السلام بين ضجيج البنادق وصرير الأقلام
د. عصام عباس
تُثبت التجارب التاريخية في السودان أن البندقية لم تنتج سوى الخراب والدمار، وأن ما تحققه من استقرار زائف سرعان ما ينهار لتعود البلاد إلى نقطة البداية. فمنذ تمرد 1955 وحتى حرب دارفور وما تلاها، ظل السودان يدور في حلقة مفرغة من الدماء والخراب، ثم ينتهي الأمر إلى التفاوض الذي كان من الممكن أن يكون خيار البداية. حروب السودان المتتالية أوضحت بجلاء أن جوهر المشكلة ليس في المقاتلين وما يرتكبونه من جرائم، فهذه مقدور عليها وتطالها العدالة متى ما استقرت الأمور، ولكن يكمن التحدي في نظام الدولة الذي ظل يعيد إنتاج الحرب ويفشل في إدارة التنوع.
إن أخطر ما يهدد الوصول إلى السلام ليس فقط استمرار المعارك، بل العقلية البوليانية (BOOLEAN) المتحجرة التي ترى طرفًا خيرًا مطلقًا وآخر شرًا مطلقًا. بينما الحقيقة أن الخير والشر يتحددان بمدى عدالة النظام وإدارته، لا بخصال الأفراد أو المجموعات.
الدعم السريع: نموذج لفشل نظام التشغيل
خرجت قوات الدعم السريع من رحم الجنجويد، واستخدمها نظام الإنقاذ أداة للبطش والتخويف، ثم ألبسها ثوب الشرعية بالقانون والمال والإعلام. قطعًا لا يمكن القول إن جميع أفرادها بطبيعتهم مجرمون، فالكثير منهم ينحدرون من مجتمعات عُرفت تاريخيًا بالانضباط العسكري والصلابة في ساحات القتال، وظلوا عماد الجيش السوداني المعروف بانضباطه وكانوا عضد الثورة المهدية ويدها التي اقتلعت بها الاستعمار التركي في السودان.
لكن حين تدار أية قوة عسكرية بعقلية النهب والإفلات من المساءلة، فإنها تتحول إلى أداة قمعية مهما كانت خلفيات أفرادها. هنا تكمن المعضلة: المشكلة ليست في الجينات الاجتماعية للمقاتلين، بل في نظام تشغيل فاسد صنع منهم آلة عنف ظلت حبيسة إقليم دارفور النائي، وحينما اندلعت حرب أبريل 2023 تمددت جغرافية العنف والانتهاكات إلى مناطق ما كانت ترى أو تحس بأفعال هؤلاء المنفلتين فتكشفت سوءاتهم وظهر الشر الحقيقي الذي كان يتعمد إعلام النظام الإسلاموي إخفاؤه.
التجربة وتكرار الفشل
هنالك عبارة منسوبة للعالم الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين تقول “الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتتوقع نتائج مختلفة”. إن الرهان على الحسم العسكري وهمٌ تكرر عبر التاريخ وفشل دومًا. فالحرب اليوم ليست فقط مواجهة بسيطة بين الجيش وقوة متمردة، بل تحولت إلى صراع معقّد بأبعاد سياسية واجتماعية، تغذيه التدخلات الإقليمية وحروب الوكالة. ومع تمدد ظاهرة التمليش واعتماد الجيش نفسه على قوى مساندة غير منضبطة، يزداد خطر انفلات السلاح من يد الدولة وتحول السودان إلى غابة من العصابات المسلحة. هذه الحقائق تجعل من الحسم العسكري وصفة لإبادة متبادلة لا نهاية لها.
التفاوض ضرورة وطنية وأخلاقية
أمام هذا الواقع، يصبح التفاوض ليس خيارًا سياسيًا فقط، بل ضرورة وطنية وأخلاقية لا مفر منها. وهو قطعًا لا يعني مكافأة على الجرائم، بل إطارًا لإنهاء الحرب وفتح الباب أمام بناء نظام عدالة وضمانات تحول دون تكرار المأساة، وإعادة بناء نسيج المجتمع السوداني، تاريخنا السياسي مليء بمحاولات بناء السلام إلا أنها اقتصرت على رغبات النخب وانتهت باتفاقيات لتقاسم السلطة بعيدًا عن قضايا الضحايا ومطلوباتهم. التفاوض الجاد الذي ننشده لا يقوم على طمس الجرائم أو إغفال الضحايا، بل على مواجهة الحقيقة كاملة. العدالة الانتقالية بشقيها الجزائي والترميمي توفر قاعدة صلبة لإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع. فهي تعني:
- المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب: عبر تحقيقات مستقلة ومحاكمات عادلة تحدد المسؤوليات الفردية والمؤسسية.
- جبر الضرر والاعتراف بالضحايا: بوضع الضحايا في قلب العملية ومنحهم التعويضات والاعتراف العلني بمعاناتهم.
- حق الضحايا في تقرير المصير العدلي: سواء بالمطالبة بالقصاص أو قبول العفو، وفق خياراتهم لا قرارات النخب.
بهذا فقط يمكن للمجتمع أن يشفى من جراحه ويغلق الباب أمام إعادة إنتاج العنف. فالحرب مزقت لحمة المجتمع، والسلام المنشود يجب أن يرمم الثقة المهدورة بين المكونات السودانية. المصالحة الوطنية الحقيقية لا تعني إنكار الماضي، بل الاعتراف به وتجاوزه عبر آليات العدالة والإنصاف. حينها فقط يمكن للسودانيين أن يستعيدوا شعورهم بالأمان ويعيدوا بناء علاقاتهم على أساس الثقة المتبادلة.
فلنضيء الشموع عوضًا عن لعن الظلام
الخروج من الحرب وصناعة السلام يقتضي الإقرار ابتداء بفشل الماضي وتحويل الدروس المستفادة منه إلى طاقة دفع لبناء المستقبل. في مقدمة الدروس المستفادة ضرورة تجاوز المحاصصات التنظيمية والموازنات السياسية وحتمية العدالة الشاملة التي تسد باب الإفلات من المساءلة. دعونا ننطلق بقوة في تنفيذ مشروع يعالج جذور الصراع: التهميش، غياب العدالة، التنمية غير المتوازنة، وانهيار المؤسسات. هذا المشروع هو الطريق الوحيد نحو استقرار دائم.
إن السودان لن ينهض بانتصار طرف على آخر، بل بالاعتراف أن الوطن يسع الجميع. فلنخرج من ضيق البنادق إلى رحابة العقول، ومن روح الانتقام إلى سماحة العدالة، ولنجعل من شموع السلام نورًا يبدد الظلام.