استمراّءُ إهانةِ المعلّمِ في الشمالية: رسالة جوعٍ لا تصدّق

بقلم: حسن عبد الرضي الشيخ

لم يطلبوا في حياتهم رفاهيةً تُشَيِّعُ النفسَ أو دلعًا يزيدُ من لذّة الحياة. طلبهم الوحيد الآن، وهو طلبٌ بسيطٌ إلى حدِّ الخجل، أن يكفيهم راتبٌ يُقدِر لهم وجبتين يوميًّا: عدسٌ للفطور وفولٌ للعشاء. هذا ليس نداء فقراءٍ متسولين يبحثون عن صدقاتٍ عابرة، بل صرخةُ معلمينٍ عُدّوا طوال عمرهم شُعلةَ هذا الوطن، يحملونَ أعباءَ تربيةِ الأجيال على أكتافٍ هجمت عليها الحياةُ بأقسى ما فيها من قسوةٍ وغدر.

كتبوا إلى والي الولاية الشمالية رسالةً حزينةً، وضعت أمامه حساباتٍ بسيطةً، لكنها تكشفُ عن مأساتهم بصدقٍ أكثرَ من كلِّ البلاغات الرسمية. حساباتٌ لوجبتين لعائلةٍ بسيطةٍ من ستّة أفراد: الفطور (رغيف، عدس، بصل، زيت) والمساء (رغيف، فول، طعمية)، فكلُّ يومٍ يحتاج تسعةَ آلافٍ أو ستّةَ آلافٍ؟ الحسابُ واضحٌ في رسالتهم: ما يحتاجه المعلم شهريًا ليأكل فطورًا وعشاءً فقط يصل إلى ٣٦٠ ألف جنيهٍ في الشهر. وفي المقابل، راتبُ معلمِ الدرجةِ الأولى لا يتجاوزُ مائةَ وستينَ ألفًا — إن صحَّتْ التسمية. فارقٌ لا تُسدُّهُ المعادلاتُ ولا تُعالجُهُ وعودٌ مريضة.

لكنّهم لم يكتفوا بأرقامٍ باردةٍ؛ فقد أوردوا قائمةً طويلةً من الأشياءِ التي حُذِفَتْ من حياتهم عنوةً: لا خضار، ولا فاكهة، ولا لحوم، لا شاي ولا بنّ، لا مواصلاتٍ من البيت إلى المدرسة، لا رصيدٌ ولا إنترنت، لا علاجٌ للمرضى في البيت، ولا نفقة على الوالدين، ولا مصاريف لأبناءٍ يتعلّمون أو لعروسٍ أو عزاءٍ. باختصار: حُرم المعلّم من أبسطِ مظاهرِ الكرامةِ الإنسانية.

أيُّ مجتمعٍ هذا الذي يسمحُ لقيّادتهِ أن يتركَ من يُعلّمون البناتِ والأولادَ يذوبونَ جوعًا وصمتًا؟ أيُّ نظامٍ إداريٍّ هذا الذي يُعاملُ المعلمَ وكأنه بندٌ يمكنُ تقليصهُ أو تعطيلهُ عند أولِ أزمةٍ؟ إنَّ هذه الأسئلة ليست مُطالبةً بالعدالة، فحسب، بل هي دعوةٌ لتذكُّرِ المعنى الحقيقي للدولة: حمايةُ مواطنيها، ودعمُ من يبنونَ مستقبلها.

وليس الغريبَ أن تتفاقمَ المعاناةُ في زمنِ الحربِ والانقسام؛ سألت زميلاً عزيزاً في الخرطوم عن اخباره، جاء الردُّ حزيناً: “صمودٌ شديد… لكن الحياة لا طعمَ لها ولا لونَ ولا رائحةُ إلا لبنى كوز”. معلمُونَ توقفَتْ مرتباتهم منذ بداية الحرب، بعضهم يطالبون برواتبٍ تعود لسنينٍ خلت؛ وهذا يقودُنا إلى قاعٍ أعمق: أننا نعيشُ زمنًا يسبقُ العصر الجاهلي في معناه الاقتصادي والإنساني.

أين هو واجبُ الولايةِ والسلطاتِ الموكلةِ بحمايةِ أهل الخدمةِ العامة؟ كيف يمكنُ لوزير التعليمِ أو لوالي الولاية المكلف أن يتجاهلَ رسالةً تتضمنُ أرقامًا وحقائقَ تُدلّى مباشرةً إلى مكتبه؟ إنّ تجاهلَ هذا النداء يُعتبر حكمًا على المعلّمِ وأطفالهِ بالموتِ جوعًا وكمدًا، كما قال المعلّمونُ بنفسِ الكلمات.

ليس هذا نداءً للشماتة أو للحملاتِ الإعلامية العابرة، بل هو استدعاءٌ لإنسانيةٍ هجرت مكاتبِ القرار. المطلوبُ اليومُ بسيطٌ وواضحٌ:

١. رفعُ رواتبِ المعلمين إلى مستوىٍ يضمنُ لهم حدًّا أدنى من الكرامةِ المعيشية، بحيث يُغطي الطعامَ والنفقاتَ الأساسية.

٢. إيقافُ أي تلاعبٍ أو تأخيرٍ في صرفِ المرتبات فورًا، لأنَّ أثرَ التأخيرِ يتراكمُ ويتحوّلُ إلى معاناةٍ إنسانيةٍ لا تُحتمل.

٣. توفيرُ دعمٍ اجتماعيٍّ لصالحِ المعلمين المتضرّرين من الحرب – مساعداتٌ غذائيةٌ وطبيةٌ ومواصلاتٌ مؤقتة – إلى حينِ استقرارِ الوضعِ المالي.

٤. فتحُ حوارٍ شفافٍ يعكسُ صوتَ المعلم ويشركه في قراراتٍ تؤثّرُ على مستقبلهِ وحياةِ أسرته.

وأخيرًا، إلى سيادةِ الوالي: هذه رسالةُ شعبٍ صغير، لكنها صادقةٌ وواضحة. لا تجعلوا جوابَكم تسجيلًا باردًا يُودعُ في أدراجِ اللامبالاة. استجيبوا لهذه النداء البسيط قبل أن تتحوّلَ الأزمةُ من مطالبةِ براتبٍ إلى نكبةٍ اجتماعيةٍ لا تُداوى.

إلى الإخوةِ المعلمين: صمودكمُ فخرٌ، لكنّ الصمودَ وحده لم يعد كافياً. نظّموا صوتكم، وحدّوا مطالبكم، واطلبوا العدالةَ بطرقٍ منظّمةٍ وسلميةٍ تضمنُ أن يسمعَكم الناس قبلَ أن يلومَ التاريخُ من أخلفَ الوعد.

المعلمُ ليس رفاهيةً للدولة، بل ركيزةٌ لبقائها. أنقذوا المعلّمَ تنقذوا جيلًا بأكمله.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى