الكهرباء في السودان: بين دمار الحرب وفساد الدولة
مهندس وليد الريح: الخرطوم تغرق في العتمة: قصة الانهيار
مهندس وليد الريح: شبكات الفساد والنهب في قلب محطات الكهرباء
حاوره: وسيلة حسين
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، لم تعد الكهرباء مجرد خدمة غائبة، بل صارت عنوانًا لانهيار دولة، ولجريمة اقتصادية مكتملة الأركان. فالخرطوم، قلب البلاد، غرقت في عامين من الظلام والعتمة، بعد أن سُرقت ونُهِبت ودُمّرت شبكاتها ومحطاتها ومحولاتها، وسط تواطؤ وصمت رسمي مريب.
في هذه المقابلة الخاصة مع “أفق جديد”، يتحدث المهندس وليد مبارك الريح، خبير التخطيط العمراني، وعضو لجنة إزالة التمكين في قطاع الكهرباء خلال الفترة الانتقالية، عن حجم الكارثة، جذورها، وتشابكها مع فساد الدولة، والحرب، ومصالح النخبة، مستندًا إلى تجربة تمتد لأكثر من ربع قرن في مشاريع هندسية إقليمية ودولية، بينها ألمانيا ودول الخليج.
يحمل الريح في جعبته أرقامًا صادمة، وتحليلًا دقيقًا، ومقاربة واقعية لمستقبل الكهرباء في السودان، من غير أوهام ولا دعاوى سطحية.
*دعنا نبدأ من الجذر، ما الذي يجعل أزمة الكهرباء في السودان معقدة حتى قبل اندلاع الحرب؟
لكي نفهم واقع الكهرباء في السودان، لا بد من الإحاطة بتعقيداتها الهيكلية، فهي تتكون من ثلاث منظومات رئيسية. هي “منظومة التوليد، ويشمل المحطات المائية في مروي، والروصيرص، وسِنار. والمحطات الحرارية، في كوستي، وقرِّي وغيرها.
وثانيًا منظومة النقل، ويقصد به شبكة الخطوط القومية ومركز التحكم القومي في سوبا.
وأخيرًا منظومة التوزيع، وتبدأ من محطات التحويل إلى أعمدة الكهرباء والمحولات، وصولًا إلى العدادات في المنازل والمصانع.
*هل يمكنك شرح البنية الهيكلية الأساسية لقطاع الكهرباء، ولماذا تعرضت لهذا الانهيار الكبير؟
واقع الكهرباء في السودان، منذ ما قبل الحرب، يعاني أزمة متراكمة وجملة من الاختلالات الجوهرية، رغم محاولات التوسعة والتحديث، فالتغطية السكانية تشمل فقط 60% من السكان، يتوفرون على اتصال كهربائي، بينما ظل 40% خارج الشبكة بالكامل، والقدرة الإنتاجية لهذا القطاع الحيوي لم تتجاوز 3 غيغاواط، في حين أن الحاجة الفعلية تتخطى 5 غيغاواط في أوقات الذروة، ويرجح أن تصل إلى 10 غيغاواط لتحقيق التغطية الشاملة خلال العقد القادم. هناك أيضًا شبكة نقل غير مستقرة ومجزأة في بنية تحتية ضعيفة، أعمدة ومحولات متهالكة، ومركز تحكم يفتقر إلى التحديث بسبب الحظر التكنولوجي، مما أدى إلى تركيب برامج صينية فوق أنظمة قديمة لا تعمل بتناغم؛ لذا كانت القطوعات تصل إلى أكثر من 12 ساعة يوميًا في كثير من المناطق.
إن كل ذلك يسبِقه فساد إداري مستشرٍ ومزمن؛ فشركات الكهرباء تعمل كجزر معزولة، تغيب عنها الشفافية والتكامل المؤسسي. بالجملة، فإن قطاع الكهرباء في السودان يعاني انهيارًا هيكليًا مريعًا.
*ما الذي تغيّر فعليًا منذ بدء الحرب في أبريل 2023؟ وكيف أثر النزاع على منظومات التوليد والنقل والتوزيع؟
مع اندلاع الحرب في أبريل 2023، تلقى قطاع الكهرباء ضربة قاصمة وأصابه الدمار الشامل. كانت شبكات التوزيع والنقل الأكثر تضررًا، بسبب عمليات النهب، والتخريب، واستهداف البنية التحتية. صحيح أن محطات التوليد لا تزال قائمة نسبيًا، لكن من دون جدوى في غياب شبكات نقل وتوزيع حقيقية بعد انهيار التحكم المركزي، فمركز سوبا لم يعد قادرًا على إدارة أي شبكة قومية، والشبكات الآن تعمل بشكل منعزل في بعض المدن فقط، ولا توجد أرقام دقيقة. إلا أن التقديرات تشير إلى أن ما تبقى من الخدمة هو مجرد جزر معزولة تعمل في شمال السودان والوسط بنظام شبه يدوي.
*ذكرت أن ما حدث في الخرطوم لا يُعد نهبًا عشوائيًا بل جريمة اقتصادية منظمة.. كيف نفهم هذا السياق؟ ومن تقف وراءه؟
على وقع الحرب الطاحنة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، جرت واحدة من أبشع الجرائم الاقتصادية في تاريخ البلاد الحديث: سرقة وتدمير البنية التحتية لشبكة الكهرباء في العاصمة. لم يكن الأمر مجرد نهب عشوائي في لحظة انهيار أمني، بل جريمة منظمة، متسلسلة، نُفذت بعناية فائقة على يد شبكة تمتد من الفني المتخصص في الميدان إلى المصدّر الرسمي في الميناء، ومن الجندي المسيطر على الأرض إلى المسؤول الصامت في أعلى هرم الدولة.
منذ منتصف عام 2023، بدأت التقارير تتواتر حول سرقة محطات التحويل الكهربائية، المحولات الضخمة، والكوابل الأرضية الممتدة على مئات الكيلومترات. وزارة الطاقة حينها، وعلى لسان مسؤوليها، أكدت أن ما يُنفذ لا يمكن أن يكون عملاً عشوائيًا. فعملية تفريغ زيوت المحولات – وهي مواد كيميائية حساسة تستخدم للتبريد والعزل – تحتاج لفنيين ذوي خبرة، وكذلك الحال بالنسبة لفصل الكوابل النحاسية دون إتلافها.
*هل لديكم أدلة أو إشارات واضحة تربط جهات حكومية أو رسمية بعمليات التصدير غير المشروع للنحاس؟
لم تكن السرقة عملاً فوضويًا، بل عملية دقيقة شارك فيها أشخاص على معرفة تامة بمكونات منظومة الكهرباء. ومع تفشي الظاهرة، بدأ ظهور مشتريين محليين للنحاس الخام في السوق السودانية، وهم من التجار المعروفين في قطاع الخردة. اشتروا النحاس المستخرج من المسروقات بأسعار لا تتجاوز 500 دولار للطن، بينما بيع لاحقًا في السوق العالمية – خاصة في الإمارات – بأكثر من 6000 دولار للطن. هؤلاء لم يتحركوا من فراغ، بل انخرطوا في سلسلة منظمة تبدأ بالتخزين والنقل وتصل إلى التصدير. ولأن صادرات النحاس تمر حصرًا عبر نظام رسمي، فذلك لا يتم دون سجل صادر، إذن تصدير، ونموذج EX صادر من بنك السودان المركزي.
إن ما جرى في بنية كهرباء الخرطوم لا يُمكن وصفه فقط بالسرقة، بل هو تخريب متعمد لبنية سيادية، واغتيال اقتصادي لمدنية العاصمة. تدمير هذه البنية لم يكن نتيجة حرب، بل نتيجة طمعٍ ممنهج، وجريمة مدروسة، جرت على مراحل، وتحت سمع وبصر مؤسسات الدولة.
كما نُشر تقرير بصحيفة “العربي الجديد” بتاريخ 4 فبراير 2024، نقلت الصحيفة نص خطاب رسمي من وزيرة الصناعة المكلفة حينها، الدكتورة آمال صالح سعد، إلى رئيس الوزراء المكلف وقتها، عثمان حسين، تحذّر فيه من عمليات نهب منظمة تستهدف البنية الكهربائية وتُصدَّر عبر ميناء بورتسودان تحت غطاء قانوني باعتبارها “خردة”.
أما صحيفة “اندبندنت عربية”، في تقرير بتاريخ 13 فبراير 2024، أشارت بوضوح إلى أن معظم شحنات النحاس المسروقة شُحنت إلى ميناء جبل علي في الإمارات، وبعضها مر عبر كينيا، مؤكدة أن العملية جرت بعلم وتسهيلات من جهات رسمية.
بورتسودان، التي تُعد نقطة الخروج الوحيدة للصادرات السودانية منذ اندلاع الحرب، تقع بالكامل تحت سيطرة الجيش والحكومة المؤقتة. لا يمكن مرور أطنان من النحاس الخام دون علم وزارة المالية أو دون أن يراقبها بنك السودان. وحتى الجهات الأمنية، بما فيها جهاز المخابرات العامة، لم تُعرف عنها السهو في مثل هذه الأمور. فكيف إذًا مرّ كل هذا دون مساءلة؟ هنا تظهر ملامح الجريمة المنظمة. فالتصدير تم من خلال شركات مرخصة، فتحوا حسابات في بنوك سودانية لتغطية عائد الصادر، وهو ما لا يحدث إلا بموافقة وزارة التجارة وبتوثيق مصرفي صارم. ويقول تقرير “سودافاكس” بتاريخ 7 مارس 2024 إن شركات التصدير التي تولّت الشحن يمتلكها أفراد على صلة بأجهزة أمنية نافذة، بينما أشارت “أفريقيا برس” بتاريخ 10 مارس 2024 إلى ضلوع عناصر مسلحة كانت تنقل النحاس إلى الشرق بشاحنات ثقيلة دون اعتراض”. فإذا كان الدعم السريع هو من سرق المعدات، فكيف صدّرها عبر ميناء تديره الحكومة؟ وإن كانت الحكومة تعلم، فلماذا لم تمنع؟ وإذا لم تكن تعلم، فهي شريك بالصمت، أو ضحية اختراق داخلي كارثي.
*كم تقدر حجم الخسائر المادية والبشرية في قطاع الكهرباء؟ وما المطلوب لاستعادة جزء من الخدمة؟
وفق أرقام تقديرية أولية، يمكننا أن نقول إن أكثر من 100,000 محول في الخرطوم دمر، وحوالي 4,600 طن من النحاس تم تصديرها، دمار كامل لمنظومة التوزيع والنقل، وأجزاء من التوليد. وأرى أن مستقبل الكهرباء في السودان مرهون بالحظ والدعم الدولي، فهو في حاجة إلى مال كثير، آلاف المهندسين والعمال، وقت طويل، وصبرٌ أطول. فحسب تجارب الدول التي خرجت من حروب دُمّرت فيها البنية التحتية للكهرباء، أقدّر أن الخرطوم قد تتمكن، بكثير من التوفيق الإلهي، من استعادة 40– 50 % من قدرة الامداد الكهربي قبل الحرب خلال سنة إلى سنتين عبر تدخلات طارئة محدودة ومعالجات بامكانياتنا. 60– 80 % من قدرة الإمداد الكهربي قبل الحرب خلال 3–5 سنوات عبر دعم أجنبي قوي .
80– 100 % من قدرة الامداد الكهربي خلال 5–8 سنوات عبر مشاركة مؤسسات دولية وإرادة حكومية واضحة وقوية.
تكلفة العودة حتى لـ”الوضع السيء السابق” والحالة المتردية التي كانت قبل الحرب تتطلب تمويل لا يقل عن 5 إلى 7 مليار دولارات، وإعادة تأهيل تستغرق ما بين 5 إلى 10 سنوات وإصلاح إداري وهيكلي عميق في شركات الكهرباء، ودعم فني ومالي من مؤسسات دولية مثل البنك الدولي والصناديق الخليجية. لكن هذا مستحيل دون وقف الحرب؛ فالمجتمع الدولي لا يمنح المال للمحرقة.
*هل ترى بدائل واقعية للكهرباء التقليدية في ظل الحديث المتكرر عن الطاقة الشمسية؟ أم أن ذلك مجرد وهم؟
إن البديل الوحيد للكهرباء هو إصلاح قطاع الكهرباء نفسه، وفي تقديري أن الكهرباء البديلة حلم مُبالغ فيه، فقد كثُر الحديث عن الطاقة الشمسية كبديل محتمل، لكن الحقائق تقول غير ذلك لأن الأنظمة الشمسية المتوفرة حاليًا لا تُغطي سوى احتياجات منزلية محدودة جدًا في الإضاءة، تدوير المراوح المنزلية، وشحن الهواتف، علاوة على تكلفتها الباهظة مقارنة بالدخل السوداني وصيانتها وقطع غيارها غير متوفرة بسهولة، وحتى الدول المتقدمة مثل ألمانيا لا تعتمد على الطاقة البديلة بأكثر من 30% من إنتاجها الكلي، والحديث عن أن السودان يمكنه “استبدال” الكهرباء التقليدية بالبديلة في ظل الحرب والتضخم وانعدام التمويل هو كلام غير علمي ولا عملي. وعليه لا بدَّ من التغطية أولًا ومن ثم الطاقات البديلة، فالسودان بحاجة إلى 10 غيغاواط من الإنتاج الكهربائي لتغطية السكان بعدالة، وشبكة نقل قومية مترابطة وحديثة تربط الشرق والغرب والجنوب بالشمال، وشبكة توزيع مستقرة تُقلل الفاقد الفني الذي يتجاوز 30%. عندها فقط يمكن إدخال الطاقة الشمسية والرياح كمصادر مساندة، في القرى المعزولة، والمدارس والمراكز الصحية، والمشاريع الزراعية الصغيرة والدوانكي وآبار المياه.
*ما الشروط الأساسية التي يجب أن تتحقق حتى نبدأ في طريق إصلاح حقيقي لهذا القطاع؟
أرى أن المعركة الحقيقية ليست في التوليد، بل في القرار، فالطاقة ليست فقط مسألة تقنية، بل سياسية واقتصادية في جوهرها، وإعادة بناء قطاع الكهرباء في السودان يتطلب وقف الحرب فورًا، وإصلاح مؤسسي وهيكلي شجاع، وشراكة حقيقية مع العالم في التمويل والخبرة والتكنولوجيا. فالقطاع يعاني من الفساد المالي والإداري والمؤسسي وفيه سوء تخطيط غير مسبوق ولا يمكن، بل يستحيل، مجرد الحديث عن أي مشاريع إصلاحية أو ترميمية أو تطوير، إن لم يسبق ذلك إصلاح إداري جذري، بعدها لا بدَّ من الاستعانة ببيوت الخبرة العالمية لوضع خطة إصلاحية بأهداف واضحة على مراحل في إطار زمني محدد، وتشكيل هيئة مستقلة تُعنى بإصلاح القطاع وإدارة مشاريع الإصلاح تتمتع بالشفافية والاستقلالية والدعم السياسي والمادي، وبعدها لا بدَّ من وضع إصلاح وتطوير قطاع الكهرباء في رأس قائمة أولويات إعادة الإعمار لفترة ما بعد الحرب، وأول خطوة ستكون تقييم شامل لوضع القطاع فنيًّا وتحديد الاحتياجات من خلال خطة إسعافية، تليها خطة إعادة الإعمار وبعدها التطوير، وريثما يكون هذا جاهزًا، لا بدَّ من مخاطبة كل المؤسسات الدولية الممولة وكل الدول الصديقة للمساهمة في صندوق إعادة إعمار وتطوير قطاع الكهرباء بالسودان.
*ما مستقبل الكهرباء في السودان؟ وهل هناك بصيص أمل؟
نحتاج لوقف الحرب أولًا، وتشكيل حكومة ذات مصداقية للعالم حتى تكون مؤهلة لنيل الثقة المطلوبة لمنحها مبالغ طائلة تصلح هذا القطاع، ومن ثم يبدأ العمل الذي سيحتاج لكثير من الجهد والصبر وبعده سنرى نتائج على الأرض. خلاف هذا لن نصل لأي نتيجة غير تداول معلومات مغلوطة وكذب كثير لا يفيد.
الكهرباء قطاع هندسي لا ينفع فيه سوى العلم والمال الذي يُدار بنزاهة، بعيدًا عن الفساد والمحسوبية والمجاملة، وأي كلام مرتبط بهذا القطاع لا يحوي أرقامًا وتكاليف وزمنًا في إطار خطة واضحة ومدروسة خارجة عن بيت خبرة استشاري عالمي معترف به دوليًا، لن نصل إلى أي نتيجة وسنكون محلك سر، نقف على أطلال مدن ستظل مهجورة وخاوية إلى أن تصلها كهرباء (مستقرة) من جديد وماء نقيّ يشربه الناس لا يسبب لهم أمراضًا، وبعدها نستطيع المضي في إعادة إعمار المنازل والمرافق والمصانع والخدمات.