تحت لافتة “التنظيم” يُنفَّذ التطهير بصمت
عثمان فضل الله
لم يكن مشهد رقبة الجمل عابرًا. لم تكن تلك السيدة التي بكت بحرقة على أطلال بيتها، مجرد ضحية إزالة “عشوائيات”، بل كانت شاهدًا على ما يشبه جريمة مكتملة الأركان. بيتها هُدم دون إنذار، أمام أعين أطفالها، دون بديل، ودون حتى فرصة لإخراج أثاث أو مصحف. لم تكن دموعها استغاثة، بل كانت لعنة شعب تُرك للشتات، يُطرد من أرضه تحت شعارات كاذبة، بينما الوطن كله يتهاوى أمامنا قطعةً قطعة.
وفي الجيلي، رجل قال إنه ضابط معاشي، يروي كيف هُدم سوقه الذي عمل فيه لعقود. صوته كالصدى، يضيع في بلد لا يسمع فيه أحد أحدًا. كان يظن أن خدمته للدولة تشفع له، لكن ما اكتشفه أن الدولة لا تحفظ عهدًا ولا تعرف وفاءً، ولا تفرّق بين من خدمها وبين من لم يسألها يومًا.
الخرطوم خرابة
في قلب العاصمة، لا توجد دولة. القصر الجمهوري نفسه، مقر السيادة والرمز الوطني، خرابة يسكنها الغبار والبوم الليل. الوزارات مدمرة، المؤسسات مهجورة، المدينة بلا كهرباء، بلا ماء، بلا سكان. الخرطوم التي كانت تاج الدولة، أصبحت مدينة جاثية على ركبتيها، يُنهب ما تبقى منها أمام نظر الجميع.
ومع ذلك، لا يبدو أن هذا الخراب يزعج السلطة. عيونها ليست على العاصمة، بل على أكواخ الفقراء. هي لا ترى الخراب في الوزارات، بل تراه في “الكنابي”. لا ترى الفوضى في الشوارع، بل في منازل الطين والخشب. الجرافات لا تُوجَّه حيث انهارت الدولة، بل حيث ما تزال الأسر تكافح للبقاء.
سنار تحترق
في ولاية سنار، بلغ الجرم ذروته. أكثر من ١٤ قرية أُزيلت من الوجود. قرى يعود عمرها لعشرات السنين، بعضها موثق في السجلات الرسمية، وله وجود قانوني. لكن هذا لم يشفع لأهلها. أتت الجرافات، ومعها القرار، وسُوّيت البيوت بالأرض. لا محكمة، لا إنذار، لا تعويض، لا بديل.
أين الدولة؟ وأين القانون؟ وأين أولئك الذين يزعمون أنهم حماة للعدالة والتنمية؟ كيف يمكن لأي سلطة أن تقتلع القرى كما تُقتلع الحشائش، وتدّعي بعدها أنها تبني وطنًا؟ من قال إن إعادة الإعمار تبدأ بإهانة الإنسان، وإزالته كالأثاث القديم؟
ما يجري في سنار ليس تخطيطًا عمرانيًا، بل تطهير اجتماعي صريح. لا يستهدف البناء، بل يستهدف فئة محددة من المواطنين، تُعامل كأنها طارئة، أو متسللة، أو غير مرغوب فيها.
استهداف الكنابي
في الجزيرة، المشهد لا يقل فظاعة. الجرافات تتحرك نحو الكنابي، تلك المجتمعات التي نشأت مع مشروع الجزيرة. أغلب ساكني الكنابي من أبناء غرب السودان، ممن أسهموا بعرقهم في الزراعة، وتاريخهم في المقاومة، وحياتهم في خدمة البلاد. لكنهم اليوم يُطردون، وكأن المطلوب هو إفراغ وسط السودان وشماله من كل من ينتمي للغرب.
هذه ليست مبالغة. من ينظر إلى خريطة الإزالات، يدرك أنها لا تتم عشوائيًا. هناك خط مرسوم، وهناك نوايا مبيّتة. من رسم هذا الخط، هو عقل عنصري صغير، يظن أنه قادر على إعادة تشكيل السودان بالأوامر والقرارات. لكنه عقل مريض لا يعرف السودان.
السودان لا يُرسم على ورقة، ولا يُختصر في قبيلة. التداخل بين غرب السودان ووسطه وشماله أعمق من أن يُمحى بالجرافة. الكنابي ليست تجمعات دخيلة، بل هي نسيج وطني حيّ، يحمل روح السودان، ويجسّد وحدته في أبهى صورها.
عقل مريض
من قرّر أن أبناء الكنابي عشوائيون، هو نفسه من يُبقي على الخرطوم كمدينة أشباح. من يلاحق فقراء رقبة جمل والعزبة في الخرطوم والكنابي، في الجزيرة، هو ذاته من ترك الأسواق تُنهب، والمباني تنهار، والوزارات تغلق. هو عقلٌ يرى في الفقراء عبئًا وفي التنوع خطرًا، هو عقل استئصالي لا يصلح لحكم البلاد لأنه يعيد إنتاج الكارثة أو قل يزيد نيران الوطن حطبًا وزيتًا وبنزينًا، ليزيد من الغبن الاجتماعي والتشظي الوطني.
الدولة لا تُبنى بالجرافات، بل تُبنى بالعدالة. من يهدم بيتًا بلا إنذار، يهدم وطنًا بالكامل. من يطرد أمًّا إلى العراء، لا فرق بينه وبين من يقتل. ومن يختار أن يبدأ مشروعه التنموي بهدم البيوت، لا يبني بل يهدم.
ما يحدث الآن ليس مجرد قرارات بلدية، بل هو مجزرة صامتة بحق الإنسان السوداني. والذين يصمتون اليوم، سيلعنهم التاريخ، لأنهم رأوا القرى تُباد وسكتوا. ورأوا الأمهات تبكي ولم يتحركوا، وشاهدوا الخراب، واحتفوا به.
جريمة مكتملة
ما يحدث الآن ليس مشروع إعادة إعمار، بل جريمة مكتملة الأركان تُرتكب تحت غطاء الدولة، وتُنفّذ بأدواتها. لا يملك من خطط لهذه العمليات شجاعة الاعتراف، ولا جرأة المواجهة، فيدسّها تحت شعارات واهية عن “التنمية” و”إزالة العشوائي”، بينما المقصود واضح: إعادة هندسة التركيبة السكانية وفق ميزان القوة والامتياز، لا وفق القانون أو العدالة.
هدم البيوت، وتشريد الأسر، واستهداف فئات بعينها دون غيرها، لا يدخل في باب الإصلاح، بل في باب الانتقام الطبقي والجهوي. ومن يظن أن بإمكانه تفكيك السودان بهذه الطريقة، فليُراجع نهايات من سبقوه.
ما يجري الآن سيُكتب في دفاتر الحساب، لا في دفاتر البلديات. ومن منح الأوامر، ومن نفّذ، ومن بارك، سيُسألون. لأن الهدم بلا قانون، والتهجير بلا بديل، والإذلال بلا مبرر – ليس فقط ظلمًا، بل عدوانًا صارخًا على ما تبقّى من فكرة الوطن.
السكوت لم يعد حيادًا، بل تواطؤًا.
والتفسير لم يعد ممكنًا، فالصورة أوضح من أن تُبرر.
وتحالف بورتسودان هذا – بكل مكوناته – إن استمر على هذا النهج، فلن يُسقطه الخارج، بل سينهار من الداخل، لأنه ببساطة يحفر قبره بجرافاته.