في الذكرى الوثيقة السادسة الوثيقة الدستورية..
الزين عثمان
الرابع من أغسطس العام 2019، الدم والثورة يتقاسمان الخطوات في الشارع السوداني، ثنائية المواجهة كانت على أشدها بين المدنية والعسكرية، ومواكب الثوار حينها لا تتوقف في بحثها عن حلم سودان الحرية السلام والعدالة.
المجلس العسكرى الذي أعلن اسقاط البشير والأحتفاظ به في مكان أمن دون أن يحبس سلوك نظامه المعزول في قتل الناس بدم بارد يبحث له عن مخرج مما صنعت يده في الثالث من يونيو 2019.
بدعم وبوساطة من الإتحاد الأفريقي ودولة إثيوبيا، وقع المجلس العسكري الإنتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير بالأحرف الإولى على إعلان دستوري يمهد الطريق نحو تشكيل حكومة إنتقالية.
وأعتمد الإعلان الدستوري اتفاقية تقاسم السلطة التي تم التوصل إليها في وقت سابق، مثل أستاذ الكيمياء والقيادي بتجمع المهنيين أحمد ربيع قوى اعلان الحرية والتغيير بينما دفع المكون العسكري بمحمد حمدان دقلو “حميدتي” لينوب عنه في توقيع الإعلان الدستوري.
الوثيقة المقلوبة قولا وفعلا
عكست الصورة الرسمية الملتقطة للتوقيع، كيف أن الرجلين حملا وثيقة الأنتقال بشكل “مقلوب”، وكأن اللحظة تشرح ما سياتي بعدها من انقلابات ليست على الوثيقة فقط بل على الثورة وعلى حياة السودانيين برمتها.
بعد نحو شهر على توقيع الوثيقة عرف السودانيون أن هناك وثيقتان دستوريتان احداها من “70” مادة والثانية من “78” مادة قبل أن يخرج في وقت لاحق القانوني ساطع الحاج احد صناع الوثيقة ليحدث الناس “العسكر ألتهموا الوثيقة الدستورية”.
يبدو أن الألتهام كان مجرد مقدمة للانقلاب عليها كاملة في زمن أخر، وهو ما حدث بالفعل في أكتوبر 2021 بحجج تعديل مسار الثورة.
دشنت الوثيقة الدستورية التي جاءت كامتداد للاعلان السياسي حقبة جديدة في تاريخ سودان ما بعد حقبة عمر البشير، وكان ينظر لها باعتبارها اللبنة الأولى في بناء سودان جديد على هدى شعارات ديسمبر الثورة للحرية السلام والعدالة.
تم تشكيل حكومة الثورة على هذا الأساس برئاسة عبد الله حمدوك قبل أن ينخر سوس الخلافات في بنية مكونات الثورة حيث أنقسم “تجمع المهنييين” وهو ذات الإنقسام الذي ضرب قوى الحرية والتغيير بين مجلس مركزي وتوافق وطني.
مؤخراً تم إعلان محمد حمدان دقلو رئيساً لحكومة موازية تتخذ من مدينة نيالا غرب السودان مقراً مؤقتاً لها، وفي ظل تمدد حرب “الجيش والدعم السريع” شركاء التوقيع على الاعلان السياسي والانقلاب عليه في الوقت ذاته، بينما أحمد ربيع صار داعماً لخيارات “البرهان” في الحرب ومنضوياً تحت لواء “الكرامة” وهي الصور التي تعيد السؤال ما الذي تبقي من الوثيقة الدستورية ؟
حرب وانقسام
عامين و أزيد من اندلاع الحرب، و يلوح الانقسام في الافق وسط تهديدات بانفراط عقد سودان الثورة بقيام دويلات أخرى.
وهو الامر الذي صرح به رئيس حركة جيش تحرير السودان “اركو مناوي” الذي أرتبط وصوله للخرطوم باتفاقية سلام جوبا 2020، التي لم يكن لها أن تكون لولا الثورة.
هو ورفاقه من حركات دارفور والنيل الأزرق ارتبطوا بأول تعديل على الوثيقة وفقاً لبرتوكولات تقاسم الثورة والسلطة، وهو الشريك الأبرز في الانقلاب عليها في أكتوبر مناوي.
قال مناوي في تصريحات ببورتسودان الاسبوع الماضي:إن دبلوماسياً كبيراً سأله عن رايه في قيام ثلاث حكومات في السودان قبل الحرب.
المفارقة أن الوثيقة التي ماتت واجهزت عليها الحرب ما تزال حاضرة حين يتعلق الأمر بالمزايا التي منحتها للموقعين على أتفاق سلام جوبا وهي “النصوص” التي خاضت من خلالها مكونات سلام جوبا معركتها الأخيرة مع حكومة الأمر الواقع في بورتسودان .
شرعية الثورة
ليظل السؤال قائما: ما الذي تبقي من وثيقة الثورة؟ تأتيك الإجابة أن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان المتمسك بشرعية الثورة المنقلب عليها، وبالوثيقة التي صعدت به، وبالطبع المتمسك بتعديلها بما يضمن له السيطرة على مقاليد الأمور.
أبتعدت السلطة الاف الكيلومترات عن الخرطوم حيث تم تصميمها والتوقيع عليها بسبب الحرب لكن المنقلبون عليها لم ينسوا “الاوراق” حملوها معهم من أجل تعديلها متي أدعت الضرورة بالحذف أو الإضافة.
بعد ست سنوات من الأنقلاب وحرب وانتقال من الخرطوم لبورتسودان وخروج مناطق عن السيطرة وسلطة مفترضة لا نزال نتابع مشاهد تعديل الوثيقة الدستورية كخبر شبه أسبوعي.
ولعل أخر التعديلات تلك تعديل المادة المتعلقة بأصحاب الجنسيات المزدوجة من أجل صعود “كامل إدريس” لمنصب رئيس الوزراء، ليكون رئيس وزراء حكومة “الأمل” وفقاً للوثيقة الدستورية!
مفاصلة وانقلاب
وبناء على التعديلات البرهانية بدأت التعديلات صبيحة انقلاب أكتوبر حين علق “البرهان” وبدعم من نائبه آنذاك “حميدتي” تعليق 7 مواد من الوثيقة الدستورية تتعلق بقوى الحرية والتغيير باعتبارها الشريك في الثورة، ما دعى بمبارك أردول الداعم للانقلاب بتسمية ما حدث يومها ب “المفاصلة” وليست الأنقلاب.
إلا أن المفاصلة لم تنتهي بالمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، حيث فاصل رئيس مجلس السيادة في عام 2023 حميدتي حين أصدر قرار بحل قوات الدعم السريع رغم ان الاخير كان عضواً في مجلس السيادة وهو ذات الامر الذي حدث مع الطاهر حجر والهادي إدريس اعضاء السيادي وفقاً لاتفاقية جوبا وحلفاء حميدتي في الحرب على البرهان بحسب ما يقول رئيس مجلس السيادة ومناصريه الأن
في مرحلة.
وللتأكيد على أن الوثيقة الدستورية صارت من التاريخ قامت لجان المقاومة التي أنجزت الثورة وقاومت الأنقلاب باعلان “ميثاق تأسيس سلطة الشعب” استناداً على موقف ” لا تفاوض ولا شرعية ولا شراكة” والذي حوى بند يطالب بإلغاء الوثيقة الدستورية وخلق وضع دستوري جديد عن طريق أعلان دستوري مؤقت يستند إلى ميثاق سلطة الشعب .
الاتكاء على البندقية
بعد ست سنوات من ذلك الصباح ومن رفع الوثيقة المقلوبة أمام الكاميرات يمكنك أن توجه عدسة الكاميرا نحو الخرطوم حيث لا حياة لا قصر ولا قاعة صداقة ولا ساحات للاحتفال موت يتربص بالكل و جوعي يبحثون عن “تكايا” من سقطوا بالهتافات ووجهوا بالاستثناءات ما عدا المؤتمر الوطني يعودون لخنق الناس من جديد يتحولون ل “سند” وهم المتكيئن على البندقية في زمن مجدها لاستعادة مافقدوه. أما في نيالا يرفع حميدتي البنادق على أسنة الوثائق يبحث عن شرعية أخرى بالسلاح بعد إشعاله وشريكه في الانقلاب الحرب حولتهم “لعمد بلا أطيان”.
بينما قيادات القوى المدنية مطاردة ببلاغات الجرائم الموجهة ضد الدولة، وممنوعون من الحصول على الوثائق التي تثبت سودانيتهم يحاولون “الصمود” لصناعة أنتقال بلادهم من الحرب للسلام ومؤكدين على أنه لا شرعية لمن يصنعون الموت شرقاً وغربا، و أنه لابد من ديسمبر الثورة وان طال السفر.
و جيل ديسمبر الذي صنع الثورة، وقاوم الأنقلاب من الشباب أنخرط بعضه مع طرفي الحرب وظلت أغلبيته واقفة عند نقطة يقينها بالوصول لفجر الخلاص، مات بعضهم برصاص الاتهامات والتخوين تم تصفية أخرين بدم بارد.
كما أنهم هائمون في المنافي وفي مدن لا يعرفونها ولا تعرفهم يقتلهم الحنين للخرطوم للرفاق للجدران وللجداريات ولعبارة كتبها أحدهم في جدران حائط بالمؤسسة بحري “قدرنا اننا الجيل الذي سيضع نهاية الأنقلابات العسكرية ومضاعفاتها في السودان” ويكمل الجيل الذي لم ينتصر حتى الأن لكنه حتماً لن يهزم .