سهول كردفان.. قصة مزدوجة للرصاص والقمح!

حسام حامد

في جغرافيا السودان الممتدة، حيث الأرض الخصبة تلتقي مع نيران الحروب، باتت كردفان في وضعٍ خطير، ففي الوقت الذي يشتعل فيه الرصاص في المدن والقرى، تُدار معارك أخرى بصمت في الحقول، حيث المزارع يحمل منجله وطوريته كأنها أسلحة دفاع عن البقاء، لا عن الأرض – فقط، بل عن لقمة العيش ذاتها.

من “بارا” التي أعلن الجيش بسط سيطرته عليها، إلى “النهود” المهددة بتجدد المعارك بتوغل القوات المسلحة، وصولاً إلى الطرق المؤدية لتحرير الفاشر، يتبدى المشهد العسكري مكثفاً، لكن خلف هذا الضجيج، هناك قصة أخرى لا تقل قسوة.. قصة الزرع والحصاد في زمن الحرب.

الأسواق الخاوية و”البحَّارة” الهاربون

في مُدن مثل “النهود”، يتردد صدى الأسواق الفارغة كأحد أبرز ملامح الحرب، فقد غابت الشركات، وتوقفت البورصة الزراعية الشهيرة بـ”النهود” التي كانت يوماً مركزاً لبيع وتسعير الفول السوداني والمحاصيل الأخرى، وهرب التجار المعروفون في كردفان باسم “البحَّارة” من “أولاد ولاية الجزيرة ومناطق النهر شمال السودان” بعد أن شلت المعارك حركة النقل والتجارة.

هذا الانكماش الاقتصادي انعكس مباشرةً على المزارعين، إذ لم يعودوا يجدون منافذ لتسويق محاصيلهم، ولا ضمانات لبيع إنتاجهم، في وقتٍ تتزايد فيه تكاليف الحياة اليومية بفعل الحرب والحصار.

الذرة.. بديل القمح في موائد كردفان

وفي السياق، ومع غياب الأسواق وتوقف تصدير الفول السوداني “الذي كان لسنوات المحصول الاستراتيجي للإقليم”؛ لجأ المزارعون إلى بدائل أكثر أماناً من الناحية المعيشية، فالمساحات الشاسعة التي كانت تحتضن الفول والبطيخ تحولت هذا العام إلى حقول للذرة بأنواعها المختلفة: الدخن، الماريق، وسائر الأصناف المحليَّة.

المعروف أنّ الذرة في كردفان ليست مجرد محصول، بل هي عمود المائدة الغذائية، تُضاهي القمح في مكانتها العالمية، إذ يعتمد عليها السكان في صنع الخبز والعصيدة والمأكولات الشعبية وعصير الدخن وما يُعرف محليا بـ”أم جنقر”، وهي المحصول الذي يضمن البقاء حتى في غياب الأسواق أو عند انهيار التجارة.

إزاء ذلك، يقول التاجر والمزارع “عبد الرحمن حمد”: “في سنوات ما قبل الحرب، كان الفول السوداني يُزرع بكثافة لأنه يدر دخلاً نقدياً عبر التصدير وصناعة الزيوت، أما اليوم فقد أجبرتنا الظروف الأمنية والاقتصادية على العودة إلى الذرة، فهي محصول البقاء قبل أن تكون سلعة تجارية”.

سوق “النهود”.. ساعات قليلة للحياة

مدينة النهود، التي كانت تضج بالحياة حتى منتصف الليل، باتت أسواقها تعمل لساعات محدودة، من السابعة صباحاً وحتى الواحدة ظهراً، بعد اجتياحها من قبل قوات الدعم السريع منذ خمسة أشهر، ويصف المزارعون هذه التغيرات بأنها “قتل لحركة الاقتصاد”، حيث توقفت بورصة المحاصيل تماماً، وفُقدت الثقة في حركة النقل بين المدن.

ويقول “زاهر علي”، أحد المزارعين: “كانت هناك كميات كبيرة من المحاصيل جاهزة للتصدير، لكن مصيرها أصبح مجهولاً مع انعدام الأمن، وهروب معظم السكان من المدينة، المزارع اليوم لا يعرف كيف يسوق إنتاجه، لذلك فضّل معظمنا الاكتفاء بزراعة ما يسد الحاجة اليومية من الغذاء – فقط.”

الخوف من اللصوص والرصاص

في السياق، ليس الرصاص وحده ما يقلق المزارعين في كردفان، بل هناك قطاع الطرق والسرقات التي تتزايد مع حالة العوز التي خلفتها الحرب، فالمزارع، الذي يقضي شهوراً في متابعة حقله، يخشى أن تُسرق ثمرة جهده تحت تهديد السلاح أو بالنهب المباشر.

“عبد الرحمن”، الذي عاد للزراعة بعد توقف نشاطه التجاري، يعبّر عن هذه المخاوف قائلاً: “الحصاد هذا العام محفوف بالمخاطر، فهناك عصابات تستغل غياب الأمن، والحرب تدفع ضعاف النفوس إلى سرقة محصول غيرهم، لذلك نترك الأمر لحماية الله وحده”.

هروب جماعي من القرى والمدن

إلى ذلك، ومع تجدد الاشتباكات، شهدت الطرق مثل طريق “المزروب” حركة نزوح متزايدة؛ كثيرون تركوا أراضيهم وحقولهم مفضلين النجاة بأنفسهم، فالحرب لا تميز بين مدني ومقاتل، والزراعة تصبح بلا معنى في بيئة يهددها القصف والرصاص في أيّ لحظة.

يقول أحد النازحين: “لا نستطيع المخاطرة بالبقاء وسط المعارك، الطرق أصبحت أكثر سهولة بسبب قلة الأمطار، لكن الوجهة دائماً غير واضحة.. المهم هو الهروب قبل تجدد الاشتباكات”.

الأمن والجوع والعطش.. مثلث التهديد

من جهة أخرى، لم تقف أزمة كردفان عند حدود الحرب – فقط، بل تداخلت معها أزمة مناخية بغياب الأمطار الكافية هذا العام، ما أدى إلى نقص في المياه الصالحة للشرب، ومع تزايد أعداد النازحين من المدن إلى القرى، أصبحت الموارد الطبيعية محدودة، واشتدت المنافسة على الغذاء والماء معاً، وبين تهديد السلاح، وصعوبة تسويق المحاصيل، ونقص مياه الشرب، يعيش سكان الإقليم تحت رحمة مثلث قاتل: الأمن، الجوع، والعطش.

الدواء المفقود وبيان الأمل

وفي السياق، وبينما يعاني الجميع من انعدام الدواء والعناية الطبية، ولجوء المزارعين وأسرهم إلى الأعشاب والطب البديل كحلول إسعافية مؤقتة، يبقى بيان الرباعية الداعي إلى عدم التصعيد ووقف الحرب وتحديد أصل الأزمة، بصيص أمل جديد يتعلّق به المواطن السوداني، فالتطلّع إلى وقف إطلاق النار لم يعُد رفاهية سياسية، بل صار مطلباً إنسانياً عاجلاً لإنقاذ ما تبقى من حياة في الإقليم وجميع الناس داخل البلاد.

مزارع يقاتل بصبره

إلى ذلك، وعلى الرغم من كل هذه التحديات، يظل المزارع الكردفاني صامداً، فهو يقاتل بطريقته، ليس بالبندقية، بل بالصبر على الأرض، وزرع الذرة والدخن والماريق، والتأقلم مع الظروف المستجدة، قد تكون الأسواق متوقفة، وقد يغيب التاجر، لكن الحقل حاضر، والأرض لم تخذل أهلها بعد.

إنها معركة وجود حقيقية، حيث يتحول المنجل إلى سلاح بقاء، والطورية إلى رمز مقاومة صامتة في وجه الجوع والخراب، وفي ظل أجواء الحرب الممتدة، تظل قصة المزارع في كردفان شاهداً على أن الحياة تبحث عن منفذ حتى وسط الدمار.

معارك عسكرية ومعارك معيشية

ويخلص الأمر إلى أنّ سهول كردفان باتت اليوم ليست -فقط- أرض معارك عسكرية، بل هي أرض معارك معيشية، في حقولها، تتجسد المأساة بأوضح صورها.. مزارع يزرع خوفاً من الجوع، ويحصُد تحت تهديد السلاح، ويبيع في أسواق خالية لا تفتح إلاَّ ساعات محدودة، وبينما تُخطط الجيوش للسيطرة على المدن الكبرى، يخطط الفلاحون للبقاء على قيد الحياة يوماً إضافياً.

إنها قصة مزدوجة للرصاص والقمح، للدم والخبز، وللإنسان الذي يرفض أن يستسلم رغم كل شيء، وما بين المعركة العسكرية والمعركة الزراعية، تبقى كردفان مثالاً صارخاً على أن الحروب لا تلتهم الأرواح – فقط، بل تلتهم معها قوت الناس وكرامتهم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى