البرهان والإسلاميون: تفكيكٌ أم تحالف خفي يعيد إنتاج الأزمة؟
حاتم أيوب
لم تعد قرارات الفريق عبد الفتاح البرهان الأخيرة داخل الجيش مجرد تعديلات إدارية، بل بدت وكأنها جزء من معركة سياسية كبرى تعكس طبيعة المأزق السوداني الراهن. فالإحالات الواسعة للمعاش لم تُقرأ كإجراءات روتينية، بل كخطوة تعيد صياغة العلاقة التاريخية المعقدة بين المؤسسة العسكرية والحركة الإسلامية التي تمددت في أوصالها لعقود.
جزء من المراقبين يرى أن البرهان يسعى لتقليص نفوذ الإسلاميين وإعادة هندسة الجيش بما يجعله أكثر مهنية وتماسكاً، خصوصاً بعد التجربة الكارثية مع قوات الدعم السريع. وفق هذا التصور، فإن إحالة ضباط بارزين إلى التقاعد تحمل رسالة بأن الجيش لم يعد أسيراً لتيار بعينه، وأن الأولوية الآن هي بناء مؤسسة قومية قادرة على حماية الدولة من الانقسام.
لكن قراءة أخرى لا تقل وجاهة تضع القرارات في خانة التفاهم غير المعلن مع جناح علي كرتي، الذي يمثل الامتداد الأقوى للإسلاميين بعد سقوط البشير. فالحرب الممتدة تفرض على القيادة العسكرية البحث عن حاضنة سياسية واجتماعية قادرة على التعبئة وتوفير الدعم اللوجستي، وهو ما يجيده الإسلاميون أكثر من غيرهم. مقابل ذلك، يحصلون على فرصة العودة التدريجية إلى المشهد السياسي تحت غطاء عسكري، وربما المشاركة في أي تسوية انتقالية قادمة.
المفارقة أن التفسيرين قد يلتقيان معاً؛ فالمشهد السوداني يقوم على توازنات هشة تدفع البرهان للسير في منطقة رمادية بين طموح بناء جيش قومي وبين حاجة عملية إلى قاعدة الإسلاميين. غير أن هذا التوازن لا ينفصل عن الضغط الدولي المتصاعد. فالمجتمع الدولي – من مجلس الأمن إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي – يتعامل مع الحرب في السودان كأكبر كارثة إنسانية في العالم اليوم، وهو ما يضع البرهان تحت مجهر المحاسبة.
إذا مضى البرهان في خيار التحالف مع الإسلاميين، فمن المرجح أن يواجه:
تصعيد العقوبات: خاصة من واشنطن التي تضع الحركة الإسلامية في خانة القوى المعرقلة، وقد تشمل العقوبات توسيع القوائم لتطال قادة عسكريين وسياسيين.
عزلة دبلوماسية أوسع: حيث قد يتم تهميش أي حكومة يشكلها البرهان أو يُرعى تحت سلطته في المحافل الدولية، مما يضع السودان في خانة الدول المنبوذة.
تضييق اقتصادي وإنساني: مع تراجع المساعدات الإنسانية والتنموية وربطها بمدى التزام الجيش بخط التسوية السياسية.
أما إذا حاول البرهان فعلاً تحجيم الإسلاميين والانفتاح على مسار سياسي مدعوم دولياً، فقد يفتح ذلك الباب أمام:
إعادة دمج السودان تدريجياً في المجتمع الدولي عبر دعم مشروط بوقف الحرب والدخول في عملية انتقالية مدنية.
توسيع فرص الوساطة الإقليمية والدولية، خصوصاً عبر الآلية الثلاثية أو الاتحاد الإفريقي، مما يمنح السودان هامشاً لإنهاء العزلة.
تدفق دعم إنساني واستثماري يربط نجاح أي اتفاق بجدية بناء مؤسسات مدنية ومهنية بعيداً عن التمكين الأيديولوجي.
الخيارات إذن متناقضة: التحالف مع الإسلاميين قد يمنح البرهان حاضنة داخلية في المدى القصير لكنه سيُفقده الغطاء الدولي، بينما الابتعاد عنهم قد يفتح الطريق أمام دعم خارجي لكنه يتركه مكشوفاً داخلياً في معركة عسكرية مفتوحة.
وهنا يتحدد مصير العملية السياسية: فإما أن يغامر البرهان بإعادة إنتاج الأزمة القديمة في نسخة أكثر عزلة وضغطاً، أو ينحاز لمشروع وطني مدعوم دولياً يوقف الحرب ويفتح أفق الانتقال الديمقراطي، ولو على حساب تفكيك التحالف التاريخي بين الجيش والإسلاميين. والسؤال الحاسم: هل يملك البرهان القدرة على اتخاذ هذا القرار في وقت ما زالت فيه بنادق الحرب هي التي تحدد ملامح السياسة.