إعادة بناء السودان تبدأ باستعادة ثقة الناس


أريج الحاج
تخرج من العاصمة الخرطوم لقطات لا تُصدّق: رُكام دخان يغطي شوارع كانت يومًا صاخبة، مثل شارع الجمهورية أو السوق العربي، لم تعد إلا مدينة أشباح تخلو من روح الحياة والتجارة والصمود، بعدما اجتاحها صراع لم يدمر الأبنية فقط، بل حطّم الثقة أيضًا.
الصراع الذي اندلع في أبريل 2023 بين القوّات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع ترك وراءه ندوبًا مادية ونفسية، وشوّه صورة العاصمة. ومع تكرار الدعوات لوقف إطلاق النار واعتبار السلام هدفًا، تظلّ تساؤلات جسام: هل نهاية الحرب كافية؟ وهل يكتفي إنهاء القتال؟ الإجابة: لا.
إعادة الإعمار الحقيقية لا تُبنى على الخرسانة فقط، بل على البشر، وبالأساس – على عودة وتمكين الطبقة الوسطى السودانية. فالمعلمون، المهندسون، الأطباء، الصحفيون، أصحاب الأعمال الصغيرة، والموظفون العموميون هم من حافظوا على نسيج السودان المدني، وهم الذين جعلوا من مدنه محركًا اقتصاديًا ومستقرًا اجتماعيًا
اليوم، أغلبيتهم فقدوا مصادر دخلهم، أو نزحت عائلاتهم، وسقطوا في براثن الفقر. العديد منهم لا يقرر العودة إلا في ظل ضمانات جدّية: أمان، استعادة ممتلكات، وإعادة بناء إحساس بالانتماء. إذ يمكن إعادة بناء المباني، لكن استعادة الثقة هو التحدّي الحقيقي.
عبر التاريخ، تعلمت العديد من الدول أن طريق التعافي لا يبدأ بالمساعدات فقط، بل يبدأ باستثمار الإنسان، وإحياء الطبقة الوسطى، وإعادة إحياء الدور المدني. مثال ذلك:
فرنسا وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث دمّرت الحرب أكثر من 600 ألف روح وانهارت البنية التحتية، لكن عبر الاستثمار في التعليم والنقل والسكك الحديدية، وبدعم جزئي من خطة مارشال، أعادت فرنسا جذب الرخاء خلال ربع قرن، وزاد دخل الفرد بنسبة تزيد عن 170٪، واستعادت مؤسساتها ضمن قاعدة اجتماعية اقتصادية متكاملة.
اليابان، المحاصرة بهيروشيما وناغازاكي وتكاليف بشرية فاقت 2.5 مليون، أطلقت “خطة مضاعفة الدخل” في الستينيات التي ركّزت على التعليم والابتكار الصناعي والبنية التحتية، وفي غضون عقد بلغت المرتبة الثالثة اقتصاديًا عالميًا.
الصين بعد الثورة الثقافية (1966–1976) التي راح ضحيتها نحو 2 مليون شخص، قادت إصلاحات كبرى منذ 1978، شملت تحرير الاقتصاد، وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة وجذب الاستثمار الأجنبي، فجاء تعافيها سريعًا، وظهور طبقة وسطى جديدة.
ماليزيا، عقب أحداث عنف عرقي في عام 1969، اعتمدت استراتيجية تنموية شاملة (السياسة الاقتصادية الجديدة) في السبعينيات، وهدفت لتقليص التفاوت الاقتصادي بين المجموعات العرقية، ودعم ريادة الأعمال، وتوسعة فرص التعليم والسكن، ما أرسى طبقة وسطى حديثة.
موزمبيق بعد حرب أهلية استمرت 15 عامًا (1977–1992) خلّفت أكثر من مليون قتيل، بدأت باستعادة اللاجئين وافتتاح المدارس، وإصلاح النظام المالي، ومع الموارد المحدودة نجحت ببرامج مرحلية مجتمعية تستعيد الاستقرار.
نيجيريا، حيث أودت حروب بوكو حرام بحياة أكثر من 35 ألف شخص وتشريد أكثر من 2.5 مليون منذ 2009، أطلقت الحكومة مشاريع إعادة بناء في مناطق مثل “نجوم”، بالتركيز على التدريب المهني، ودعم المشاريع الصغيرة، وبناء المدارس والأسواق، مما ساهم في إعادة الثقة بين المجتمعات والدولة.
رواندا، التي شهدت إبادة جماعية عام 1994 أودت بحياة قرابة 800 ألف شخص في 100 يوم، نفّذت استراتيجيات وطنية جريئة للمصالحة، وتركيز على مكافحة الفساد، وتمكين النساء، والحكم المحلي، فربطت التعافي بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وأسست طبقة وسطى نشطة.
تشترك هذه التجارب – التي تبدو متباعدة الجغرافيا والثقافة – في مبدأ أساسي: لا يمكن أن تثمر إعادة البناء دون وضع الطبقة الوسطى في مركز العملية، مشاركين ومستفيدين في آن واحد.
ما يحصل في الخرطوم ليس مجرد خراب مادي؛ إنما هو انهيار ثقة عميق في النسيج الاجتماعي الذي كان يوازن بين الفقر والغنى، بين الدولة والمجتمع.
العودة الحقيقية للخرطوم لا تبدأ بعودة مبانيها، بل بعودة طبقتها الوسطى: من معلمين ومهندسين وأطباء وأصحاب حرف ومشاريع صغيرة إلى الصحفيين والموظفين الذين كانوا عماد الاستقرار.
إعادة بناء السودان لا تبدأ بالأسمنت والطوب، بل باستعادة الناس، واستعادة أدوارهم، وكرامتهم، وثقتهم في أن الدولة لن تعود لهم بشفرة الحرب بل تغدو لهم شريكًا.
فقط حين يستعيد الجميع ثقتهم، تعود العائلات إلى بيوتها، والمستثمرون إلى أعمالهم، وتعود الحياة إلى شوارع الخرطوم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى