ما وراء الأرقام: شهادات حية تكشف خلل نتائج شهادة 2023 المؤجلة
أفق جديد: تقرير
أثناء عملية التصحيح بإحدى القاعات في مدينة شندي بولاية نهر النيل، فوجئت المعلمة عفاف يوسف، عند فتحها أحد مظاريف امتحان مادة اللغة العربية، بوجود ورقة امتحان تخص مادة الكيمياء داخل الظرف المخصص للعربية.
لم يكن ذلك مجرد خطأ بريء في الترتيب، بل كان مؤشراً خطيراً على فوضى أوسع في منظومة تصحيح امتحانات الشهادة الثانوية للعام 2023، التي ظل الطلاب السودانيون داخل وخارج البلاد ينتظرون نتائجها وسط مخاوف وقلق متزايدين.
والامتحانات، المعروفة بـ”الدفعة المؤجلة”، هي امتحانات خاضها طلاب كان من المفترض أن يؤدوا امتحاناتهم قبل عامين، لكنهم تأثروا باندلاع حرب 15 أبريل، ما أدى إلى تعليق الدراسة في معظم الولايات، وتأجيلها أكتر من مرة، لتعقد مؤخرًا بحلول ديسمبر 2024م، في ظل ظروف استثنائية، قبل أن تعلن النتيجة في مايو الجاري .
من داخل غرف التصحيح
قالت عفاف لـ(أفق جديد): “تأخر تسليم الأوراق لنا لمدة يومين، طلبوا منا أن نُجامل الطلاب لأنهم ضحايا حرب، لكن بعض المجاملات تجاوزت حد المعقول وتحولت إلى تلاعب ظاهر”.
استدعت عفاف للمشاركة في التصحيح، وأشارت إلى أنه “تم اختيار 7 معلمين من كل محلية للمشاركة في تصحيح المواد الأساسية، واثنين من كل محلية للمواد الفرعية، وكموجهة للغة العربية، تم اختيارها للمشاركة في تصحيح مادة اللغة العربية.
أضافت: في البداية تم إبلاغنا بأن التصحيح سيبدأ في 1 فبراير، ثم تم تأجيله إلى 8 فبراير، وبعدها إلى 15 فبراير. وفي اليوم الأول جلسنا في مركز التصحيح طوال اليوم دون أن تصلنا الأوراق، وسمعنا حينها أن هناك مشكلة في الكود.
في اليوم التالي، تلقّى المصححون تعليمات واضحة بمراعاة ظروف الطلاب الذين أدّوا امتحاناتهم في ظل الحرب، وذلك بإظهار نوع من “المرونة” في التصحيح. قالت عفاف: تم توجيهنا صراحة إلى أن الحد الأدنى لمادة التعبير يجب ألا يقل عن 8 درجات، بغض النظر عن جودة المحتوى. وحتى في أسئلة الشعر، إذا أجاب الطالب على بيت واحد بشكل صحيح وأخطأ في الآخر أو لم يكمله، يُمنح الدرجة كاملة. وقد التزمت تمامًا بهذه التوجيهات أثناء التصحيح.
وتروي عفاف ما حدث في غرفة التصحيح رقم (6) قائلة: “عندما فتحنا أحد المظاريف، اكتشفنا وجود ورقة امتحان مادة الكيمياء داخل مظروف مادة اللغة العربية” وأردفت: زميلي قام بأخذ الورقة إلى رئيس الحجرة، ثم تم رفعها إلى الكنترول. وتم التحقق من اسم المراجع وسحب الورقة”.
وفي اليوم التالي، حضر مسؤول من الكنترول إلى مركز التصحيح وسأل عن المجموعة التي اكتشفت الورقة المخالفة. وأكدت عفاف التي تمتلك خبرة تمتد لـ27 عاماً في التدريس والتصحيح، أن ما حدث يُعد سابقة في مسيرتها المهنية.
قصة الأستاذة عفاف لم تكن الوحيدة التي أثارت الشكوك، بل كانت نقطة البداية لسيل من الإفادات التي انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يشكو فيها طلاب من أخطاء فادحة في التصحيح ورصد الدرجات، العشرات تحدثوا لـ(أفق جديد) عن تجاربهم، كاشفين عن رسوب جماعي، نتائج متناقضة، ومؤشرات خطيرة على وجود خلل في “أكواد الطلاب” والنظام الإلكتروني الخاص بالنتائج.
ثلاث نتائج لطالب واحد
حسين عبدالباقي، والد الطالب مصعب، تحدث لـ(أفق جديد) عن ظهور ثلاث نتائج مختلفة لابنه، تتراوح بين 63% و73%، وبينها أخرى تشير إلى “رسوب”، متسائلاً: “أيها هي النتيجة المعتمدة؟ ولماذا التلاعب؟”. يقول حسين إن ابنه يعاني نفسياً بعد أن احتفل بالنجاح، قبل أن يتلقى صدمة الرسوب.
رسائل غامضة ومساومات
في واحدة من الشهادات المقلقة، كشف طلاب عن تلقيهم عروضاً لتعديل نتائجهم مقابل مبالغ مالية تصل إلى 13 ألف جنيه مصري، من أمثلة ذلك الطالب سليمان، الذي جلس لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2023 من داخل السودان، تواصل مع شخص عبر رقم واتساب أرسله له أحد الأصدقاء، ادعى أنه يستطيع تعديل النتيجة بمقابل مالي. يحكي سليمان: “طلب رقم جلوسي واسم والدتي رباعي، وأخبرني أن التعديل يكلف 13 ألف جنيه مصري”. إلا ـن الطالب رفض تحويل المال دون معلومات إضافية.
لم تؤكد وزارة التربية والتعليم صحة هذه الرسائل أو تتخذ إجراءات لطمأنة الطلاب وملاحقة المحتالين.
“قاتلنا لأجل النجاح.. فصدمنا برسوب لا نستحقه”
قال الطالب عبد الرحمن الشيخ محمد، أحد طلاب دفعة الشهادة السودانية المؤجلة للعام 2023، في إفادته لـ(أفق جديد) إنه اجتهد كثيراً واستعد للامتحانات رغم الظروف النفسية والأمنية القاسية التي مر بها هو وزملاؤه. وأوضح أنه كان قد أحرز نسبة 71% في الامتحان التجريبي، وكان يتوقع نتيجة أعلى في الشهادة، خاصة أن أسئلة التجريبي كانت أصعب من أسئلة الشهادة الفعلية.
وأشار إلى أن الحرب تسببت في تأجيل الامتحانات عدة مرات، وكان الطلاب يعيشون حالة من القلق والإحباط، خاصة مع تدهور الأوضاع الأمنية واستمرار القصف بالقرب من مناطقهم، وهو ما جعل الدراسة والاستعداد للامتحانات تحديًا كبيرًا. وأضاف: “كنا نراجع ونذاكر تحت وقع المسيرات والانفجارات، لكننا أصررنا على مواصلة طريقنا رغم كل الصعوبات”.
وذكر عبد الرحمن أنه تفاجأ بنتيجة “رسوب”، رغم ثقته في أدائه، وقال إن والدته عندما أخبرته بالنتيجة ظنّ في البداية أنها تمزح. وأكد أن عددًا من زملائه تعرّضوا لمواقف مشابهة، فبعضهم ظهرت لهم نتائج رغم أنهم لم يجلسوا للامتحانات، وآخرون جلسوا للامتحانات وسُجّلوا ضمن الغياب، ما يشير إلى وجود خلل واضح في النتائج.
وختم عبد الرحمن حديثه بمناشدة وزارة التربية والتعليم بمراجعة النتائج وإنصاف الطلاب، قائلاً: “نحن لا نطلب أكثر من حقنا، فقد بذلنا جهدًا كبيرًا ونستحق التقدير لا الظلم”.
مآب بابكر من شندي أكدت أنها امتحنت للعام الثالث، من مدرسة القليعة بنات بشندي ولاية نهر النيل وتفاجأت بأن نتيجتها هي نفسها القديمة. 67.9 وقالت: “كنت متوقعة فوق الـ80٪، لكن طلعت نفس نسبتي في 2022، والدرجات متطابقة كأنها لم تتغير”.
أما الطالب أحمد طارق سعد عبداللطيف، الذي جلس لامتحانات الشهادة السودانية من داخل السودان، النتيجة الأولى أظهرت نسبة نجاح 84.7%، بينما ظهرت نتيجة أخرى لاحقاً بالنسبة 48.9%، وهي نسبة تُعد في العادة رسوباً لكونها دون الحد الأدنى للنجاح (50%)، إلا أن النظام وصفها أيضاً بـ”ناجح”.
شكاوى جماعية من طلبة الخارج
الصدمة لم تكن فردية. بحسب مجموعات طلابية في أوغندا ومصر، فإن أكثر من 37 طالباً امتحنوا من خارج السودان – تحديداً من مدرسة الصداقة، وهي مؤسسة تمثل وزارة التربية والتعليم السودانية في القاهرة – ظهرت نتائجهم كـ”رسوب كامل”، وبعضهم حصل على نسبة “0%” رغم تأكيدهم بأنهم أدوا الامتحانات بشكل جيد.
وفي حالات أخرى، قال طلاب إنهم لم يمتحنوا أصلاً، ومع ذلك ظهرت لهم نتائج تتضمن أسماءهم ونسب نجاح “عالية”، بينما ظهر لزملائهم الحاضرين فعلياً “غياب”. أما في أوغندا، فبحسب الإحصائيات غير الرسمية، فقد رسب 571 طالباً من أصل 1046 طالباً.
نسبتي 0% رغم أنني واثق من أدائي
قال طالب جلس لامتحانات الشهادة السودانية من مدرسة “الصداقة” بالقاهرة – المُمثلة لوزارة التربية والتعليم السودانية في مصر – إنه صُدم حين ظهرت نتيجته بنسبة 0%، رغم أنه واثق من أنه أجاد في معظم المواد، وقال الطالب الذي فضل حجب هويته لـ(أفق جديد): “رسبت في مواد أديتها بشكل جيد جداً، ولا يمكن أن تكون النتيجة صفراً، حتى الطالب الراسب يفترض أن تُحسب له نسبة مئوية على الأقل”.
وأضاف، أن محاولاته للتحقق من النتيجة قادته إلى رقم مجهول زُعم أنه يقدم خدمة “تعديل النتائج”، لكنه يعتقد أنه كان مجرد فخ للاحتيال المالي.
وأشار إلى أن مجموعة من الطلاب المتضررين توجهوا إلى السفارة السودانية بالقاهرة لعرض شكواهم المكتوبة، لكنهم قوبلوا باللامبالاة، وقال: “مشينا السفارة وكنا مجموعة كبيرة، إلا أن الرد كان اركبوا امشوا عطبرة”.
وأكد أن كثيراً من زملائه يشاركونه الشكوك ذاتها بشأن حدوث تلاعب في النظام الإلكتروني الخاص بالنتائج أو في توزيع الأكواد، مطالباً الوزارة بمراجعة النتائج بشكل عاجل وإنصاف الطلاب.
ضياع ثلاث سنوات من الاجتهاد
عبرت نسرين سلطان البرير، الطالبة التي أدت امتحانات الشهادة من مدرسة مجدي محمود بالقاهرة، التابعة لمركز مدرسة الصداقة، عن صدمتها الشديدة بعد صدور نتيجتها التي أظهرت رسوبها في أربع مواد، من بينها اللغة العربية والقرآن الكريم، رغم اجتهادها الكبير واستعدادها المكثف طوال العام الدراسي.
وقالت نسرين في حديثها لـ(أفق جديد): “لقد بذلنا كل ما في وسعنا. كنا ننام بالكاد ساعتين في اليوم. كنت أغادر منزلي في السادسة صباحاً لأتوجه إلى المكتبة، ثم إلى حصة التركيز، وبعدها إلى قاعة الامتحان الذي يبدأ في الثانية ظهراً. لم أتوقع مطلقاً أن أحصل على أقل من 70%، لكن النتيجة كانت صادمة، إذ وردت نتيجتي (رسوب) حتى في المواد التي كنت واثقة من أدائي فيها، كالعربية والقرآن الكريم.”
وأشارت إلى أن المادة الوحيدة التي كانت تتوقع أن تكون نتيجتها ضعيفة فيها هي التاريخ، بسبب ضغوط نفسية مرت بها خلال فترة الامتحانات. وأضافت: “ما يدعو للاستغراب أن جميع زميلاتي في الفصل ظهرت لهن نتائج رسوب، وهو أمر يصعب تصديقه. من غير المعقول أن يرسب فصلٌ بأكمله دون استثناء، على الرغم من اجتهاد الطالبات.”
وذكرت نسرين أنها كانت تدرس في أحد المعاهد بمنطقة فيصل، وكانت تقطع ساعتين يومياً عبر 12 محطة مواصلات للوصول إلى المركز التعليمي، قائلة: “لقد اجتهدنا وبذلنا كل ما نملك من وقت وجهد، وصرفنا كثيراً على التعليم، لكن ما حدث بدّد تعب ثلاث سنوات في لحظة. وحتى الآن، لم يصدر أي توضيح رسمي أو إعلان عن مراجعة أو إعادة تصحيح من الوزارة”.
أخطاء جسيمة
الغضب ترجم إلى حملة على وسائل التواصل الاجتماعي وهاشتاق #التصحيح_العادل_حق_لكل_طالب، إلى جانب، (عايزين_حقنا #دي_ما_درجاتنا) (#نطالب_باعادة_التصحيح) (#وزارة_التربية_اعيدو_التصحيح #اعيدو_مراجعة_نتائج_الشهادة_السودانية_2023)
وتفاعلت لجنة المعلمين السودانيين مع هذه المطالب، مؤكدة تلقيها مئات الشكاوى من الطلاب وأسرهم عبر صفحاتها، ما استدعى تكوين لجنة مختصة لفرز وتصنيف الشكاوى وتمحيصها. وأصدرت بياناً طالبت فيه وزارة التربية بالكف عن “المكابرة” وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لمراجعة ما جرى، حفاظاً على ما تبقى من سمعة الشهادة السودانية وحقوق الطلاب.
وقد أظهرت الشكاوى المتكررة وفقًا لبيان اللجنة، ملامح خلل واضح في النتائج، حيث وردت إفادات عن حصول طلاب على درجات ممتازة في مواد مثل اللغة الإنجليزية والكيمياء والفيزياء والرياضيات المتخصصة، مقابل نتائج متدنية جداً أقل من 10 درجات في مواد أخرى مثل التربية الإسلامية واللغة العربية والأحياء وعلوم الحاسوب، بصورة لا تتسق مع الأداء العام للطالب. كما لوحظ حصول طلاب معروفين بتدني مستواهم الأكاديمي على نسب مرتفعة بشكل مفاجئ وغير منطقي، في وقت رسب فيه طلاب متفوقون بحسب سجلاتهم الدراسية في الأساس والثانوي، بينهم طلاب إعادة سبق أن أحرزوا نسب نجاح عالية.
وردت كذلك شكاوى من طلاب أكدوا جلوسهم للامتحانات، لكن نتائجهم ظهرت ضمن الغياب، وأخرى أظهرت درجات لبعض المواد مقابل غياب في أخرى رغم أدائهم لكل الامتحانات. كما وردت حالات طلاب ظهر رقم جلوسهم باسم طالب آخر أو طالبة، وكذلك ظهور نتائج لأشخاص لم يجلسوا للامتحانات أصلاً، إضافة لنتائج غير مكتملة لطلاب جلسوا للامتحان، حيث احتسبت درجات بعض المواد بينما ظهرت مواد أخرى كغياب، فضلاً عن أخطاء في بيانات الجلوس، منها ظهور رقم طالب باسم طالبة والعكس.
وأكدت اللجنة أن ما حدث هذا العام يشكل مساساً خطيراً بمصداقية الشهادة الثانوية السودانية، ويجسد مستوى الانحدار الإداري الذي وصلت إليه العملية التعليمية، ورأت أن ما زاد من ألم الطلاب وأسرهم التصريحات الصادرة عن المسؤولين بالوزارة، التي نفت بشكل قاطع وجود أي أخطاء في عملية التصحيح أو إعلان النتائج، رغم وجود شواهد دامغة وإفادات من خبراء، من بينهم الأستاذ إبراهيم أحمد الحسين، كبير مصححي مادة اللغة العربية الخاصة، الذي تحدث عن وجود أخطاء جسيمة في عملية التصحيح بدأت من مرحلة الكود، بالإضافة إلى ملاحظات بشأن طريقة اختيار المراقبين في بعض المراكز الخارجية، التي لم تراع الكفاءة ولا الخبرة.
أحدثت هذه الوقائع صدمة وسط الأسر، لا سيما أن امتحانات الشهادة الثانوية تمثل بوابة الدخول إلى التعليم العالي والفرص المهنية. ويخشى كثيرون من أن يكون ما جرى هذا العام بداية لانهيار أعمق في نظام تعليمي كان يوصف يوماً بأنه من بين الأفضل في المنطقة.