سرديات التطرف 

السر السيد

بقلم : السر السيد

هذا المقال مأخوذ بتصرف من الفصل الخامس من مخطوطتي الموسومة بـ(الشباب والتطرف في السودان: خلية الدندر نموذجًا).

في هذا الفصل الذي جاء بعنوان: (حوارات السجن)، حاولت أن أشير إلى أشكال التعبير الأخرى التي ينهض عليها “خطاب التطرف” – إذا جازت التسمية – وهو يبني سرديته الخاصة، وذلك بسبب ما تعانيه هذه الأشكال التعبيرية من تجاهل وإهمال عند غالبية دارسي التطرف، كما أرى.

أعني بأشكال التعبير الأخرى كل ما يدخل في دائرة الأدب والفن، كالسرد بأنماطه المختلفة، والشعر، والخطابة، والدراما، ولأنه مبحث متداخل رأيت الاكتفاء بالإشارة إلى بعض النماذج التي يمكن أن تقع في هذه الدائرة، كالرسائل والمذكرات وقصص السابقين باعتبارها نصوصًا سردية.

 في تعريف السرد والسرديات

الدكتور مرسل فالح العجمي في كتابه الواقع والتخييل ص17، يعرّف السرد بأنه (خطاب يعيد تقديم حدث أو أكثر مع ضرورة أن نميز السرد عن الوصف والتعليق، وإن كان يضمهما داخله)… هناك تعريف آخر للسرد في (ويكيبيديا) هو أنه يعني (تشكيل عالم متماسك متخيل تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها وتندغم فيها أهواء وتحيزات وافتراضات تكتسب طبيعة البدهيات، ونزعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بتجلياته وخفاياه.. كما يصوغها بقوة وفعالية خاصتين، فَهْم الحاضر للماضي وإنهاج تأويله، ومن هذا الخليط العجيب، تنسج حكاية هي تاريخ الذات لنفسها وللعالم، تمنح طبيعة الحقيقة التاريخية، وتمارس فعلها في نفوس الجماعة وتوجيه سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين، بوصفها حقيقة ثابتة تاريخيًا، وتدخل في هذه الحكاية، أو السردية مكونات الدين، واللغة، والعرق، والأساطير، والخبرة الشعبية، وكل ما تهتز له جوانب النفس المتخيلة). هذا التعريف للسرد يقودنا إلى مصطلح آخر هو “السرديات الكبرى” الذي يجد صداه في دراسات ما بعد الحداثة وفي دراسات ما بعد الكولونيالية، أما تعريفها أي “السرديات الكبرى” كما في “ويكيبيديا” فهي (ذلك النمط من الخطابات التي تتمركز حول افتراضاتها المسبقة ولا تسمح بالتعددية والاختلاف حتى مع تنوع السياقات الاجتماعية والثقافية، فضلًا عن أنها تنكر إمكان قيام أي نوع من أنواع المعرفة أو الحقيقة خارجها، وتقاوم أي محاولة للتغيير أو النقد أو المراجعة). سقت هذه التعريفات للسرد وللسرديات الكبرى لأصل إلى أن التطرف في خطاباته التي أشرنا إلى أنها تقع في دائرة الإهمال، يؤسس لسردياته الخاصة التى يحدد عبرها موقعه في العالم، وينسج حكايته التي يتحدد عبرها تصوره لذاته وتصوره للآخرين.. بجملة واحدة يبنى هويته المتميزة وتفرده المزعوم، فيصبح في تماثل تام مع أصحاب السرديات الكبرى الذين يحتكرون تحولات التاريخ الكبرى وينسبونها لعبقريتهم وتفردهم، فالتنوير هو تنويرهم وحدهم، والحداثة هي حداثتهم وحدهم..إلخ.. هذا التماثل بين المتطرف وأصحاب السرديات الكبرى، أزعم أنه يعود إلى أن التطرف نفسه أحد تجليات الحداثة في بعدها الشمولي المهيمن.

خطاب بن لادن

صورة من أرشيف رويترز لأسامة بن لادن.

أشير إلى أن “خطاب التطرف” يمتاز بالغزارة والتنوع، فهو يستمد بعضًا من جمالياته من السير الشخصية، والرسائل، والأشعار، والنصوص المسرحية والقصصية، التي ينهل منها الخطاب الإسلامي الحركي، ويجدر بي هنا وقبل التوقف عند خطاب بن لادن، أن أشير في هذا السياق إلى كتيب “لماذا أعدموني” للشهيد سيد قطب، الذي كتبه خلال فترة وجوده في السجن من 1954 إلى تاريخ إعدامه في 19 أغسطس 1966، الذي استخدم فيه ومن ذلك الوقت عبارة “الصهيونية والصليبية الاستعمارية”، وكذلك إلى كتيبه الآخر “أفراح الروح” الذي نشرته مجلة الفكر التونسية في مارس 1959 بعنوان “أضواء من بعيد”، فالأول ينتمي لأدب السجون والثاني لأدب الرسائل، وبعدهما ومعهما، أشير إلى كتاب (أيام من حياتي)، لزينب الغزالي، الذي هو سيرة سجينة سياسية، ومسرحية (عالم وطاغية) ليوسف القرضاوي، التي تصور دور العالم في مواجهة السلطة الغاشمة، ورسائل المقاتلين السودانيين لأمهاتهم وذويهم من معسكرات الجبهة الوطنية وفي ليبيا أو إبان حرب الجنوب، وصولًا إلى كتاب “التبرئة: تبرئة أمة القلم والسيف من منقصة تهمة الخور والضعف” للدكتور أيمن الظواهري، الذي حوى العديد من النماذج التي تقع ضمن هذه الدائرة، فقد أورد نماذجًا لقصص عن بشاعة السجون، كتبها الشيخ أبو محمد المقدسي، ورواية مضادة للرواية الغربية عن ١١ سبتمبر، بعنوان: “آيات الرحمن في غزوة سبتمبر كتبها الشيخ ناصر بن حمد الفهد، إضافة إلى خطاب أسامة بن لادن، ذلك الخطاب الذى وجهه للشعب الأمريكي في سبتمبر 2007، الذي جاء وكأنه ردًا على (الرسالة المفتوحة التي كانت بعنوان: مثقفون أمريكيون يخاطبون المسلمين: من أجل ماذا نحارب”؟ التي نشرها أكاديميون أمريكيون ووقّع عليها ستون مثقفًا كبيرًا معظمهم من الأساتذة المعروفين، وذوي النفوذ في الدراسات الأخلاقية والدين والسياسات العامة في الجامعات الأمريكية، ومراكز التفكير بتاريخ 12 فبراير 2002″، التي تتعلق بالحرب على الإرهاب، ولماذا هي ضرورية وعادلة”.

ومما جاء في خطاب بن لادن:

*/إن أخلاق ثقافة المحرقة هي ثقافتكم وليست ثقافتنا.

*/ولكننا قوم لا ننام على الضيم، نرفض الذل والهوان ونثأر من أهل البغي والعدوان ولن تذهب دماء المسلمين هدرًا وإن غدًا قريب لمن انتظر.

*/وهذه الدولة الوطنية فرضت علينا بحدود سايكس بيكو بالقوة والقهر والتزوير وهي زائلة لا محالة إن شاء الله.

سنلاحظ أن بن لادن في خطابه حاول تحطيم واحدة من السرديات الكبرى للغربيين وهي ادعائهم أن القيم الإنسانية الكبرى كالتسامح والحرية والعدالة والديمقراطية قيما غربية، وأنها نشأت عندهم ومنهم خرجت للآخرين، وذلك بإيراده أمثلة للتعايش بين المسلمين واليهود والمسلمين والنصارى، وإشارات لعدالة الإسلام. كان خطاب بن لادن ردًا عليها ولكن من خلال سردية كبرى أخرى هي سردية التطرف التي هي الأخرى تحتاج إلى نقد ومراجعة.

ألم أقل إن التطرف الإسلامي في بعض مقوماته يدين للحداثة الغربية بشكلها الشمولي الوثوقي العدواني، وأنه لا يشكل نقيضًا جذريًا لها وإن بدا كذلك.

مستخلص

-النماذج مجتمعة تسعى كي تبني كل من خلال سرديته عالمًا متماسكًا يتبدى فيه موقف الفرد من العالم ومن الآخرين، فكل هذه السرديات كانت مشغولة ببناء ما يعرف بالهوية، التي هنا هي هوية “المتطرف” لذلك نجد أن السرديات وجهت بعض رسائلها له تحديدًا كرسالة أبو محمد المقدسي.

 

-يرسم الظواهري صورة نضالية إنسانية باهرة تتخطى كل الحدود، زمانية أو مكانية أو عرقية أو جهوية، فأصحاب السرديات عنده، شبكة لمسيرة واحدة هي مسيرة “الجهاد”، مما يشكل نوعًا من جماليات التطرف.

 

 -يحتل السجن موقعًا مركزيًا في هذه السرديات فلا واحد من هؤلاء العلماء أو من الذين أشارت لهم هذه السرديات إلا وكان سجينًا أو ما يزال في السجن، ولأن السجن كمكان ومكانة له تاريخ في السرد وفي إنشاء القصص والحكايات، يعد رافدًا أساسيًا في بناء هوية المتطرف من خلال ما يقرأه من قصص وحكايات، ودونكم كتيب “لماذا أعدموني”.

-نلمس في كل هذه السرديات حسًا أدبيًا، كما نلمس فيها – وهذا هو الأهم – صوت الأنا المتكلمة حتى وإن ظهرت في بعض الأحيان بصوت “النحن” كما في خطاب بن لادن، بل إننا في بعض المساهمات نلمس ما يشبه أدب السيرة الشخصية، كمساهمة أبو محمد المقدسي.

-اختيارات الظواهري لم تكن اعتباطية فانتخابه على سبيل المثال في كتابه هذا لأكثر من فتوى وأكثر من سردية وتحليل لأحداث سبتمبر يشير إلى أن الرجل يسعى لبناء أسطورة خاصة للمتطرفين، تكون من ضمن ما يساهم في بناء هويتهم والمحافظة عليها خاصة وأن 11 سبتمبر وبرأي غالبية الخبراء في السياسة والأمن والفكر قد شكلت لحد كبير بداية لتاريخ جديد للعالم… يرى المتطرفون أن 11 سبتمبر واحدة من أساطيرهم التي ينبغي حمايتها والدفاع عنها ونشرها وكيف لا وهي من جعلت من مشروعهم سؤالًا عالميًا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى