دارفور تحت المطر والنار: موسم جديد من الجوع والخوف

إعداد: محمد أحمد
في دارفور، المطر ليس نذير حياة، بل بشير خطر جديد. مع بداية موسم الأمطار في يونيو، اختلطت برك الماء بمستنقعات الدم، فيما واصلت السماء إرسال غيومها الثقيلة على أرض أثقلتها حرب لا تنتهي، بينما تراقب العائلات النازحة السماء وهي تهدد بخنق آخر ما تبقى من قوتهم وصبرهم.
قبل شهر، سقط خمسة من موظفي الأمم المتحدة قتلى في هجوم استهدف قافلتهم الإسانية في مدينة الفاشر، العاصمة المحاصرة لشمال دارفور، ليغلق ذلك الهجوم باب الأمل أمام آلاف العائلات التي انتظرت تلك المساعدات كطوق نجاة (NPR). ومنذ ذلك اليوم، لم تهدأ الحرب ولم تصل المساعدات، بل اجتمعت الأزمات فوق رؤوس الناس وهم يجرون خطواتهم في الطين تحت وابل الرصاص.
في الأسابيع التي تلت ذلك الهجوم، دفعت المعارك المستعرة في شمال دارفور أكثر من 400 ألف إنسان للنزوح من منازلهم، في موجة جديدة من التشريد دفعت بإجمالي النازحين في السودان إلى أكثر من 13 مليون إنسان، بينما غادر أربعة ملايين آخرين البلاد بحثًا عن ملاذ بعيد عن الموت والجوع (Global Issues).
لكن المطر الذي انتظره المزارعون صار لعنة على النازحين. فقد أغلقت الأمطار طرق الإمداد، وحاصرت المخيمات، وأعاقت وصول شاحنات الغذاء والدواء إلى المخيمات التي تحولت إلى جزر من الألم في بحر الطين. يقول أحد النازحين في مخيم قرب الفاشر:
> “الأمطار اخترقت خيامنا، والمياه الراكدة صارت تحمل الأمراض. لم نعد قادرين على الاحتمال” (ACAPS).
وسط هذه الأمطار، اشتعلت أسعار الغذاء في أسواق دارفور، حيث ارتفعت أسعار الذرة والدخن والسكر بنحو 65% خلال شهرين، بينما أغلقت المخابز أبوابها بسبب انقطاع الإمدادات والوقود، لترتسم علامات المجاعة على وجوه الأمهات والأطفال الذين انتظروا الخبز بلا جدوى (ReliefWeb).
برنامج الأغذية العالمي أعلن أنه إذا لم يُؤمّن تمويل عاجل بقيمة 200 مليون دولار، فإن الإمدادات الغذائية ستتوقف خلال شهرين، ليصبح ملايين في دارفور على شفا الجوع الكامل (Reuters).
المرض كان حاضرا أيضًا في المشهد الموحل، إذ أعلنت اليونيسف عن تسجيل أكثر من 29 ألف حالة كوليرا و629 وفاة منذ بداية العام، بينما تتحدث منظمة أطباء بلا حدود عن انهيار 70% من المنشآت الصحية في السودان، تاركة آلاف الجرحى والمرضى دون دواء ولا رعاية، في مخيمات يغمرها الطين ويثقلها الخوف (UNICEF، MSF).

في الخلفية، ظهرت محاولات لفتح ممرات إنسانية مع إعلان الجيش السوداني قبول هدنة إنسانية محدودة في الفاشر بوساطة الأمم المتحدة، غير أن الهدنة بقيت معلقة في الهواء، بلا ضمانات حقيقية، وسط تحليق الطائرات المسيرة فوق سماء المدينة الموحلة (UN News).
اللافت أن موسم الأمطار الذي يبدأ عادة حياة جديدة في دارفور صار هذا العام فصلًا للفوضى. المياه التي تتسرب إلى الخيام المهترئة تغسل الوجوه المرهقة لكنها لا تغسل آثار الرعب، وتجعل من كل زقاق طريقًا إلى مستنقع يحمل الكوليرا والملاريا في خيوطه الطينية. ومع كل قطرة مطر، يزداد الخوف من مجاعة تقترب دون أن يجد أحد لها حلاً.
وفي هذا المشهد، تبرز المخاوف من أن يتحول هذا الموسم إلى موسم مجاعة واسع النطاق، إذا لم يتم تخزين المساعدات الغذائية قبل أن تقطع الأمطار الطرق نهائيًا، أو إذا لم تُفتح ممرات إنسانية حقيقية بعيدًا عن حسابات الحرب والأسلحة والطائرات المسيّرة.
دارفور اليوم تقف على حافة الهاوية: موسم الأمطار لم يجلب السلام، ولم يرحل عنها الحرب، بل أضاف على معاناة الحرب طبقة جديدة من الطين والجوع والمرض، تاركًا آلاف العائلات في انتظار ما قد يأتي به الغد: قافلة نجاة لا تعرف إن كانت ستصل، أم خبر سقوط جديد في مدينة تنتظر بلا نهاية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى