ضوء الشمس يطعم السودان.. كيف تستخدم آلاء صالح حمدتو تكنولوجيا الطاقة الشمسية لمواجهة الجوع في زمن الحرب
بقلم : كوادري أديجومو
بينما يهرب معظم رواد الأعمال من مناطق النزاع، اختارت آلاء صالح حمدتو الاتجاه عكس التيار. فمن مدينة كسلا على الحدود الشرقية للسودان مع إريتريا، تُدير حمدتو شركتها الناشئة «سولار فودز» (Solar Foods)، التي تستخدم الطاقة الشمسية لحفظ الأغذية في قلب واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في أفريقيا.
وسط حربٍ أودت بحياة عشرات الآلاف وشردت أكثر من 12 مليون شخص، وأغرقت الاقتصاد في فوضى عارمة، وجدت حمدتو وفريقها طريقًا للبقاء بل لبناء نموذج عمل ناجح. اليوم، يتعاون أكثر من 5000 مزارع و40 جمعية تعاونية، تقود كثيرٌ منها نساء نازحات، في معالجة وتصدير الأغذية لأول مرة من السودان. هذا الإنجاز منح حمدتو جائزة مؤسسة باير لتمكين المرأة لعام 2025، واضعًا اسمها بين أكثر النساء ابتكارًا في القارة الأفريقية.
إرث الأب وبذرة الفكرة
تعود جذور «سولار فودز» إلى عقود قبل اندلاع الحرب. ففي ثمانينيات القرن الماضي، صمّم والد آلاء وهو عالم بارز في هيئة الطاقة الذرية البريطانية أول مجففات شمسية للأنفاق والصوبات الزراعية في السودان. كان يؤمن بأن ضوء الشمس هو المورد الأكثر وفرة والأقل استغلالًا في البلاد.
تقول آلاء بابتسامة: «كان والدي يردد دائما: أشعة الشمس هي رزقنا الحقيقي». ورغم أن اختراعاته كانت رائدة في وقتها، إلا أن انتشارها ظل محدودًا. بالنسبة لها، لم يكن عمله مشروعًا علميًا فحسب، بل إرثا عائليًا يستحق الإحياء.
تضيف: «علّمني والدي أن الابتكار لا يعني التعقيد، بل القدرة على حل المشكلات المحلية بما هو متاح بين أيدينا».
بعد أن عملت طبيبة أسنان لسنوات، قررت حمدتو ترك مهنتها لتكرّس نفسها لإحياء مشروع والدها. أرادت اختبار التقنية علميًا وتسويقها تجاريًا، فاستثمرت مدخراتها بالكامل، بل وباعت مجوهراتها الشخصية لتمويل التجارب الأول. وتقول : كنت أؤمن أن هذه الفكرة تستحق أن ترى النور.
وبعد ثلاث سنوات من البحث والتطوير، اختبرت خلالها النماذج والمواصفات ومعايير السلامة، أسست رسميًا في عام 2017 شركة «سولار فودز» كمشروع صغير يعتمد بالكامل على الطاقة الشمسية لتجفيف الأغذية.
عام 2020 مثّل نقطة تحول. خلال موسم فيضانات مدمر، غرقت الطرق الزراعية في الطين وانقطعت المواصلات عن المزارعات اللواتي حصدن للتو محاصيل الملوخية وهي أحدي أشهر الخضروات الورقية في السودان. رفض التجار شراء المحصول أو نقله، خوفًا من التلف.
تروي آلاء: «استخدم فريقنا القوارب لعبور المياه، ثم الجمال للوصول إلى القرى النائية. كانت تجربة شاقة، لكننا تمكنا من إنقاذ المحاصيل وتجفيفها بالطاقة الشمسية قبل فسادها».
دفعت الشركة أسعارًا عادلة للمزارعين، ونجحت في تحويل أزمة إلى فرصة. «لن أنسى أبدًا تعابير الارتياح على وجوه النساء اللواتي رأين أن تعبهن لن يضيع. حينها أدركت أن التجفيف الشمسي ليس تقنية فحسب، بل وسيلة للبقاء».
تعتمد «سولار فودز» على تصاميم والد آلاء الأصلية، لكنها طورتها لتواكب العصر. تقول: «كل مجفف مزوّد بحساسات حرارة ورطوبة متصلة بنظام ذكي لضبط تدفق الهواء تلقائيًا، ما يجعل العملية مستقرة وموثوقة دون إشراف مستمر».
تأتي نحو 90% من الحرارة من أشعة الشمس، بينما تشغّل ألواح شمسية صغيرة المراوح وأجهزة الاستشعار. وتوضح حمدتو: «التجفيف المباشر تحت الشمس يعرّض الغذاء للغبار ويُفقده قيمته الغذائية، أما التجفيف بالتجميد فهو باهظ ويستهلك طاقة هائلة. تقنيتنا تحقق توازنًا مثاليًا بين الجودة والتكلفة والاستدامة».
وتضيف أن بعض المحاصيل تستجيب أفضل من غيرها. «البصل والثوم والبامية والطماطم هي الأنسب، بينما الفواكه الحساسة كالمانجو والتوت تحتاج تحكمًا دقيقًا في الحرارة. أما اللحوم والأسماك فتتطلب أعلى معايير السلامة».
قبل الحرب، دمجت الشركة تقنية إنترنت الأشياء (IoT) لمراقبة عمليات التجفيف عن بُعد، لكن انقطاع الاتصالات عطّل النظام. الآن، تركّز على الأتمتة المحلية. «هدفنا طويل المدى هو إعادة هذه التقنيات بمجرد أن نؤسس مراكز مستقرة ونؤمّن التمويل اللازم».
نموذج تجاري مرن
بحلول عام 2021، أصبحت «سولار فودز» شركة اجتماعية رسمية ذات أربعة مصادر دخل. يدفع صغار المزارعين رسومًا رمزية مقابل خدمات التجفيف، بينما تحقق الشركة أرباحها الأساسية من بيع المكونات المجففة — مثل مسحوق البصل والثوم ورقائق الطماطم والبامية — للمشترين من الشركات المحلية والدولية (B2B). كما تبيع منتجاتها النهائية للمستهلكين (B2C)، وتُصنّع مجففات شمسية لصالح المنظمات والتعاونيات.
تشدد آلاء على أن الجودة تبدأ من الحقل: «نختار أصنافًا عالية الغلة ونتعاون مع الجمعيات التعاونية في مراحل الزراعة والحصاد. نبدأ المعالجة فقط عندما يكون المحصول في أوج نضجه».
تلتزم الشركة بمعايير HACCP وGMP لمراقبة الجودة وسلامة الأغذية. كما تولي اهتمامًا خاصًا بالتوزيع. «يتحدث الناس كثيرًا عن جودة المنتج، لكن التوزيع هو سر النجاح الحقيقي. بدون شبكة توزيع فعالة، حتى أفضل منتج سيفشل».
تعمل «سولار فودز» على بناء شراكات مع شركات لوجستية محلية ودولية لتسهيل التصدير وضمان المعايير. وتضيف حمدتو: «نركز على الشهادات والاعتمادات اللازمة لفتح أسواق جديدة، خصوصًا الخليج وأوروبا».
من أبرز سمات نموذج «سولار فودز» أن معظم التعاونيات التي تتعامل معها تديرها نساء نازحات. تدربهن الشركة على تشغيل المجففات وإدارة المشاريع الزراعية الصغيرة، ما يمنحهن مصدر دخل واستقلالًا اقتصاديًا.
تقول آلاء: «كوني امرأة في بيئة يهيمن عليها الرجال لم يكن سهلاً. كثيرون يفترضون أن رائدة الأعمال لا يمكنها التوسع أو المنافسة. لكن النساء اللواتي أعمل معهن أثبتن العكس».
بفضل دعم الشركة، تمكنت 13 جمعية تعاونية من تسجيل أسمائها التجارية رسميًا لأول مرة في السودان، ما سمح لهن بالحصول على تمويل جماعي تجاوز 100 ألف دولار. «هذا الاعتراف القانوني غيّر حياتهن، وأثبت أن العمل الجماعي النسائي قوة اقتصادية حقيقية».
مع اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، تعرض مكتب «سولار فودز» في الخرطوم للنهب والتدمير. لكن بدلاً من الانهيار، اختار الفريق التكيّف. تم توزيع العمليات بشكل لامركزي، وانتقلت الإدارة إلى كسلا، التي تُعد من المناطق الأكثر أمانًا نسبيًا في السودان.
تستخدم الشركة اليوم وحدات تجفيف متنقلة تعمل بالطاقة الشمسية، تُمكّن الإنتاج حتى عند انقطاع الطرق أو انعدام الكهرباء. يستأجر المزارعون هذه الوحدات أو يبيعون منتجاتهم بشكل جماعي عبر التعاونيات، ويُعاد استثمار الأرباح في مشاريع محلية مثل بنوك البذور ومستودعات التخزين.
تُشغّل الشركة الآن ستة مجففات في كسلا، ثلاثة منها مخصصة لإنتاج مكونات الفلافل، وتُعالج ما يصل إلى ستة أطنان يوميًا من المحاصيل الطازجة.
توضح آلاء: «بسّطنا اللوجستيات وخفّضنا اعتمادنا على الكهرباء الوطنية، وركّزنا على المحاصيل السريعة والعالية القيمة. الحفاظ على السيولة والموارد المحدودة هو ما أنقذنا من التوقف».
وترى في الأزمة فرصة للنمو: «من المفارقات أن الحرب منحتنا مساحة للابتكار. كنا من القلائل الذين تجرأوا على العمل رغم القنابل. الشركات الكبيرة انسحبت، أما نحن فثبتنا».
شمس المستقبل
عام 2025 شكّل علامة فارقة في مسيرة الشركة، بعد فوزها بـ جائزة باير لتمكين المرأة. وفّر هذا التكريم تمويلًا واستشارات وشبكات دعم دولية، وعزز ثقة المستثمرين في نموذجها القائم على التعاون المجتمعي. تقول آلاء: «الجائزة أكدت أن نموذجنا المحلي يمكن أن يكون عالميًا. لقد فتحت لنا أبواب شراكات وفرص تصدير لم نحلم بها من قبل».
تسعى الشركة الآن للحصول على تمويل مختلط بقيمة 750 ألف دولار لشراء أرض في كسلا، وبناء مستودع حديث بمساحة ألف متر مربع وخط تعبئة متكامل، إلى جانب توسيع شبكة المجففات إلى أكثر من عشرة وحدات. «مُنشأتنا القديمة دُمّرت بالكامل، لذا نحن بحاجة لبنية تحتية جديدة تتيح الحصول على الاعتماد الدولي».
رؤيتها المستقبلية واضحة: تحويل السودان إلى مركز أفريقي للمنتجات المجففة بالطاقة الشمسية، يدعم 50 ألف مزارع من خلال مراكز معالجة منتشرة في أنحاء البلاد. كما تخطط لاستخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين التنبؤ بالطلب، وضبط عملية التجفيف ومراقبة الجودة.
وتضيف آلاء أن الشركة بدأت أيضًا التفاوض مع وكالات إنسانية لتوفير الأغذية المجففة للمناطق المنكوبة والمستشفيات.
رغم النجاحات، تبقى رؤية حمدتو مرتبطة بمصدر الإلهام الأول والدها. «لم تكن طموحاتي تتعلق فقط بالتكنولوجيا، بل بقدرتنا على تحويل ضوء الشمس إلى حياة».
وتختتم حديثها بعبارة تلخص فلسفتها: «قد لا تكون أنظمتنا الأكثر تطورًا في العالم، لكنها الأنسب لبلدنا. هي نوع من الابتكار الاجتماعي الذي يُحدث أثرًا حقيقيًا. لا أريد أن تبقى ’سولار فودز‘ مجرد قصة نجاح على الورق بل مصدر أمل وغذاء لمن يزرعون مستقبل السودان.