حرب الصور، وعذابها

د. وجدي كامل

تظل الغالبية العظمى من النازحين، أولئك الناجين بأرواحهم من ويلات الحرب، المقيمين بأجسادهم على مسافة بعيدة من جغرافيا الحرب على ظنٍّ أنهم باتوا في مأمن من ضرباتها وانفجاراتها اليومية المتزايدة. فالبعد الفيزيائي “وضع البعيد”، يجعل علاقتهم بالحرب علاقة اتصالية، وبالأحرى “تواصلية”، تقوم على استهلاك المعلومات المنقولة من مناطق الصراع، وعبر الصور المتداولة بوسائل التواصل الاجتماعي، فمنذ اندلاع الحرب، لعبت منصات مثل فيسبوك، إنستغرام، تويتر، وواتساب دورًا محوريًا في نقل محتوى كثيف، وجرعات عالية من الصور والمقاطع، توثّق بشكل لحظي ما يجري على الأرض. غير أن من يظن أن هذه الوسائط قامت فقط بدور المرآة العاكسة للحدث يخطئ الظن. فقد أتاحت إمكانية تسجيل تفاصيل القتل، السحل، التعذيب، بقر البطون، الإعدامات الحية، التهجير الجماعي، والإساءات اللفظية، فامتلأت ذاكرة الميديا بعشرات الآلاف من الصور المرعبة، المروّعة.

هذه الصور، وإن بدت لوهلة أنها “أدت غرضها وذهبت إلى الأرشيف لتستريح وتنام”، إلا أنها تبقى مغرضة في رسائلها، فاعلة في آثارها. الصدمة تتجلى حين يكتشف المتلقي، بعد زمن، أن ما شاهده لم يمرّ عابرًا، بل استقر في ذاكرته، ونفذ إلى ثقافته، وتربيته اليومية، وأسلوب تعاطيه مع الحياة.

فالصور، في جوهرها، لا تنقل فقط محتوى مرئيًا، بل تحمل عدواها وعدوانها، عبر زوايا النظر التي اختارها المصوّر، ومنظور المنتج، والسياقات المصاحبة. الباحثة أرييلا أزوراي، تضيف منظورًا مهمًا حين تقول:  

 “كل صورة حرب تحمل في طياتها علاقة بمن يُصوّر، ومن يُصوَّر، ومن يشاهد، ما يعني أن الصورة ليست بريئة”1. 

في الحروب، تكون الصور حكرًا على مشاهد العنف والانحطاط الإنساني، مما يجعلها مواد ملتهبة، تشتبك بالمعنى، وتبثّ الفتنة والألم بين الناس عن وعي وبصيرة. إنها تساهم في تشكيل سردية الحرب، وصناعة التصور الجمعي عنها.

أتذكر هنا، حينما كنت أعمل في قناة الجزيرة، وتم تكليفي بعد انتهاء الخدمة، من مديرها الأستاذ مصطفى سواق توثيق مسيرة القناة بمناسبة عيدها الفضي. أجرينا مقابلات مع المؤسسين من مذيعين ومقدّمي برامج وإداريين ممن فاق عددهم الخمسين. وكان هناك إجماع بينهم على أن الانطلاقة الحقيقية للقناة حدثت إبان حرب العراق 2001-2003، عبر التغطيات الخاصة والحصرية، ما لفت أنظار الغرب، وكرّس تأثير القناة القوي لدى المشاهدين العرب، فجعل من التغطية الإعلامية صناعة موازية للحدث.

وفي تغطية أحداث الربيع العربي، وُجهت للقناة اتهامات بأنها ساهمت في تأجيج الثورات، بفعل تغطية مستمرة، منتظمة، وبرمجة مفتوحة، جعلت من “المشاهد لاعبا مشاركًا”. فأضيف بأن وظيفة القناة لم تكن نقلية فقط كما يُشاع، بل كانت ذات أثر تعبوي جعلها مساهمًا لا يقل أهمية عن الثوار أنفسهم بالميادين.

هذا المنحى تؤكده نظرية بول فيريليو، المفكر الفرنسي المتخصص في الثقافة والإعلام، بقوله:

“الصورة في الحروب الحديثة ليست ناقلًا فقط للحدث، بل سلاحًا بحد ذاته .”2

إن المشاهد، حين يشاهد فيلم “أكشن” أو فيلمًا حربيًا لساعة أو ساعتين، يخرج من دار العرض مختلفًا عما دخل، رغم قِصر الزمن. فالتجربة الفيلمية تؤسس لحالة نفسية جديدة، تنصهر في داخله وتُعاد تدويرها في مخياله العاطفي والمعرفي. ذلك حال الافلام المعالجة فنيًا وإبداعيًا وفق تصور مسبق من صانعيها لحزم الاستجابات المتوقعة، فكيف يكون الحال حين تكون الصور المُشاهدة ليست من السينما الفنية أو الخيالية، بل من شرائح ساخنة، متدفقة من الواقع، واقع حرب تخصه، حرب واقعها ووقائعها ببلاده ومدنه وأهله، وبالتالي ذكرياته؟

حين ننتقل لتحليل الحالة السودانية، نجد أن ضخّ الصور من ساحات الحرب، في نسق معلوماتي كثيف بواسطة الجنود، أو المواطنين، او المراسلين التلفزيونيين، يخلق تأثيرًا نفسيًا مضاعفًا على النازحين، أو من يعيشون في بلدان المهجرون، أولئك ممن يتابعون احداث الحرب عن بعد.

 أولى الحقائق هنا أن الصور تُمثّل لحرب “منا وفينا”، حرب تدور في قرانا ومدننا وبيوتنا، وهي حرب أصبحت داخلنا، حرب تضغط على أعصابنا وتثير فينا من الأحزان والآلام ما تثير، ما ينسف أي إمكانية للحياد واعتبارها تجربة خارج ردود فعلنا واستجاباتنا الخاصة.

يُضاف إلى ذلك أن الانقسامات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين السودانيين تُنتج تحيزًا في استهلاك الصور وتفسيرها وتدويرها بتدخل منحاز ومنفعل، فتصبح الصور ذات قيمة عاطفية زائدة، تتحول إلى “شرر إضافي” يُغذي لهيب الحرب نفسها في مواقعها الحقيقية بما ترفده ردود أفعال الناجين على الجنود المقاتلين. وقد شهدنا في هذه الحرب كيف استطاع غناء من يطلق عليهن بالـ “القونات” من إلهاب مشاعر قادتها العسكريين والجنود معا عن طريق الزيارات الميدانية والصور القادمة عن طريق الميديا أيضًا.

 غير إن الأهم يتمثل في تحويل التفاعل مع هذه الصور إلى تجربة شخصية نفسية وذهنية مؤثرة، يتداخل فيها العام مع الخاص، والجمعي مع الفردي، والمحتوى الصادم مع التجربة الذاتية، بما يترك آثارًا عميقة على المتلقين.

وتكمن الخطورة الأكبر في طبيعة الاستهلاك الرقمي اليومي الذي لا يشبه متابعة الأفلام أو النشرات الطويلة. فالمتابع اليومي، وخاصة من يستخدم الإنترنت بشكل مكثف ولساعات طويلة، قد يمضي وقته في تفاعل مباشر مع محتوى حي، سواء صور فوتوغرافية أو مقاطع فيديو. هذا التفاعل المستمر يعمّق أثر الصور، ويضع المتلقي في موقع الشاهد المباشر، وربما الضحية النفسية.

هكذا، تتحول الصورة إلى حرب موازية تزرع الكآبة، القلق، والتوتر، وتخلق نوعًا من الإعاقة الذهنية والنفسية، قد تتحول إلى أمراض فعلية، أو تزيد من حدة الموجود منها وقد تقتل بالجلطات والسكتات القلبية. فالمتلقي لا يخرج سالمًا من هذا الدمار البصري، بل تتراكم عليه توترات وصراعات داخلية، تُنتج “حربًا موازية” تدور في دواخله وتنعكس على محيطه بنحو منتظم ومتصاعد كلما طال أمد الحرب وتكثفت خساراتها، فالأرواح التي لم تمت برصاص المعركة تموت برصاص الصور المتدفقة. هنا يوحد الموت الضحايا وان تعددت الأسباب. ولكن فالخطر قد لا يكمن في نتائجه المدمرة بيولوجيا، بل في جعل الحرب وكأنها مجرد نزهة.. فالصور حين تُستهلك في المقابل بلا وعي تصبح وسيلة تخدير لا تذكير، وتحول الحرب إلى فرجة لا إلى دعوة للمساءلة، وهذا ما تناولته سوزان سونتانغ في كتابها * ما يخص الألم لدى الآخرين* عندما تلفت النظر إلى أن “الصور ليست ما يُعلّمنا أن ننسى، بل كثرتها، وتكرارها، وعدم قدرتنا على الوصول إلى ما وراءها، هي ما يُخدّر حسّنا الأخلاقي ويحول الألم إلى استهلاك”3. ذلك ينسجم أيضًا مع ما ذكره جون بيرجر في مؤلفه: “طرق الرؤية ” الصورة التي لا يُعاد التفكير فيها، لا تثير فعلًا، بل تُركَن إلى الذاكرة كحقيقة ميتة.

إن كل ما سبق يدعو للنظر الى الصور المتدفقة عن الحرب بنحو من التأمل والتفكير النقدي بعدم الوقوع في شباك القراءة البصرية السلبية. من هنا، لا خلاص من حرب الصور إلا بتحرير وعينا منها ومن اثقالها ومحمولانها، لا بها.

دعوة لإعادة التفكير في أخلاقيات الصورة:

لقد بات من الضروري اليوم، وسط هذا السيل من الصور المحمّلة بالألم والخراب، أن نعيد فتح النقاش الأخلاقي حول ما يُنشر، ومن ينشره، ولماذا، وكيف يمكن لمجتمعاتنا أن تضع أطرًا تراعي أثر الصورة قبل استهلاكها أو ترويجها، لأن الحرب لا تقتل فقط بالبندقية، بل بعدسة الكاميرا أيضًا.

2- اقتراح حلول إعلامية أو تربوية:

إذا كانت الصورة قد تحوّلت إلى أداة حرب نفسية، فربما آن الأوان لتطوير استراتيجيات إعلامية وتربوية تساعد الأفراد على “مقاومة” هذه الحرب، عبر رفع وعيهم بآليات التلقي.

وهذا كله ينطبق بجلاء على الحالة السودانية، حيث لم تعد الصور المتدفقة من جبهات القتال مجرّد وثائق للحدث، بل تحوّلت إلى وسيلة تعايش يومي مع العنف، وإلى شكل من أشكال “التطبيع البصري” مع المأساة. فكما تقول سوزان سونتاغ، فإن المشكلة لا تكمن في الصورة ذاتها، بل في فيضانها وتكرارها واستهلاكها دون تأمل، ما يُخدّر الحس الأخلاقي ويحوّل معاناة الآخرين – في هذه الحالة أهلنا وذواتنا – إلى مادة عابرة في شريط لا يتوقف

3- الحاجة للمعالجة النفسية الجمعية:

في مواجهة هذا القصف البصري المستمر، تبدو الحاجة ملحة لتأسيس برامج دعم نفسي، لا تعنى فقط بالضحايا في ساحات المعارك، بل تشمل أيضًا أولئك المحاصرين خلف الشاشات، والذين تفتك بهم صور الحرب ببطء، وفي صمت

 

الخلاصة 

“وهكذا، تبقى الصورة، رغم صمتها، أكثر ضجيجًا من الرصاص، لأنها لا تمر دون أن تترك أثرًا. إنها لا تكتفي بتوثيق الموت، بل تشاركه، وتُعيد إنتاجه. فهل نحن من يشاهد الصور، أم هي التي تشاهدنا وتنحت ملامحنا من جديد؟”

وفي السودان، حيث يتشارك الضحية والمُتلقي الوجع والانتماء، تصبح الصورة أقسى وأقرب وأكثر إيذاءً. هنا لا يتأمل المُشاهد الآخر، بل يتأمل ذاته المجروحة، أهله المقتولين، ومدينته المحروقة. فالحرب في السودان لا تُدار فقط بالسلاح، بل أيضًا بعدسة الهاتف، وصورة الميديا، وبالدم المنقول عبر شبكة من الصور التي تُدمي العيون والقلوب. وإذا لم نعد قراءتها، وتأملها، وفهم ما تحمله من دلالات خفية، فسنكون شهودًا على مأساة مضاعفة. وهي التجربة التي حذر منها جون بيرجر حين قال إن الصورة التي لا يُعاد التفكير فيها تصبح “حقيقة ميتة”، لأنها حين لا تُفكَّك أو تُحرّك وعينا، تُدفن كما يُدفن القتلى، دون عزاء، ودون محاسبة.

 

[1]: Ariella Azoulay, The Civil Contract of Photography, Zone Books, 2008 

[2]: Paul Virilio, The Vision Machine, Indiana University Press, 1994  

  

[3]: Susan Sontag, Regarding the Pain of Others, Farrar, Straus and Giroux, 2003.  

[4]: John Berger, Ways of Seeing, BBC and Penguin Books, 1972.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى