منى تعجن الأمل
من قاعات الجامعة إلى فرن النزوح
نهر النيل – لبنى عبد الله
في زمنٍ تتكسر فيه الأحلام تحت وطأة الحرب، وتذبل فيه الأماني على أرصفة النزوح، تخرج بعض الحكايات كعطر نجا من الحريق.
حكايات لنساء لم ينتظرن العطف، بل نهضن من بين الركام ليعجنّ الصبر ويخبزن الأمل.
“منى”، أستاذة جامعية، ونازحة، وأم، وحالمة رغم كل شيء، لم تترك الحرب تأخذ منها سوى المكان، أما الكرامة فاحتفظت بها داخل قلبها، وراحت تبني من فتات الخبز مشروعًا صغيرًا للحياة.
هذه ليست قصة عن البسكويت، بل عن الصمود، حين يصبح الفرن المؤقت وطنًا مؤقتًا، وحين تصبح اليد التي تعجن هي ذاتها التي تكتب فصول النجاة.
في ركن هادئ بإحدى مدارس الإيواء بولاية نهر النيل، كانت “منى” تجلس ساعات طويلة أمام ماكينة صغيرة لصناعة البسكويت. بين يديها عجين مرصوص بعناية، تحمله فوق رأسها في صوانٍ مدهونة بالزيت إلى المخبز المجاور، ليخرج ناضجًا ويُعرض في الأسواق. ليس حبًا في الخَبز، بل سعيًا لتأمين احتياجات أسرتها.
بعد إعلان الجيش السوداني تحرير مدينة الخرطوم، اختارت “منى” وعدد من الأسر النازحة العودة إلى العاصمة من عطبرة، لكن الواقع هناك كان أكثر قسوة. سُرعان ما قررت العودة مرة أخرى إلى دار الإيواء، فالأوضاع الإنسانية والبيئية في العاصمة لم تكن تحتمل.
تسرد “منى” قصتها وهي تغطي وجهها بطرف ثوبها، فلا يظهر سوى عيناها، وتقول: “عدت إلى منزلي في الحلة الجديدة، لكن الحي كان شبه خالٍ، قلة من السكان كانوا يعتمدون على تكية مسجد لتوفير وجبة العدس أو الأرز”. وتضيف: “الحياة في الحي موحشة، أجساد السكان هزيلة، والمياه غير صالحة للشرب، والأمراض منتشرة، خاصة الكُلى وحمى الضنك التي أصابت ابني المُعاق، لذا قررت العودة مجددًا إلى ولاية نهر النيل”.
كانت البداية قاسية. تعول أربعة أبناء، أحدهم من ذوي الإعاقة، ومن دون مصدر دخل. استعانت بالإنترنت لتعلّم صناعة المخبوزات والحلويات، ثم طرقت باب صاحب مزرعة وطلبت منه طبق بيض على الدين، مقابل وصل أمانة. “استدنت الدقيق وكل المستلزمات”، تقول منى، “وبعد توزيع الإنتاج الأول، سددت ديوني وبدأت العمل من أرباح بسيطة”.
لكن التحديات لم تتوقف عند الإنتاج؛ التوزيع كان معركة يومية. كانت تمشي لمسافات طويلة لتوصيل البسكويت يدويًا، تسوقه في البقالات والأسواق، وتعرضه على الأسر والطلاب. حلمها: محل صغير تبيع فيه منتجاتها، وتوفّر من ربحه ما يكفي لشراء كرسي كهربائي لابنها المُعاق.
رحلة “منى” بدأت من نكبة الحرب. عندما اشتدت الاشتباكات في الخرطوم، اضطرت للهروب على متن سيارة خاصة، من دون أن تأخذ شيئًا من منزلها، سوى أطفالها وذكرياتها. بعد نزوحها إلى شندي، وجدت ملاذًا في صديقة قديمة بـ”بربر”، التي رتّبت لها الإقامة في مدرسة بدار الإيواء بـ”حوش الدار”.
ومن هناك، أعادت بناء ذاتها من رماد الخسارة. استعارت فرنًا كهربائيًا صغيرًا، وبدأت العمل مجددًا، تتحدى الإحباط واليأس بصبرها ويدها التي تعجن الحياة وتشكّل الأمل.
جلست محررة “أفق جديد” إلى محل “منى”، تراقبها وهي تعد طلبية زبائن بتركيز وتفانٍ. بين العجين والزيت والصينية، كانت تُخبز شيئا آخر: كرامة امرأة، وقصة مقاومة.