*بيان الرباعية .. لمن السيادة اليوم فى السودان؟!*
علاء الدين بشير
إجتهد وزراء خارجية الرباعية الدولية فى بيانهم الصادر قبل أيام للملمة شعث تناقضات مصالح دولهم إزاء مقاربات حل الأزمة فى السودان وإستعادة السلام والأمن فيه .
فالتناقضات والخلافات بين دول الرباعية وخاصة مصر والإمارات حول تحليلهم ومواقفهم من طرفى الصراع وإنعكاس ذلك من ثم على رؤيتهم للحل كانت إلى جانب سوء التحضير أحد الأسباب الرئيسية التى أدت إلى إفشال مؤتمر واشنطن حول السودان الذى كان مزمعاً عقده فى يوليو الماضى وتأجيله إلى الشهر الجارى . وهو ذات الأمر الذى أدى قبله إلى إفشال مؤتمر لندن حول الأزمة فى السودان الذى دعى له وزير الخارجية البريطاني -وقتها- ديفيد لامى فى مايو الماضى .
وضع بيان الرباعية الأخير فى مقاربتها لحل الأزمة خطوطاً عريضة حرص خلالها على بناء قاعدة للتراضى بين الشركاء الدوليين والإقليميين إلى جانب طرفى الحرب الرئيسيين (الجيش والدعم السريع) كأساس يمكن الإنطلاق منه لوقف الحرب وحلحلة الملفات ذات الصلة بها . وقد نجح البيان فى حصد ما رمي إليه مع طرف اقليمي مهم أذ حُظي بتأييد من الإتحاد الأفريقي وهيئة الايقاد اللذان أعربا عن تطابق النقاط الرئيسية فى بيان الرباعية مع خارطة الطريق لحل الأزمة السودانية الصادرة عنهما .
لكن هذا التراضي والإنسجام قد لا يستمر حتى إنعقاد الاجتماع القادم . فالبيان فى مسعاه للتوفيق بين المصالح وضع نصوصاً تعبر عن مواقف ومصالح البلدان الأربعة بصياغة حمالة أوجه الأمر الذى سيفتح جدلا فى الفهم والتفسير لدى أعضاء الرباعية أولاً ثم لدى أطراف الحرب وأصحاب المصلحة السودانيين وقد يؤدى إلى تأجيج الخلاف والصراع كما ذهبت بعض التحليلات ..
فالبيان وفى فقرته الأولى حينما أكد على أن سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه ضرورية للسلام والإستقرار ، ترك الباب مواربا للتأويلات عن السلطة التى تمارس هذه السيادة على أرض الواقع حالياً فى ظل التجاذب الحالى على الشرعية بعد قيام سلطة تأسيس فى نيالا لا سيما إذا ما قارنا ذلك مع مخاطبة البيان للجيش والدعم السريع بإعتبارهما طرفي الحرب بما يعنى وضعهما على قدم المساواة كما أن البيان لم يأت على ذكر الطرفين بالإسم إلا مرة واحدة فقط فى الفقرة الخاصة بالتفاوض من أجل حل الصراع العسكرى .
وقد كشفت الخارجية المصرية بوضوح من خلال بيانها الصادر عشية اليوم التالى لبيان الرباعية عن فهمها الخاص والذى ينسجم مع مواقفها الداعمة للجيش وسلطة الأمر الواقع فى بورتسودان حينما قالت (وقد جاء حرص مصر على الانضمام لتلك المبادرة من منطلق موقفها الراسخ الداعم لوحدة وسيادة السودان الشقيق ، والداعم لصون مؤسساته الوطنية) .
ويتقاطع الموقف المصرى مع موقف ابوظبي التى أعلنت أنها لا تعترف بسلطة بورتسودان وتعتبر الجيش مطية لتنظيم الإخوان المسلمين الذى تناصبه العداء فى الوقت الذى تدعم فيه وبقوة قوات الدعم السريع وذراعها السياسي والتنفيذى سلطة تأسيس . وكانت المملكة العربية السعودية التى يؤرقها امتداد الصراع لتهديد الأمن الإستقرار على البحر الاحمر تقف نفس الموقف المصرى وتجلى تطابق رؤيتها مع القاهرة بوضوح خلال مؤتمر لندن فى مايو الماضى وعند صياغة بيانه الختامي ، لكن يبدو ومن خلال بيان الرباعية الأخير أن موقف الرياض تزحزح ليقترب من موقف أبوظبي حليفتها الخليجية الأهم .
من جانبها فإن واشنطن كانت ومنذ إدارة بايدن ترسل رسائل تؤكد فيها أنها مع مؤسسات الدولة رغم عدم إعترافها بشرعية سلطة الجيش بقيادة البرهان بإعتبارها سلطة إنقلابية سطت على الحكم بليل على أنقاض حكومة مدنية إنتقالية جاءت بتفويض من ثورة شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية ومدنية الدولة . كما وأنها ومن منطلقات حقوقية لم تؤيد مطلقا الدعم السريع وظلت تصريحات مسؤوليها وتقارير مؤسساتها الرسمية والبحثية فى حالة إنتقاد دائم له باعتباره وريث مليشيات الجنجويد سيئة السمعة خلال الحرب فى دارفور بل ووصمته بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية خلال الحرب الحالية وتسعى لحمل المجتمع الدولي لتبنى سرديتها هذه . كما وسعت حثيثاً فى عهد مبعوثها السابق توم بريللو إلى إقناع الجيش للمشاركة فى مفاوضات جنيف العام الماضي لدرجة مخاطبة قائد الجيش بصفة رئيس مجلس السيادة فى مكاتباتها الرسمية ثم الحضور للقائه فى بورتسودان ومع ذلك إمتنع الجيش عن الجلوس للتفاوض فى جنيف .
إدارة ترامب الحالية لم يبد منها ما يشير إلى تغيير فى نظرتها للصراع ولكن وكما يرى يعتقد كثير من المراقبين أن الأمر رهين بنهجها فى حل النزاعات القائم على إبرام الصفقات على غرار ما جرى بين الحكومة الكنغولية وحركة M 23 المتمردة عليها . وقد إبتدرت واشنطن إتصالاتها مع سلطة بورتسودان مباشرة عبر اللقاء السرى الذى جمع صهر ترامب وكبير مستشاريه لشؤون إفريقيا ، مسعد بولس بقائد الجيش البرهان فى مدينة زيورخ السويسرية فى أغسطس الماضي . ورغم التكتم الشديد من كلا الطرفين على مخرجات ذلك الإجتماع لكن مستشار رئيس الوزراء للشؤون السياسية ،محمد محمد خير ذكر فى لقاء مع موقع (المحقق) أن لقاء زيوريخ كان ذا طبيعة مختلفة ولم يتناول ملف الحرب فى السودان ، وإذا صح هذا الكلام فما الذى يمكن أن يكون بحثه البرهان مع بولس سرا فى زيورخ وبأى قبعة تم اللقاء .. قبعة قائد الجيش ام رئيس مجلس السيادة ؟ … ام ….؟!.
وعلى ذات الطريقة كان بولس قد جمع فى لقاء سرى بالعاصمة الإيطالية روما خلال الأسبوع الأول من سبتمبر الجارى كلا من صدام حفتر نجل المشير خليفة حفتر ونائبه فى قيادة الجيش مع إبراهيم الدبيبة شقيق رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية فى طرابلس ومستشاره لشؤون الأمن القومي ، عبد الحميد الدبيبة . ويمكن فهم ملامح من خلفيات لقاء البرهان وبولس فى زيورخ من خلال ما كشفته مجلة (جون آفريك) الفرنسية فى تقرير لها عن لقاء روما أن من ضمن النقاط وأهمها التى بحثها بولس خلال اللقاء عدم تدخل المشير حفتر فى حملة حكومة الدبيبة الموصومة بخلفيتها الإسلامية ضد المليشيات وخططه لبسط الإستقرار وسلطة الدولة فى مناطق نفوذ حكومته .
والنقطة الثانية التى ناقشها بولس مع الطرفين بحسب المجلة الفرنسية تتعلق بإدارة المؤسسة الوطنية الليبية للنفط حيث تعد هذه القضية حساسة جدا لواشنطن التى تخطط لعودة الشركات الأمريكية إلى حقول النفط الليبية التى تمثل أكبر احتياطي نفطي فى إفريقيا كما تسعي واشنطن أيضا وراء ذلك لموازنة نفوذ موسكو وبكين الكبير فى المنطقة .
لكن اللافت والمهم جداً فى إدارة ترامب الحالية أنها تنازلت نسبياً عن موقفها المتشدد إزاء الدعم السريع فقد ذكر المستشار مسعد بولس فى لقاء أجرته معه قناة (الشرق) السعودية قبل أشهر قليلة أن واشنطن لا تنظر للدعم السريع كبندقية مأجورة . وهذا إقرار صريح بأن لهم قضية وقد يفتح الباب لواشنطن للتواصل معهم وربما الاعتراف بهم مستقبلا وبسلطتهم .
وكانت مبعوثة الاتحاد الأوربي للقرن الإفريقي ، السفيرة آنيتا ويبر قد طرحت على البرهان خلال لقائها به على هامش المؤتمر الدولي لتمويل التنمية بمدينة إشبيلية فى أسبانيا مطلع يوليو الماضى ، رغبة بروكسل فى توقيع طرفى الحرب الجيش والدعم السريع على وثيقة لمنع الاعتداء على المنشآت المدنية . وقد ذكر لى مصدر مقرب من ذلك اللقاء أنه كان عبارة عن (مناقرة) بين البرهان والمسؤولة الأوربية حيث رفض الجنرال الإلتزام بذلك لانه يعنى ضمنا اعترافا مبكرا بسلطة وسيادة غرمائه فى الدعم السريع على جزء من البلاد وعلى مؤسسات الدولة والمنشآت المدنية الأخرى فيها وهو ما إنتهى إلى حكومة تأسيس التى أعلنت مؤخراً .
ومع أن الاتحاد الأوربي ليس طرفا فى الرباعية ولكنه ليس بعيداً عن مساعي حل الصراع فى السودان كما أن مصالحه الخاصة لم تستبعد فى أجندة الرباعية وبيانها الاخير من خلال ديباجته التى اعتبرت الصراع فى السودان متسببا فى أسوأ أزمة إنسانية فى العالم ويشكل مخاطر جسيمة على السلم والأمن الإقليمي .
ومعلوم أن أكبر المشكلات التى تعانى منها أوربا هى الهجرة غير الشرعية خاصة من إفريقيا والناجمة عن الحروب والمجاعات والأنظمة الإستبدادية فى القارة وأصبحت قضية سياسية داخلية ساخنة جدا تؤثر فى نتائج الإنتخابات فى أوربا وصعدت بأحزاب اليمين إلى السلطة وهى أحزاب تعد حليفاً مهماً لترامب واليمين الأمريكي فى صراعهم ضد الديمقراطيين وقوى اليسار والليبراليين على ضفتى الأطلنطي.
من الناحية الإستراتيجية لا ياتي ذكر للسودان فى تفكير إدارة ترامب إلا فى إطار إتفاقيات إبراهام وذلك بحسب ما ورد فى مشروع 2025 الإنتخابي والذى أصبح لاحقاً برنامجاً للإدارة الجديدة ولم يكمل السودان مشروع تطبيع علاقته مع إسرائيل بناءاً على الإتفاقات لكن الذى بدأ لنا من خلال اللقاءات والزيارات التى تمت عقب التوقيع الأولى بين وفود البلدين أن طبيعتها كانت عسكرية أمنية حسب أولويات الطرفين ومؤخرا كثرت التعليقات من الجانب الإسرائيلي أن سلطة الأمر الواقع فى بورتسودان إتجهت للتحالف مجدداً مع إيران بتأثير من حلفائها الإسلاميين الذين أخذوا يسيطرون على المشهد السياسي والعسكري فى السودان بعد . وتكشف بعض التقارير أن تل أبيب لم تكتف بالتحذير فقط ولكن إمتدت ذراعها الطويلة والغليظة لإزالة التهديدات المباشرة لأمنها داخل السودان وخاصة فى المناطق الواقعة على ساحل البحر الأحمر حسب تقديرات وكالاتها وأجهزتها الإستخبارية إذ تنسب لها بعض الإستنتاجات الهجمات التى طالت مرافق حيوية فى بورتسودان وبعض المناطق فى مايو الماضى وتزداد موثوقية تلك الإستنتاجات بعدما نفى قائد قوات الدعم السريع فى أول خطاب له بعد تلك الضربات قيام قواته بها .
و فى الوقت نفسه حذر جهاز الدولة البيروقراطي الأمريكي ممثلا فى مجتمع الاستخبارات الأمريكي فى تقريره عن مهددات الأمن القومي قبل عامين من أن تفاقم الحرب فى السودان من شأنه جعله مركزا للجماعات الإسلامية المتطرفة وبؤرة للارهاب والجريمة المنظمة .
هذه الإستنتاجات الإستخبارية قد تدفع إلى مناورة سياسية ودبلوماسية تقود فى النهاية إلى حالة اعتراف بسلطة تأسيس فى حال لم تستجب سلطة بورتسودان للإنشغالات والهواجس الأمنية الإقليمية والدولية رغم بيانات مجلس الأمن الدولى ومجلس السلم والأمن الإفريقي التى أعلنت رفضها الإعتراف بأي سلطة موازية فى السودان ولكنها وبحسب ميكانيزمات العمل داخل المؤسسات الدولية والإقليمية ، هى مجرد بيانات صحفية ليس لها قوة الإلزام للدول .
وحسب بيان الخارجية السودانية الذى علق على بيان الرباعية تقول المؤشرات أننا نتجه إلى أزمة بسبب شيطان التفاصيل هذا . فرغم ترحيب الخارجية فى إفتتاحية بيانها بأي جهد دولي او إقليمي يساعد فى إنهاء الحرب ، لكنه مضى بعدها فى لغة عنيفة رفضت من خلالها ما وصفتها بالتدخلات الدولية والإقليمية التي لا تحترم سيادة الدولة السودانية ومؤسساتها الشرعية المسنودة من الشعب السوداني ، وحقها في الدفاع عن شعبها وأرضها ، ورفضت فى الآن نفسه مساواتها بما إعتبرتها مليشيا إرهابية عنصرية تستعين بمرتزقة أجانب . ورهنت إنخراطها مع أي طرف كان في الشأن السوداني يعتمد وبشكل واضح على إحترام سيادتها الوطنية وشرعية مؤسساتها القومية مبدأً وواقعاً.
فى غضون ذلك تمضى سلطة تأسيس فى تعيين مسؤوليها بما فى ذلك وزير خارجيتها ومندوبها الدائم فى الأمم المتحدة و توطيد أركان سلطتها وتعقد لقاءاتها وتجرى إتصالاتها مع الأطراف الدولية والإقليمية لكن اللافت فى هذه اللقاءات حتى الآن أنها تتم خارج السودان وسيكون نقطة تحول لافتة فى المواقف الدولية والإقليمية إن هبط فى مطاراتها المسؤولين الدوليين والاقليميين او افتتحت الدول ممثليات ديبلوماسية لها فيها او إستقبال مسؤولين لها رسمياً او إعتماد تمثيل ديبلوماسي لها فى العالم .
ومع كل ذلك تقول إستنتاجات أن إعلان حكومة موازية هو محض مناورة تفاوضية حتى يدخل الدعم السريع وحلفائه المفاوضات المنتظرة كحركات تمرد وذلك من أجل تعظيم مكاسبهم خلال المفاوضات ..
على اية حال قوة تنفيذ بيان الرباعية ومستقبلها وضبط إيقاعها بيد واشنطن التى رهنت قدرة وفاعلية مؤسساتها المختلفة بمزاج ورغبات رئيسها ترامب .. لننتظر ونرى ما سيقرر دونالد ساكن البيت الابيض.