التحول الرقمي واللغة العربية.. من (كمبيوتر صخر) وحتى مؤسسات هيومين وG42
عمار قاسم حمودة*
إذا كنت تقرأ هذا المقال المبسط عن الذكاء الاصطناعي باللغة العربية على أي جهاز إلكتروني، فأعلم أن فضلًا كبيرًا عليك أجراه الله على يد الرجل الصالح عليه الرحمة محمد الشارخ، رجل الأعمال الكويتي، الذي رحل عن دنيانا العام الماضي. إنه الشخص الأساسي خلف إنتاج (كمبيوتر صخر). هل تذكرون (كمبيوتر صخر)؟ هذا شيء يعرفه الجيل الذي جاء للحياة قبل العام 1985 في الغالب، بلغة الأجيال فهم في طيف نهاية جيل X وبداية جيل Y. لهذا الرجل فضل كبير على كل الجيل الناطق بالعربية في ذاك الزمان. فعلى يديه دخلت اللغة العربية إلى عالم التقانة الجديدة وثورة الحواسيب، فمكنت المتحدثين بالعربية من مواكبة صعود الإلكترونيات والتعامل مع الحواسيب بواجهات عربية اللغة، مما جعل الحواسيب أليفة ومفهومة لمن يقرأ العربية، ومهدت إلى دخول الحواسيب إلى البيوت دون الحاجة إلى عميق معرفة باللغات الغربية. ما كان وتم وقتها كان شيئًا ثوريًا جدًا وعظيم الأثر. ولك أن تلاحظ هنا أن القطاع الخاص قد تقدم على القطاع العام ربما لكون الموضوع وقتها غير واضح الفوائد بالنسبة للصناديق السيادية أو الخزائن العامة لدول الخليج في ذلك الزمن، الشيء الذي سنجده تبدل عند الحديث عن البنية التحتية اللازمة لتوطين الذكاء الاصطناعي في المنطقة الذي تولته الجهات السيادية. حقيقة أن الكويت نجحت عبر شراكات مع جهات غربية ويابانية في ذلك الزمان من صناعة كمبيوتر نستطيع أن نقول إنه عربي، جعلتني أتأمل مقولة كان يتم تداولها بداية الألفية الثالثة، سمعتها لأول مرة بالكويت نفسها في نهاية العام 2012، ونحن في سوق (الوَطِيَّة) بالكويت، فحينما علقت أن واجهة السوق يشبه السوق الإفرنجي في الخرطوم، قال محدثي أن ذلك يعكس تقدم الكويت خليجيًا وعربيًا في الماضي، وأردف المقولة باللغة الإنجليزية: (كانت الكويت، والآن الإمارات، وغدًا الدوحة). الآن طبعًا تغير التموضع الجديد في الخليج، وذلك لدخول رؤية السعودية 2030 وما تبعها من تحولات كبرى في المنطقة حملت الإقليم كله إلى مصاف جديدة في التأثير العالمي، وكذلك دخول الإمارات في برامج طموحة في جانب التحول الرقمي، بل وريادة المنطقة. هذا حتمًا له ارتباط عظيم بما نحن فيه من استشراف دخول عوالم الذكاء الاصطناعي وتوطينه في الشرق الأوسط.
الذكاء الاصطناعي ودخوله إلى عالم اليوم يشبه في المبدأ قصة دخول الكمبيوتر إلى عالم الأمس. فعند الكثيرين، كان الحاسوب أو الكمبيوتر شيئًا يسمعون به ولا يعرفون له صرفًا أو نفعًا، أو حتى تخمينًا، لكنهم كانوا يدركون أنه شيء سيكون له دور كبير في حياتهم. ثم ما لبثوا أن رأوه يجتاح حياتهم، في مكاتب الشركات وفي دواوين الحكومة، ومن ثم في بيوتهم. الآن نفس الشي ينطبق على عالم الذكاء الاصطناعي. فإذا كان خوف الناس من أن يأخذ الكمبيوتر وظائفهم كان وهمًا، فالحقيقة هي أن وظائفهم أخذها أشخاص يتقنون التعامل مع الكمبيوتر وينجزون عبره. الآن نفس الوهم، ونفس الحقيقة تنطبق على موضوع الذكاء الاصطناعي. فحتمًا سيتفوق الموظف الذي يجيد التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي على من لا يعرف. وينطبق ذلك على عالم الأعمال والشركات والمؤسسات التعليمية وكل نواحي الحياة.
قريبًا جدًا – وربما الآن تم – سنجد أن تعلم التعامل مع الجديد من الذكاء الاصطناعي سيكون في صلب مواد الدراسة الأولية للتلاميذ، أقول التلاميذ وليس الطلاب. الشيء الجيد هو أن البداية الآن متاحة للجميع قبل أن يتعقد ويتفرع ويتشعب أمر الذكاء الاصطناعي. بعبارة أخرى فإن الإقبال على معرفة الذكاء الاصطناعي الآن يتيح رحلة مريحة ومتدرجة لمن أراد أن يكون فاعلًا ومتفاعلًا في المستقبل القريب.
في بواكير الانتشار الواسع للحواسيب قدم كمبيوتر صخر خدمة جليلة للمتكلمين باللغة العربية. الآن، مشاريع لمؤسسات كبيرة مثل (G42 – الإماراتية)، و (هيومين – السعودية) متوقع منها خدمة جبارة للمتكلمين بالعربية، ولهجاتها في طور لاحق قريبًا غير بعيد. ومن الجيد المحمود أن تكون هناك إمكانية استشراف رحلة معرفية يسيرة وسلسة للمتكلمين بالعربية كلغة أم، وقدرتهم على التعامل مع الزائر الجديد بصورة تفاعلية تجعل الاستفادة مما يقدمه الذكاء الاصطناعي مثله مثل غيره من الأدوات.
ثورة الذكاء الاصطناعي هي فتح كبير، بدايته كانت في محركات البحث على الإنترنت، ومن ثم دخول أدوات مثل البحث بالصور، أو البحث عبر الأوامر الصوتية، مرورًا بإنترنت الأشياء، الذي تتم فيه عمليات متعددة تتفاعل فيها الآلات الذكية (الأشياء) دون تدخل بشري مباشر، مثل إجراء ساعة ذكية لعمليات قياس ضغط الدم وحالة ضربات القلب وإرسال القراءات إلى قاعدة بيانات المستشفى التي يتعامل معها صاحب الساعة الذكية. وغيرها من الأدوات التي مهدت لسهولة التفاعل وصولًا للتعامل مع منصات الذكاء الاصطناعي. بالطبع فإن الذكاء الاصطناعي سوف يجعل المهام يسيرة، ولكن على يسرها فهي تحتاج لمن يعرف كيف يتعامل معه. ولا غرابة في ذلك، فعندما تم اكتشاف الكهرباء كانت هناك شكوكًا عند من حضر ذلك الفتح الرباني عن إمكانية الاستفادة منها!
في تعريفه الأدنى فإن الذكاء الاصطناعي هو قدرة الحواسيب على فهم اللغة العادية والقيام بالمطلوب من بحث وتجميع وتحليل – كل ذلك في الخلفية غير الظاهرة للمتعامل – ومن ثم طرح النتائج بنفس اللغة التي تمت مخاطبته بها. كثير من الناس يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي في أمور التنبؤات، ولكنه لا يتنبأ إلا بالقدر الذي هو من أدوات التنبؤ المدروس أي المبني على معطيات، وليس التنبؤ الحدسي. قوة الذكاء الاصطناعي هو في اختصار المجهود المصاحب لعملية إعادة اكتشاف وإنتاج العجلة، أي في تقديم آخر ما توصل إليه العلم المخزن في ذاكرة الحواسيب العملاقة في كل ما أنجزه العقل البشري في السابق وأصبح متاحًا للناس، الذي بطبعنا البشري لا يكون متاحًا كله لفرد، فالفرد قد يعرف عن مجال أو مجالات على أصابع اليد قدرًا معقولًا، ولكن حتمًا ليس كل المجالات، وهنا تأتي قوة الحواسيب التي تعمل مجتمعة لتقديم خلاصة لما يسأل عنه السائل وتقديمها في شكل مألوف ومفهوم باللغة العادية. وحتمًا سيكون المردود أعظم لو استبدلنا تساؤلات الفرد بتساؤلات فريق عمل من شركة ما أو فريق بحث علمي، فحتمًا النتائج ستكون أعظم أثرًا.
هناك حقيقة كبيرة في عالم اللغة وارتباطها بالتفكير، بل في ارتباطها بالإدراك أولًا ومن قبله الاستيعاب. فاللغة هنا – أي لغة – حجر زاوية. وفي الماضي، بل وما يزال في الحاضر جدل كثيف حول فعالية ونجاعة استخدام لغة الأم لكل فرد وتفوقها على أي لغة أخرى مكتسبة، وإن وصل الفرد فيها لدرجة الاتقان تحدثًا وكتابة. من هنا تنبع أهمية تقديم الذكاء الاصطناعي باللغة العربية للناطقين بها كلغة أساسية. هذه العملية تبدو بسيطة، ولكنها جد عميقة ومؤثرة جدًا في سباق الحضارة. من هذه الزاوية فإن مؤسسات ضخمة مثل هيومين التي هي إحدى مشاريع صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وكذلك مشروع نور البحثي التابع لحكومة الإمارات، وشركة G42 الإماراتية، وبقية المشاريع والشركات الشبيهة في منطقة الخليج، كل أولئك ينتظر منهم تقديم خدمة سلسة للمتكلمين بالعربية (وبغيرها طبعًا)، مما يجعلهم في صدارة المستفيدين. هناك مشاريع كثيرة على امتداد العالم تتخذ من اللغات أساسًا متينًا للدخول للمعرفة الحديثة. والسباق في هذه المجالات مفتوح وبصورة تنذر باضمحلال أي لغة لم يتخذ أهلها طريق ربطها بالتطور التقني. أهمية اللغات في صراع الحضارات أهمية فائقة. ولنا في صعود اللغة الصينية حاليًا مثال كبير، فهي تتجه سريعًا لتحل مرتبة لغات كانت في الماضي متفوقة لها في عالم التقانة وعالم التواصل والغنتاج المعرفي.
عود على بدء، يخطو التحول الرقمي في المنطقة العربية خطوات جديدة جبارة عبر أبواب المستقبل، بتوطين التقانة وربطها باللغة وإتاحة الخدمات الضخمة للذكاء الاصطناعي، وكل خدمات بنيته التحتية من تحليل عميق وتقديم خدمات الذكاء الاصطناعي كخدمة سحابية أقرب في مفهومها لتقديم خدمات السوفتوير لتكون مدارةً سحابيًا، ويكفيك فقط واجهة شاشة متصلة بمراكز خدمات الذكاء الاصطناعي، أو ربما أقل من ذلك، فقط حساب واشتراك ولك أن تدخل من أي منفذ إلكتروني.
في عالم الأعمال والتنافس عليها، فإن تهيئة البيئة العملية تكون من واجبات الجهات السيادية التي تنفذ الجوانب التي ليس لها عائد مادي مباشر أو سريع الأثر، مثل البنية التحتية ووضع أنظمة قانونية تنظم الأعمال التجارية بصورة واضحة وسلسة جاذبة للمستثمرين. هذا ما تفعله أي دولة ذات توجه رشيد نحو القفز للمستقبل وريادة المجالات الجديدة. فإذا كنا في السابق قد امتدحنا سبق القطاع الخاص للقطاع العام في مجال صناعة الحواسيب ذات الواجهات العربية عبر الشركة الكويتية التي انتجت كمبيوتر صخر، فإننا الآن نرى أن القطاع العام قد تصدى لواجبه الأساسي في إنجاز البنية التحتية اللازمة لتوطين الذكاء الاصطناعي – وهو عمل جبار – ومن ثم تمكين القطاع الخاص لينطلق ويتوج تكامل القطاعين في صورة خدمات يسيرة وبلغة مفهومة.
*خبير في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ammarhamoda@gmail.com