لماذا كتبت حكاية : (أين اختبأت زينب؟)
ما هي الأشياء التي "تختبئ عن حواسنا وذكائنا المحدود"؟!
(1)
عبد الغني كرم الله
اختباء أول:
اختباء الرحم، اختباء القبر، مواطن اختباء فطرية، لذا أنشد:
(خلوة “القبر”، أجمل الخلوات)،
ففيها استغناء حتى عن التنفس.
اختباء ثان:
يا منية المتمني، أدنيتني بك، عني، حتى ظننت أنك أني.
اختباء في الذات المطلقة (كان الله ولا شيء معه، وهو على ما كان عليه).
اختباء ثالث:
إن تكن بالله قائم، لم تكن، بل أنت هو،
أنت ظل الغيب من أسمائه، والشمس هو.
اختباء فعلك وظهور فعله (في فعلك).
(والله خلقكم وما تعملون)
-أ-
الاختباء، يكاد أن يكون ظاهرة اجتماعية، منذ أن خاف الحيوان، فاختبأ في كهف، أو غير لونه مثل لون الطبيعة حوله، (الحرباء وشبيهاتها)، وتطورت غدد الاختباء، علبة ألوان فان خوج بداخل حيوان يشبه الضب، أفانين عجيبة، خوف الافتراس، انتحال لون الطبيعة، شجرة كانت أو رملًا، اختباء ذكي، غريزي.
من هنا بدأت رحلة الاختباء، وغرست بذرتها في سويداء قلوب الكائنات الحية، وأصبحت الغدد، التي تنفث الأدرينالين، والتلوين، صيدلية في أعماق الكائنات الحية (حتى الأشجار تخاف، فسنت سيف “الشوك”)، أو أن تغير مذاق ثمرها (مرًا، أو حلوًا)، كلاهما من أجلها، وخلودها.
أما عالم الإنسان والاختباء، فقد شق ذاته إلى عالمي “اللاشعور والشعور”.
من تلكم الحقبة وذلك العهد، بدأت إشكالية “الفرد، والمجتمع”، التي أنهكت الفكر البشري.
ثم تطور مفهوم الاختباء، حين خاف الإنسان، بين سيرة معلنة، وسريرة “مختبئة”، أو حتى بين الواقع كما هو، ووعينا به، (الواقع يختبئ عن حواسنا المحدودة)، بل ظل الاختباء أعظم وأجل من تصويره، “كأن هناك عالم يختبئ عنا”، ورسل الحواس، لا تزال قاصرة عن فهمه “اللهم أرني الأشياء كما هي”، وليس كما يتراءى لنا، أي العالم يختبئ، وهمم الاكتشافات المادية والنفسية، كل يوم تكتشف جزءًا منه، وتقتفي آثار خطاه في العقل الباطن، وهيهات، رحلة بلا ختام، “حيث المنتهى، شد الرحال” وهنا تكمن عظمة الحياة، وصناعة الأسئلة اللا نهائية، وحراك الأجوبة، واختباء حقيقة الوجود الأبدية، لعبة اختباء بين العقول والوجود، والموجد “لو عرفته، لم يكن هو، ولو جهلك، لم تكن أنت”، من عرف نفسه، فقد عرف ربه وهيهات، إذًا رحلة مطلقة، هي المعرفة وإدراك المخبوء السرمدي.
جرى الدهر بالحياة، وهي تلعب لعبة الاختباء، يختبئ الغد في المستقبل، ويختبئ الأمس في الماضي، (ثم وهبتنا أعظم الملكات “ملكة التذكر، والتخيل)، ويظل الحاضر هو لحظة اكتشاف واختباء معًا، لحظة تدخل الحاضر، وأخرى تختبئ في الماضي، لعبة اختباء هو الدهر، ونظل نبحث عن أين يختبئ المستقبل؟ وكل يوم نكتشف طرفًا من ملامحه (وليتنا نحسن الظن به، أيحمل الغد في يديه وردة؟ أم سكين”، ليتنا ننتظر اليد الممسكة بالوردة (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن خيرًا”، الظنون هي التي تأتي من الغد، فلم لا نبتهج بها ونستقبلها بأعداد المكان لها؟
كل هذه الأحاسيس مرت بي وأنا أكتب للأطفال “الصبيان، والفتيات”، حكاية (أين اختبأت زينب)، وكنت أتفرج عليهم، بل اختبأت بهم، فيهم (النائحة الثكلى ليست كالمستأجرة).
أتذكر الاختباء اليومي، الجماعي، أنها “عتبة الباب”، حين ندلف من الشارع، نحس باختباء جميل، وحرية أوسع، وبراح جميل “لبس بسيط، ووسيع، شعر حر، يتخلله النسيم، وأكثر “إذن الحياة شكل من أشكال الاختباء”.
ثم الإحساس بالجسد، أثناء الاختباء، (أنت وأنت)، من حمولات الجسد، من الأحاسيس والمعاني والرغبات، التي تختبئ خوف الضمير، أو الرأي العام، أو المعتقد، توجس، ترقب، كتم صوت، تحس بعده بعظمة الجسد كأكبر منجم للانفعالات، لا حد لها، من انفعال الحيرة والدهشة، وحتى الرضى العظيم “عند الرسل، والنساك وكبار الشعراء”، صرت أخاف برد الرضا، كما تخاف نار التدبير.
إذن الجسد وكر اختباء عظيم، بالسر إن باحوا، تباح نفوسهم.
لكن أين اختبأت زينب؟
كنت مدعوًا عند صديق في امتداد ناصر، ذهب لإحضار الفطور، بغتة جرى طفل بمكر، جريته لها نكهة التوجس، خطى أسد يريد افتراس غزالة، تكاد قدماه أبطأ من سلحفاة، محو صوت الخطى بالبطء، اختفى الطفل خلف باب البرندة، شد جسمه إلى الحائظ، كتم أنفاسه، توجس عجيب، قلب عينيه، ابتسم لنفسه، مد لسانه وقلب وجه بصورة مرحة “حرية مؤقتة؟ (هل رصدنا وأحصينا وجوه البنات والمرآة في وحدتهن؟).
يختبئ عن أقرانه، جسمه مشدود، ضربات قلبه، أنفاسه مكتومة، ظهره مستقيم، عيناه تتقلبان، لا أفكار بقلبه سوى التوجس، حمى خوف سرت في كل خلاياه، خوف نبيل، لا أكثر، الخوف يشعرك بكل خلية في مملكة الجسد، (تأمل رهبة متسلقي الجبال، التى تغشى كل الجسد) وشعور الأمان في القمة، بضدها تتميز الأشياء.
هذا المشهد أثارني جدًا، لمَ يحب الأطفال لعبة الاختباء؟ ولمَ يحب الكبار أيضا لعبة الاختفاء، فكتبت:
أين اختبأت زينب؟
أين؟