صبي بيهار وطفلة بربر

أسئلة الحرب لبلابستها

 

صبي بيهار: الحياة حق.. أخبرني لماذا تريد أن يموت الجميع؟ طفلة بربر: أبي في الجنة، لكن لماذا حولتم بلادًا كاملة لجحيم؟

الزين عثمان

لدى عقل أفكر به وهو الذي ألهمني العبارة “تعيش باكستان، تعيش الهند، كلنا بشر من حقنا الحياة” قالها الصبي الهندي محمد كيف في قمة الهيجان في شبه القارة الهندية. لم ينسَ أن يلقن المذيع الذي حمل أدوات إشعال النيران بين الهند وباكستان درسًا بليغًا: “اخبرني لماذا تريد ـن يقتل الجميع الجميع. يمكننا أن نعيش دون أن يدمر أحدنا الآخر، هذه المنطقة تسع الهنود والباكستانيين معًا”.

السبت أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نجاح مجهوداتهم في تسوية النزاع بين الهند وباكستان، وتوافقهما على إيقاف فوري لعمليات إطلاق النار. ما يعني انتصار صوت العقل وتحليق حمامة السلام في زمان العالم المجنون والمحتشد بالصراعات. وغرد ترامب بعد ليلة طويلة من المحادثات التي توسطت فيها الولايات المتحدة: “يسعدني أن الهند وباكستان اتفقتا على وقف كامل وفوري لإطلاق النار. تهانينا للبلدين على استخدام الحس السليم والذكاء العظيم” .

عامان وأكثر والحرب السودانية مشتعلة. عامان من تبادل عبارة “بل بس” ورصيفتها “جغم بس”. عامان وحرب الجيش والدعم السريع تأكل أخضر ويابس البلاد المنهكة وشعبها المغلوب على أمره. عامان والقذائف التي وجهت لمحاولات الوصول للسلام أكثر من تلك التي تبادلها الغريمان في ساحة المعركة. المفارقة أنه وبالتزامن مع خبر تسوية نزاع شبه القارة الهندية كان السودانيون يتابعون مشهد مكرر للحرائق هذه المرة داخل المدينة التي اختارتها الحكومة عاصمة مؤقتة بورتسودان، الحريق المشتعل منذ خمسة أيام دون أن تنجح محاولات الإطفاء في القضاء عليه، هذه المرة كان المشهد بحضور الفنانة ندى القلعة، وبالطبع السؤال إذا كانت من تدعم استمرار الحرب هي من يطفئ نيرانها فمن الذي أشعلها.

الحرب التي تم التحشيد لها بأنها ستكون خاطفة “ست ساعات” وينتهي كل شيء ما تزال مشتعلة، وما كان لها أن تستمر لو وجدت “محمد كيف” في وقته ذلك الذي يخبر من يشعلونها أن السودان وطن يسع جميع أهله، لماذا تريدون قتل الجميع وتحطيم بنية تحتية محطمة أصلًا ألا يوجد أحد يمكنه أن يستخدم العقل ليخبر الآخرين إنه لا يوجد منتصر، وأن الهزيمة ستلتصق في ثياب الجميع.

لكن من تبنوا موقف “كيف الهندي” في الحالة السودانية، وأعلنوا رفضهم للحرب من خلال إطلاقهم شعار “لازم تقيف” في مقابل شعار “بل بس”، وجدوا أنفسهم في مواجهة حرب أشد ضراوة أقل ما فيها اتهامهم بمساندة قوات الدعم السريع المتمردة، وهي الاتهامات التي انتهت لتقديم بلاغات ضدهم ومطاردتهم بواسطة الأجهزة العدلية التي تم توظيفها لخدمة مشروع الدعاية الحربية. المدهش أن المساهمة في إيقاف الحرب بين الهند وباكستان لعبت فيها المملكة العربية السعودية الدور الأكبر، والمملكة ذاتها استبقت تطورات الحرب السودانية بدعوة طرفيها لمنبر جدة التفاوضي قبل أن ينتهي إلى لا شيء نتيجة الضغوط التي مارسها منسوبو النظام المحلول على قيادات الجيش، بل إن الحملات نجحت أيضًا في إفشال مفاوضات المنامة التي وصلت لتفاهمات كبيرة في عملية التسوية، لكن الضغط الإعلامي وتسريب المفاوضات أدى إلى فشلها، من فعلوا ذلك بدوا وكأنهم يرددون ذات ما قاله المذيع الداعم للحرب للصبي “ألا تخجل من نفسك وأنت تقول عاشت باكستان”.

فيديو ما قبل الحرب الهندية الباكستانية يضعك في مواجهة آلاف الفيديوهات التي يسرد أهلها وجعهم مع الحرب السودانية ومآلاتها الكارثية منذ الطلقة الأولى وحتى الحرائق التي لا تزال مشتعلة في الساحل. لكن فيديو وحيد يمتحن كل شيء فينا تم بثه على منصات “أفق جديد”، فيديو يحكي مأساة طفلة سودانية بلسان براءاتها تحكي فيه أهوال ما حدث، رحلتها هروبًا من الموت ووصولها إلى مدينة بربر قبل أن يستقر بها المقام مع ملايين دفعت بهم حرب السودان نحو مصر. تقول الصغيرة إن والدها صعد إلى السماء، وهو هناك في الجنة بفعل الحرب، وأن ما يطمئن خوفها هو قراءتها الإخلاص والمعوذتين وآية الكرسي لأن أهلها أخبروها أن حفظ الله أكبر وأعظم من أسلحة الموت. عليك تخيل أن من تقول هذا الحديث طفلة في السادسة من عمرها.

الصغيرة تحدثكم “مرة أبوي كتلوه” محاولاتهم إقناعها بأن أبوها صعد للجنة لا تجدي نفعًا، جنة الصغار أن يبقى أبوك وأمك حولك، جنة الصغار أن ينالوا حقهم في التعليم والعلاج داخل وطنهم الذي يغني من يخربه الآن بأنه “جنة رضوان”، الجنة أن تكون في وطنك لا أن تطير من مكان إلى مكان بحثًا عن الأمان. جنة الصغيرة أن يمنحوها إجابة لسؤالها لماذا حولوا بلادًا كاملة إلى جحيم؟

المأساة لا تبدو فقط في عجزهم عن إجابة سؤالها، المأساة أن من صنعوا الجحيم مصرين على الاستمرار في الحريق حتى النهاية لا يردعهم عن ذلك رادع، معركتهم التي بدأت ضد تمرد الدعم السريع حسب الدعاية تطورت لتصبح حربًا ضد أهل مدن كاملة بمبررات التعاون، تقدمت أكثر لتصبح ضد مجتمعات كاملة تحت مبرر “الحواضن”، وتمددت إقليميًا لتصبح حربًا في مواجهة دولة الإمارات وارتفع صوتهم أكثر ليعلنوها حربًا ضد الصين باعتبارها من تصنع المسيرات. وهي في كل مراحلها حرب ضد شعب من أجل تأديبه على ثورة أسقطتهم من كراسي السلطة. وفي كل خطواتهم يؤكدون على فرضية واحدة أنهم يفوقون سوء الظن العريض.

بين فيديو محمد كيف من الهند الذي استفز بعقليته “البلبوسي” هناك، وفيديو الصغيرة التي غادرت السودان بفعل الحرب الذي استفز بحزنه الإنسانية حكاية واحدة مفادها أن أجمل ما في الحرب نهايتها، وأجمل من نهايتها هو ألا تشتعل نيرانها من البداية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى