج النتائج ذاتها دون ضجيج.

 

وسط هذا كله، يظهر السودان لا كطرف فاعل، بل كمساحة مفتوحة لاحتمالات الآخرين. موقعه الجغرافي، الذي طالما قُدِّم كميزة استراتيجية، تحوّل في ظل هشاشة الدولة وانقسام القرار إلى عبءٍ ثقيل. فالدولة التي لا تملك رؤية واضحة لموقعها في الإقليم، تصبح تلقائيًا جزءًا من رؤية غيرها، حتى وإن لم تُدعَ إلى الطاولة.

 

ولا يقتصر الخلل على التحركات البعيدة أو التوازنات الدولية، بل يتصل على نحوٍ أعمق بالجوار المباشر الذي يتحرك بمنطق الدولة طويلة النفس. فحين تمتلك دولة مجاورة تصورًا متماسكًا لأمنها ومصالحها، وتسعى لترتيب محيطها الإقليمي وفق هذا التصور، بينما يقابلها طرفٌ منشغل بصراعاته الداخلية، فإن اختلال الميزان يصبح بنيويًا لا ظرفيًا. في مثل هذه الحالات، تتحول الملفات الحدودية، والمياه، والمنافذ، والتحالفات الإقليمية إلى أدوات ضغط صامتة، لا تُستخدم بالضرورة في لحظة مواجهة، بل تُراكم أثرها بمرور الزمن، لتعيد تشكيل الواقع الأمني دون إعلان.

 

ويزداد هذا الاختلال وضوحًا حين تكون بعض دول الإقليم محكومة بجغرافيا تضغط على خياراتها الاستراتيجية، فتسعى باستمرار إلى كسر قيود الداخل عبر البحث عن منافذ بديلة. هنا لا يعود الوصول إلى البحر خيارًا اقتصاديًا، بل ضرورة أمنية تُبنى حولها سياسات طويلة المدى، وتحالفات مرنة، ومقاربات صبورة لا تستعجل النتائج. ومع غياب رؤية سودانية مقابلة، تصبح الجغرافيا المشتركة مساحة مفتوحة لإعادة ترتيب الأدوار، لا وفق ميزان السيادة، بل وفق ميزان المبادرة.

 

الخطر على السودان، في هذا السياق، لا يكمن فقط في تمدد نفوذ قوى جديدة على البحر الأحمر، بل في غياب استراتيجية وطنية مضادة. حين يُعاد تشكيل الإقليم من حولك، وأنت غارق في أزماتك الداخلية، فإن موقعك لا يُنتزع بالقوة، بل يُعاد تعريفه دونك. البحر الذي تطل عليه البلاد يتحول إلى مسرح لآخرين، والموانئ تنتقل من كونها أوراقًا سيادية إلى نقاط تفاوض تُدار بحسابات قصيرة النفس، لا من مركز قرار وطني جامع.

 

الأخطر من ذلك أن الاعترافات السياسية، مثل الاعتراف بأرض الصومال، تفتح الباب أمام نموذج قابل للتكرار تفكيك الدول الهشة إلى وحدات أصغر، أكثر قابلية للاستخدام الجيوسياسي. وهو نموذج لا يقف عند حدود الصومال، ولا يستثني السودان إذا ما استمر في حالة السيولة السياسية وتآكل فكرة الدولة.

 

ما يجري في البحر الأحمر، إذن، ليس صراعًا على الماء، بل على المعنى. معنى الدولة، ومعنى السيادة، ومعنى أن تكون حاضرًا في لحظة إعادة تشكيل الإقليم. والسؤال الذي يفرض نفسه ليس من يسيطر على البحر الأحمر؟ بل من يملك حق تعريفه، ومن يُترك خارج هذا التعريف.

 

وفي المحصلة، لا تبدو أزمة السودان وليدة مؤامرات خارجية بقدر ما هي نتاج قصر نظر سياسي مزمن، اقترن بسياسات ذاتية مصلحية جعلت الأولويات الوطنية أسيرة الحسابات الضيقة. هذا المزيج جعل القرار الوطني ردّ فعليًا في معظم الأحيان، تُدار القضايا الاستراتيجية بعقلية المكسب الفوري، لا بعقلية البناء طويل الأمد. وفي إقليم يُعاد تشكيله بالصبر والتراكم، لا يُقصى الغائب لأنه ضعيف، بل لأنه لم يطور رؤيته بما يكفي لقراءة المشهد، ولأن أطماعه الذاتية طغت على المشروع الوطني الشامل.

 

أما على صعيد الفاعلين الإقليميين، فهناك من يسعى إلى إعادة ترتيب المشهد بما يخدم مصالحه الخاصة، أحيانًا عبر خلق توترات أو استغلال الفراغات، بينما هناك من يسعى لاستقرار المنطقة ودعم الأطر التي تعزز الأمن والاستقرار. وفي الوقت نفسه، ثمة من يراقب المشهد عن كثب، مستعد للتحرك إذا اقتضت الحاجة للحفاظ على مصالحه الحيوية، أو لمنع تحولات قد تهدد توازن الإقليم. أمام هذه التفاعلات، يظل الخيار الأكثر أمانًا واستدامة للسودان هو أن يقود عملية حل أزمته بنفسه، عبر توافق وطني حقيقي، يضع المصلحة العليا للدولة فوق كل الاعتبارات الخارجية والداخلية الضيقة.

 

 

Exit mobile version