حينما تبكي الأشجار.. غابة السنط تستغيث!

 

تتعرض غابة السنط، إحدى أعرق المساحات الخضراء في الخرطوم، لعملية إبادة بيئية ممنهجة عبر قطع الأشجار والتجريف، في ظل انشغال الدولة بالحرب وتراخي الرقابة. الغابة، التي تُعد “رئة العاصمة” ومصدرًا للتنوع الحيوي، تواجه خطر الفناء، مما يهدد استقرار المناخ والصحة العامة.

مبادرات بيئية ومختصون أطلقوا نداءات عاجلة لوقف التعديات، داعين لتفعيل القوانين التي تحظر الإضرار بالغابة، ومحاسبة المتورطين في التجاوزات. وقد تدخلت الشرطة لاحقًا بحملة أمنية أسفرت عن ضبط متهمين وأدوات قطع الأشجار، في محاولة متأخرة لحماية الغابة.

تكتسب غابة السنط أهمية بيئية وعلمية وثقافية، فهي ملاذ للطيور المهاجرة ومصدر لحماية التربة والنظام البيئي النيلي، كما أنها محمية طبيعية منذ عام 1939. ويرى الخبراء أن تدميرها يُسرّع التغير المناخي المحلي ويهدد التوازن البيئي.

في ظل الأزمات المتراكمة، يؤكد التقرير أن حماية غابة السنط ليست رفاهية، بل مسؤولية وطنية لحماية المستقبل البيئي للسودان، داعيًا لتضافر الجهود الرسمية والمدنية للحفاظ على هذا المورد الحيوي.

=‫====‬

حينما تبكي الأشجار.. غابة السنط تستغيث!

بينما تنشغل الخرطوم بجراح الحرب والشتات، تتعرض غابة “السنط” بصمت مريع لعملية إبادة بيئية ممنهجة. في زمن تتصاعد فيه الحاجة إلى الأمان البيئي والهواء النظيف، تتهاوى واحدة من أعرق المساحات الخضراء في السودان تحت معاول التجريف وقطع الأشجار.

 هذه الغابة، التي كانت عبر عقود “رئة العاصمة” ومأوى للتنوع الحيوي ومصدًا طبيعيًا للتلوث، باتت اليوم مهددة بالفناء، في ظل غياب الحماية وتراخي الرقابة الرسمية.

 رئة العاصمة تختنق

 في أعقاب اندلاع الحرب منتصف أبريل 2023، شهدت غابة “السنط” بالعاصمة الخرطوم، أعمال قطع جائر ما يؤثر سلبًا على استقرار المناخ وعواقب بيئية خطيرة على سكان العاصمة القومية من ضيق في الموارد البيئية والهوائية.

تُعَدّ غابة “السنط” بالمقرن من أعرق المساحات الخضراء الطبيعية في الخرطوم؛ فهي واقعة على الضفة الشرقية للنيل الأبيض قرب ملتقى النيلين، وهي غابة مركزية محجوزة مساحتها 34.482 فدان موزعة علي النحو الآتي: مساحة المرابيع المزروعة حوالي 25 مربوعًا =  45.453 فدانا – الطرق والشوارع 39.8 فدانًا – الحديقة الشجرية والمشتل 50,20 فدانًا.

تسهم الغابة في امتصاص الغازات التي تنبعث من المصانع وعوادم السيارات والمنشآت الصناعية الأخرى، خاصة وأن ولاية الخرطوم شهدت زيادة سكانية عالية نتيجة للنزوح بسبب الحروب والجفاف والتصحر والصراعات القبلية والهجرة الجماعية من الريف، وانهيار الإنتاج الزراعي وتدهور النظم الزراعية والبيئية بالريف، وهذا الوضع يتطلب زيادة في عدد المركبات والسيارات والمنشآت الصناعية التي تفرز كميات ضخمة من غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى التي تساعد في انتشار ظاهرة الاحتباس الحراري.

 جريمة بيئية

أطلقت مبادرة معنية برصد التعديات البيئية وتعزيز وعي المجتمع بقضايا الطبيعة نداء عاجلًا  لوقف الاعتداء على غابة السنط – ووقف فوري لأعمال قطع الأشجار والتجريف الجارية في المنطقة.

وطالبت المبادرة بمُساءلة الجهات المسؤولة عن هذا الاعتداء البيئي، وتصعيد التصنيف القانوني للغابة كمحمية محظورة التعدي.

 وذكرت المبادرة، أن تدمير الغابة يُعد جريمة في حق البيئة والمُجتمع السوداني، ويفتح الباب أمام كوارث بيئية مستقبلية تُهدد استقرار المناخ المحلي والصحة العامة.

 تحرك أمني متأخر

 نفذت الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية عبر إدارة حماية البيئة التابعة لدائرة التحقيقات الجنائية حملة كبرى لحماية غابة السنط بالخرطوم من الأنشطة السالبة، المتمثلة في الحرق والإتلاف والقطع الجائر الذي تعرضت له الغابة خلال الفترة الماضية.

وذكر المكتب الصحفي للشرطة في بيان أن بعض معتادي الإجرام عمدوا على قطع ونقل الأخشاب بغرض الإتجار غير القانوني، مما يشكل تعديًا وانتهاكًا للقوانين المحلية والدولية، وقد أسفرت نتائج الحملة عن ضبط عدد 41 متهمًا وعدد 2 شاحنة دفار وعدد 2 كارو وعدد 30 فأس قطع اتخذت إجراءات قانونية في مواجهة المتورطين.

وقال مدير الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية اللواء شرطة حقوقي سامي الصديق دفع الله، إن جهود إدارته في مكافحة وكشف الجريمة متواصلة، بجانب استمرار الحملات الراتبة التي تستهدف المعتدين على غابة السنط من أجل حمايتها باعتبارها محمية طبيعية بموجب القوانين، وتمثل نظامًا بيئيًا متكاملًا يسهم في توازن المناخ وهي أحد المزارات السياسية في البلاد.

أعلنت غابة “السنط” كمحمية طبيعية للحياة البرية عام 1939، وقد ورد ذكرها في كل الوثائق والمراجع الدولية، مثال لذلك إحصائية الأمم المتحدة للمحميات الطبيعية في العالم عام 1997.

تكتسب الغابة أهمية تعليمية فقد أنشئت بها مدرسة خبراء الغابات عام 1946 لتدريب كوادر الغابات من الخبراء والملاحظين على تقنيات وإدارة وزراعة الغابات، وهذه المدرسة خرجت الرعيل الأول من فني الغابات الذين كان لهم الدور العظيم في زراعة الغابات في كل مناطق السودان من جبال وهضاب وأودية وسهول وصحارى.

 مهد للحياة والتنوع الحيوي

 يهتم مجلس الطيور العالمي والإدارة العامة للحياة البرية، ومركز بحوث الحياة البرية وكليات الموارد الطبيعية بالجامعات السودانية، وجمعية حماية الحياة البرية، بدراسة ورصد حركة الطيور المهاجرة والمستوطنة بهذه الغابة نسبة للأعداد الهائلة من الطيور التي ترتادها.

 الغابة جزء من المنظومة النيلية وتحوي سلالات نادرة من أشجار السنط، وبعض الأشجار والشجيرات الأخرى، وتضم حديقة نباتية مرجعية.

تحتوى الغابة على تنوع إحيائي من نباتات وحشرات وحياة برية، وتعتبر ملاذًا آمنًا لهذه الأحياء، ومستودعًا ثريًا لحفظ السلالات النباتية والحيوانية والمصادر الوراثية.

ويشارك السودان في المسح العالمي السنوي للطيور المائية، فحسب المسح الذي تم عام 93 في السودان وجد أن غابة السنط تحوي علي 817 طائرًا و18 نوعًا من الطيور المهاجرة التي تأتي من منطقة أوروبا والشرق الأوسط.

 

أصوات تحذّر

 قال المتخصص في شؤون البيئة، د. جلال محمد يس لـ”أفق جديد”، إن “ما تشهده غابة السنط أو غابة جبل باوزر من تعديات وقطع جائر للأشجار يُمثل ناقوس خطر حقيقي، ليس فقط على التنوع البيولوجي المحلي، بل على استقرار البيئة والمناخ في الإقليم بأكمله”.

وأوضح أن أشجار السنط تُعد عنصرًا أساسيًا في النظام البيئي، إذ تسهم في تثبيت التربة، ومنع انجرافها وحماية مجرى نهر النيل الابيض، كما تُوفر موائل طبيعية لعدد كبير من الكائنات الحية خاصة الطيور المهاجرة.

 ونبه جلال إلى أن القطع العشوائي يُفقد الغابة توازنها الطبيعي، ويُسرّع من وتيرة التغير المناخي المحلي، عبر تقليل الغطاء النباتي الذي يمتص الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين، ويعمل كمصفاة للملوثات والنفايات الصناعية  والكيماوية والزراعية، وكذلك يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وزيادة معدلات الجفاف، الأمر الذي يؤثر سلبًا صحة الإنسان.

لافتا إلى أن ما يحدث في غابة السنط لا يمكن النظر إليه كقضية محلية فحسب، بل هو جزء من تحدٍ بيئي عالمي.

وأضاف، “وعليه، فإنني أُهيب بالجهات المعنية الإسراع في وقف التعديات، وتفعيل منظومة حماية الغابات، ودعم برامج إعادة التأهيل البيئي. كما أدعو إلى تعزيز الشراكات بين منظمات المجتمع المدني والمؤسسات البحثية والأكاديمية، فهي الشريك الأول في حماية هذا المورد البيئي الحيوي، والحفاظ على غابة السنط هو حفاظ على مستقبلنا البيئي والمناخي”.

 صرخة خضراء

 وذكر د. طلعت دفع الله في مقالة بعنوان “غابة السنط تستغيث.. الصرخة الخضراء من قلب المقرن”، أن غابة السنط مسجلة بالغازيتة رقم 563 بتاريخ 15 يوليو 1932، وقد شهد هذا العام صدور سياسة الغابات لعام 1932 التي صدق عليها حاكم عام السودان السير ج. ل. مافي (J. L. Maffey) في مجلسه رقم 368 بتاريخ 31 يناير 1932. كذلك صدر في هذه الفترة قانون الغابات المركزية لعام 1932، وقانون الغابات التابع للمديريات لعام 1932 في 17/6/1932، وقد صدرت هذه التشريعات لإدارة وحماية غابات السودان من المهددات البيئية ومخاطر الاستغلال غير المرشد لهذا المورد، ولتأكيد مبدأ استغلال مورد الغابات في حدود القطع المسموح لاستدامة تدفق خدمات ومنتجات الغابات لرفاهية الجيل الحالي والأجيال القادمة.

وأوضح د. طلعت أن قانون الغابات والموارد الطبيعية المتجددة لعام 2002م يوضح الحقوق والامتيازات القانونية التي تنطبق علي هذه الغابة، مثل حق الجمهور في التمتع بمناظر ومباهج الغابة والسياحة والترفيه دون الإضرار بالأشجار أو قطعها أو التسبب في إضرام النيران بها، خاصة تلك التي يتسبب فيها الجمهور أثناء الرحلات الترفيهية، وليست هناك أي حقوق أو امتيازات أخرى لأي جهة غير الهيئة القومية للغابات.

حماية الغابة.. حماية للمستقبل

تواجه غابة السنط أخطر مراحل وجودها، في وقت تبدو فيه أجهزة الدولة مشغولة بأولويات الحرب والتأزم السياسي. ومع ذلك، تظل حماية الغابة مسؤولية وطنية، تتعلق بمستقبل المناخ والصحة العامة والأمن البيئي.

حماية غابة السنط، إذن، ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية، لا تقل أهمية عن وقف نزيف الحرب، لأنها تتعلق بمصدر حياة، ومستودع تنوع، ومرآة لما تبقّى من توازن في بلد يكاد ينهار بيئيًا كما انهار سياسيًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى