مذكرات أحمد عبدالرحمن محمد
السر السيد
في العنوان:
عنوان المذكرات الأساس هو (الوفاق الطريق للحكم الرشيد)، مع عنوان فرعي مُحّدِد أو شارح له هو (دروس من حياتي السياسية والاجتماعية). قد يرى البعض أن العنوان الأساس لا يشبه عناوين المذكرات والسير الشخصية الرائج خاصة السودانية منها، فقد درج السائد عندنا أن تكون العناوين مكونة في الغالب من مفردات على صلة بالذكرى، والذكريات، والمذكرات، كما في سيرتي بدور عبدالمنعم عبداللطيف (ذكريات وخواطر)، عبدالله عبيد (ذكريات وتجارب)، أو مكونة من مفردات على صلة باليوم، كما في سيرتي الصادق عبدالله عبد الماجد (يومياتي: حياة فتى)، وكامل محجوب (تلك الأيام)، أو من مفردات على صلة بالتجربة والتجارب كما في سيرتي علي شمو (تجربتي في الإذاعة)، أو عبد المجيد منصور (تجربتي في الحياة)، أو مكونة من مفردات ذات أبعاد شاعرية أو ترميزية كما في سيرتي إبراهيم الصلحي (قبضة من تراب)، وحيدر إبراهيم علي ( أزمنة الريح والقلق والحرية)، ولكن ومع ذلك لم يخل منجز المذكرات والسير الشخصية السودانية من عناوين تشبه عناوين الكتب ذات الطابع الفكري أو السياسي كعنوان موضوع مقالتنا، فعلى سبيل المثال نجد أن عمر الكارب قد عنوَن مذكراته بـ (الجزيرة قصة مشروع ورحلة عمر)، وعنون محمد أحمد الأمين ذكرياته بـ(بين عهدين).
إن منجز المذكرات والسير الشخصية السودانية متنوع في عناوينه الغنية بالدلالات والإيحاءات وهذا مبحث مكانه ليس هنا.
عن المذكرات:
صدرت المذكرات عن دار المصورات في طبعتها الأولى في العام ٢٠٢٥، وتتكون من ٣١٤ صفحة شاملة الإهداء والتقديم والمقدمة والشكر والخاتمة وملحق الصور.
جاء في صفحة الإهداء: (أهدي هذه المذكرات إلى زوجتي نور علي الحاج، فقد كانت عوني وسندي في فترات الشدة والرخاء. ولا بد من أن أقيّم دورها في تعهدها وتفرغها لتربية أبنائي، دكتورة عفاف والأستاذ البنا والمهندسَين ياسر وإبراهيم، وصبرها وتحملها لرعاية الأسرة، خاصة خلال حظر الأسرة في السودان ومنعهم من السفر واللحاق بي في المملكة العربية السعودية. وأسأل الله العلي القدير أن يُوزِع أسرتي أن يشكروا نعم الله عليهم وعلى والديهم، وأن يعملوا صالحًا يرضاه).
احتوت المذكرات على تقديمين، ومقدمة، وشكر. كتب التقديم الأول السفير الخضر هارون، وكتب الثاني الصحفي مصطفى أبو العزايم، والمقدمة كتبها المؤلف والشكر كتبه البروفيسور علي شمو.
في المذكرات:
تتراوح المذكرات بين الذاكرة والتاريخ حفرًا منذ أيام الطفولة الأولى، متنقلة بين أحداث مركزية في مسيرة الحياة السياسية السودانية، رابطة بعضها بتأثيرات إقليمية ودولية، ففي المذكرات حضور لمصر الناصرية والمملكة العربية السعودية وفلسطين وأمريكا والاتحاد السوفيتي وليبيا وهولندا، وحضور لتحولات الأنظمة السياسية في السودان بإشارات معمقة لنظام ١٧ نوفمبر ١٩٥٨، ولنظام مايو ١٩٦٩ ولفترات الحكم الديمقراطي ولنظام الإنقاذ حتى سقوطه.
وحضور للحركة الطلابية طيلة فترة الخمسينيات وما بعدها وتنازعها بين الإخوان المسلمين والشيوعيين، ولحملة الدستور الإسلامي، وثورة أكتوبر، ملابساتها ومآلاتها وحل الحزب الشيوعي السوداني والجبهة الوطنية في ليبيا وغزوها للخرطوم والمصالحة الوطنية وانشقاقات الحركة الإسلامية وأحداث الجزيرة أبا ومذكرة العشرة الشهيرة، وغيرها من الأحداث والوقائع.
المذكرات وهي تحفر في ذاكرة وتاريخ الحياة السياسية، لا تقطع الخيط الرفيع بينها وبين مسيرة الحياة الشخصية للمؤلف، ففي المذكرات نتوقف على ملامح من طفولته، وعلى ملامح من مسيرته في التعليم حتى الجامعة، وعلى المناصب التي شغلها وعلى صداقاته العابرة للأيديولوجيا، وعلى قصة زواجه، وعلى بعض تحفظاته في بعض مواقف التنظيم، وعلى احتفائه بجدته العبادية وخاله، وعلى محبته واحترامه للترابي برغم اختلافه معه في بعض المواقف، وكذلك على مواقفه التي قد تكون مفارقة للخط العام للتنظيم كحجته التي قدمها للصادق عبدالله عبدالماجد في قبول دعوة عشاء مقدمة من الرئيس جمال عبدالناصر على هامش المؤتمر الآسيوي الأفريقي عام ١٩٥٧، فقد قال في صفحة ٧٦: (… لقناعتي بعبد الناصر وقوة شخصيته وصدقه، وثانيًا لأنني من المعجبين به لضربه للاقطاع)، أما رد الصادق على هذه الحجة، ص٧٧ فقد كان: (أنت جاهز بكل حيثياتك. أما أنا فلن أصافح يدًا ملطخة بدماء الإخوان)، والأمثلة في هذا الاتجاه كثيرة كحديثه الحميم عن عضوي الحزب الشيوعي آنذاك كامل محجوب وقريب الله الأنصاري، اللذين التقى بهما في سوح العمل العام، أو تحفظه على مشروعية العمل العسكري، وهنا يقول في ص ١٨٠،(… كنت متحفظًا على مشروعية العمل العسكري، بعد قرارات النظام المايوي وقضائه على الواجهة الشيوعية، ولكنني سرت مع الرأي الغالب، رغم أن قناعتي بأن قيادة الجبهة الوطنية لم تكن على قلب رجل واحد آنذاك، وأن الشريف الهندي والصادق المهدي على اتفاق مع الرئيس معمر القذافي بأن العلاقة مع الإخوان في الجبهة الوطنية مرحلية وستنتهي).
المذكرات التي تتحرك من موضوع إلى موضوع ومن حدث إلى آخر وبأسلوب أقرب للقول الشفاهي منه إلى القول المكتوب، ومن مكان إلى مكان في أرض السودان الشاسعة من بربر إلى مدني إلى عطبرة إلى كسلا إلى أم درمان ثم إلى هولندا ومصر والسعودية وبريطانيا وكندا.. في تجوال يمتزج فيه الخاص مع العام، فقد كان الأستاذ أحمد عبدالرحمن في كل تجواله هو الإسلامي الذي ينبغي عليه أن يعيش التنظيم وأن يخدمه في كل زمان ومكان، فقد ظل هذا هاجسه منذ أن انتمى للإخوان المسلمين في العام ١٩٤٩ وحتى وفاته في ٢٠٢٥.
نلمس في المذكرات حضورًا كبيرًا للصدق والوضوح والصراحة، بل والطرافة وخفة الدم، ففي ما يخص مذكرة العشرة على سبيل المثال، تلك التي استهدفت الترابي شخصيًا نجده يقول في صفحة ٢٧٢ (… فهي لم تعرض علي وإذا عرضت ما كنت سأوقع عليها لأسباب كثيرة غالبها علاقاتي الشخصية بالأسرة. لقد تناولتُ طعام الإفطار مع الأمين العام حسن الترابي في نفس يوم المفاصلة، وقلت له إن هذه حركة تصحيحية للمسار. قاطعني الدكتور وقال لي: “وكمان مبارِكة!”. فقلت له إن شاء الله تكون مبارَكة)… إلى أن نصل إلى قول الترابي: (… إنني فوجئت بالأمر واستعصي عليه تجاوزه، فأنا بشر وهذا نوع من الغدر إن لم يكن الخيانة).
وإضاءات أخرى
مسرحية (فتح الأبيض)
جاء في ص٤٨ وص٤٩ (… وقمنا بإعداد مسرحية بعنوان (فتح الأبيض)، ونال عرضها استحسان الناس وقبولهم وترحابهم، خاصة في معاقل الأنصار، مثل منطقة العبيدية شمال بربر مركز الشيخ مختار ود رحمة المشهور. وحدث العكس تمامًا في منطقة نفوذ الختمية، حيث وجدنا رفضًا تامًا في غرب النيل منطقة الباوقة ارتولي. بل إن أحد القيادات قام بتكسير المصابيح عند بداية عرض المسرحية وقال لنا: “هذه ليست الأبيض”، وانتهى الأمر بهرج ومرج حال دون عرض المسرحية).
سعد الدين فوزي
جاء في ص٦٩ وص٧٠، (… كان العام ٥٧ – ١٩٥٨ هو العام الدراسي الأخير لي بجامعة الخرطوم، وتم فيه لأول مرة العمل بنظام القوائم النسبية “التمثيل النسبي”، وقد جاءت الفكرة بإيحاء من الأستاذ سعد الدين فوزي… التقيت بالدكتور سعد الدين فوزي مع صديقي الزعيم الطلابي قريب الله الأنصاري، وهو من أميز قيادات الطلاب اليساريين في الجامعة، فكان لقاء مثمرًا، ولفت الدكتور سعد الدين فوزي نظرنا إلى أن السودان في أمس الحاجة لبناء مستقبله بكوادر مؤهلة متخصصة لمواجهة الكثير من القضايا المستقبلية في المجالات المختلفة، وقال لنا: “إنكم تتحملون المسؤولية، إذ كيف تتحكمون في غالبية الطلاب، وأنتم سواء كنتم من اليسار أو اليمين لا تمثلون أكثر من ١٠% من الطلاب. فحرام عليكم أن تعطلوا تطلعات وأشواق من يرغبون بالعمل والتعليم والتخصص، وتفسدون المناخ باستدامة الصراعات، فاشفقوا على السودان).
العلاقة مع تنظيم الإخوان مصر
جاء في ص ٥٩ وص ٦٠: (جدير بالذكر أن علاقة الإخوان في السودان مع تنظيم الإخوان في مصر كان مثار جدل أدى إلى انشقاقات وسط قادة الإخوان في السودان والتنظيم في مهده… إلى أن يقول…. وانتهى الأمر إلى وجود تنظيمين للحركة الإسلامية في السودان، أحدهما التنظيم الذي يقوده المرحوم علي طالب الله، والآخر هو التنظيم الطلابي الإسلامي السوداني، الذي عمل تحت أسماء مختلفة مستقلًا عن حركة الإخوان المسلمين في مصر تنظيميًا، مع الاحتفاظ بعلاقة تعاون وتنسيق، الأمر الذي ظل غير مرضي عنه من قبل حركة الإخوان في مصر ومن التنظيم العالمي).
ملاحظتان هنا مكانهما
الأولى: الكثير من الأحداث والوقائع المهمة تأتي بدون ذكر التاريخ، وقد يعود هذا إلى طول الفترة التي تتحرك فيها المذكرات أو إلى كثرة الأحداث وتداخلها.
الثانية: لاحظت وفقًا للمذكرات أن الحركة الإسلامية بمسمياتها المختلفة، منذ تأسيسها وإلى ما بعد المصالحة الوطنية تقريبًا كان شغلها الشاغل وهدفها الأساس القضاء التام على الحزب الشيوعي السوداني.
خاتمة:
المذكرات وهي تتوقف عند ما قام به كاتِبُها من أعمال وأصدره من قرارات في المناصب التي تولاها، أو عند رؤاه ومواقفه السياسية تكشف بطريقة غير مباشرة، نزعته الإصلاحية ونزوعه التصالحي، وإنصافه للخصوم، وحرصه على وحدة الحركة الإسلامية، فنراه من المؤمنين بالتعددية والاختلاف، المشغولين بضرورة التنمية، الداعين إلى الحكم الرشيد.