لا شيء غير الاعتراف
السر السيد
تمثل الدراما الإذاعية والتلفزيونية أرشيفًا ثرًا للحكايات والأفكار والمقولات. ربما لمشاغل الحياة أو أشياء أخرى يفوتني الاستماع إلى مسلسل بثته الإذاعة القومية أو تفوتني مشاهدة مسلسل بثته إحدى القنوات السودانية، ولتخصصي وربما لشغفي الخاص أيضًا بهذا النوع من الفنون أجد إلحاحًا ما في نفسي للحاق بما فاتني استماعًا أو مشاهدة، وهو أمر متاح لي بحكم عملي أو قربي من منصات البث هذه.
على سبيل المثال عكفت على مشاهدة مسلسل “مهمة 56″، وهو مسلسل سوداني كتبه قسم الصلحي وأخرجه شكر الله خلف الله، وبثه التلفزيون القومي قبل سنوات، ومما استمعت إليه كذلك مسلسل “لا شيء غير الاعتراف”، وهو ما سأكتب عنه في هذه السانحة.
مسلسل “لا شيء غير الاعتراف” بثته الإذاعة السودانية في رمضان من العام 2016، وهو مكون من عدد “30 حلقة “، ومن تأليف الأستاذ (فاروق حسن آدم)، وأعده للإذاعة الكاتب المعروف أنس عبد المحمود. لعل أكثر ما يلفت النظر في هذا المسلسل هو وضعية النص، وهي وضعية نادرة في تجربة النص الدرامي الإذاعي، ونادرة أكثر في تجربة المؤلف أنس عبد المحمود، فمن الواضح أن الأستاذ فاروق قدم عملًا يراوح بين تقنيات السرد وتقنيات الدراما، وأنس قام بالإعداد الإذاعي، وهي وضعية أعتقد أنها أتاحت براحًا كبيرًا لأنس، فمن طبيعة الحكاية ومنطقها الداخلي نلمس أن الأستاذ فاروق قد بنى عالمًا محتشدًا بالشخصيات والأحداث والأفكار والمقولات، وهو ما أتاح لأنس أن يكتب مسلسلًا يزاوج بين ما هو فلسفي وما هو اجتماعي ويومي، فمسلسل “لا شيء غير الاعتراف” مسلسل يقدم حكاية الموظف “ميسرة تاج السر”، حكايته مع الصداقة، ومع الحب، ومع الأبوة، ومع الزواج، ومع العمل، وبمعنى أعمق حكايته مع الزمن… باختصار حكايته مع الناس والمكان. فميسرة تاج السر الشخصية المحورية في المسلسل التي قدمها الممثل القدير “محمد عبد الرحيم قرني”، شخصية مركبة، تعيش في الماضي ويكتنفها إحساس كبير بالعبث توصلت إليه بعد رحلة طويلة في عالم الاغتراب تمخضت في الأخير عن الفشل.. الفشل الذي سعى ميسرة تاج السر بعد ذلك في أن يجعله قانونًا يحكم به كل من حوله وأول هؤلاء زوجته وبنته وولده.
ولأن المسلسل في مستوى من مستوياته ينحو منحى فلسفيًا فقد أفرد حيزًا كبيرًا لمقاربة (فكرة الزمن) ومدى تحكمها في الإنسان، وبما أن فضاء المسلسل في علاقاته البنيوية العميقة يتحرك في ثيمات الصداقة التي يمثلها تاج الدين، وهو الشخصية التي قدمها الفنان المبدع أحمد إسماعيل، وتمثلها نهى وهي الشخصية التي قدمتها الفنان حنان الجاك، ويمثلها كذلك حسن، وهي الشخصية التي قدمها الفنان الكندي الأمين، ويتحرك فى ثيمة الحب التي تمثلها بجدارة شخصية هناء ابنة ميسرة، وهي الشخصية التي قدمتها الفنانة إيمان إبراهيم، وتمثلها كذلك شخصية أمينة الأم وزوجة ميسرة، وهي الشخصية التي مثلتها الفنانة أميرة أحمد إدريس. هذه العوالم المقذوفة في بحر الزمن وتموجاته تكتمل بوجود شخصيات تتعامل مع الحياة بواقعية وبساطة مثل شخصية إقبال، التي مثلتها الفنانة القديرة نادية بابكر، وشخصية عصمت التي مثلها الفنان المتميز طارق علي، وشخصية يوسف ابن ميسرة التي مثلها الفنان غدير ميرغني، وشخصية مبارك التي قدمها الفنان الكبير السر محجوب. لعبة الزمن هذه التي تمثل بلاغة المسلسل من خلال تطور شخصيته المحورية ومصيرها الذي نقف عليه عندما (تعترف)، فالمسلسل في الأخير وعبر بطله ميسرة تاج السر يقول: (قتلت نفسي في الزمن الحي… تجيبوني في الزمن الميت… غربة وأكلت ميسرة أكل…).
لا شيء غير الاعتراف مسلسل يتعدى القول اليومي إلى القول الذي يلامس ما هو فلسفي ووجودي من خلال فضحه لذوات أبطاله وأحلامهم وإراداتهم… إنه مسلسل يحاول أن يبني جسرًا بين العقل والعاطفة.
أخيرًا تحيتي موصولة لمخرج المسلسل ومساعديه الفنان محمد بشير دفع الله وللكاتب الأستاذ (فاروق حسن آدم)، الذي نأمل أن يستمر وأن يكون إضافة نوعية للدراما السودانية .