استراحة محارب: من الكوشي-النوبي إلى التأسيس الجامع — حين تُبنى الأوطان على الجهل والخطأ
د. أحمد التيجاني سيد أحمد
زرتُ ٨٨ دولة، منها حوالي ٤٥ للعمل في مهام طويلة وقصيرة، واستشارية في مجالات التنمية والسياسات الزراعية و التنموية و الحوكمة العامة، ولم أجد — بلا مبالغة — دولةً أفشل من السودان. ليست مبالغة ولا قسوة، بل مرارة تجربة ومقارنة. ففي رواندا خرجوا من الإبادة إلى التنمية، وفي الصين صنعوا المستقبل من الفقر، وفي جنوب أفريقيا واجهوا ماضيهم بالاعتراف والمصالحة، وفي كينيا ويوغندا خطوا خطواتٍ في سبيل النهوض الديمقراطي بالرغم من تنوع اللغات و العادات و المعتقدات ؛ حتى الصومال — بلد اللامعقول — أظهرت ومضاتٍ من التنظيم والمعنى في صوماليلاند. أما السودان، فظلّ بلدًا بُني على الجهل والخطأ، وامتاز بالخطأ، بالرغم من مكوّناته الإثنية والحضارية والجغرافية التي تكاملت او تفوقت بعضها على بعض أحيانًا، أو ارتبطت به جغرافيًا وتاريخيًا في مسيرةٍ واحدة من الصعود والانكسار.
تلك المكوّنات التي شكّلت نسيج السودان منذ فجر التاريخ — من الكوشيين والنوبيين في الشمال، والبجة و الرشايدة في الشرق، والفونج و الفلاته و الانقسنا على النيل الأزرق،والزنج البانتو و الفور و النوبه و الهوسا و العرب في دارفور وكردفان في الغرب، وصولًا إلى القبايل النيلية في تخوم الجنوب — لم تكن جزرًا منفصلة، بل روافد لحضارة واحدة تتلاقى وتتصادم، وتمنح هذا الوطن عمقه الإنساني الفريد. لكن الدولة الحديثة، منذ استقلالها، عجزت عن تحويل هذا التنوع إلى مشروع وطني جامع، فاستبدلت التكامل الطبيعي بالتنافر المصطنع، ورفعت شعارات الوحدة وهي تمارس الإقصاء، حتى غدا السودان — بثقافاته المتعددة — وطنًا يخاصم نفسه.
وما كان أدْهى من هذا كلّه، أن الدولة الحديثة حاولت أن تمنح نفسها تعميمًا زائفًا باسم “التمدين” — تمدينٌ صيغ بعقلٍ عروبيٍ-إنجليزيٍ مستعار، لا يمتّ إلى روح البلاد بصلة. بدل أن تغوص في أعماق كنوزها الذاتية، راحت تستورد نموذجًا غريبًا عن طبيعتها وعن الإنسان الذي يسكنها. بلادٌ كانت يومًا مصدّرًا لكل أنواع الحبوب والمواشي، ومهدًا للتنوع الزراعي الطبيعي، انحصرت اليوم في زراعة عينات محدودة من القمح وتربية سلالات مختارة من الماشية، فقط لأنها الخيار المفضل للسوق العالمي — لا لحاجتها ولا لخصوصية أرضها. وهكذا غاب الفكر المنتج، وحلّ مكانه وهمُ التمدين الذي يكرر ما لا يشبهه، حتى في الزراعة كما في السياسة والثقافة.
يُروى أن القانوني محمد أحمد المحجوب ذهب إلى الجامعة العربية مدافعًا عن انضمام السودان، بينما كانت لبنان تقود حملة الرفض والطرد. غلبهم المحجوب بفصاحته وبلاغته، لكنه لم يقل لهم إنه سليل الكوشيين والنوبيين، أول من بنوا المراحيض والشوارع و نظموا الوقت في الدفوفة التاريخية. ذلك هو السودان: يسعى إلى القبول في هوياتٍ مستعارة وينسى جذره الحضاري العميق الممتد آلاف السنين.
ثم جاء الدكتور استاذ اللغات العربية و الانجليزية عبد الله الطيب، الذي انحاز إليه الأديب العربي الكبير طه حسين، فدخل مجمع اللغة العربية مرتديًا شورتًا (رداءا قصيرا) وبرنيطة، وتحدث بلسانٍ متقعّرٍ أدهش الحاضرين، فضمّوه إلى “نادي العروبة الأدبي”. ولم يسأل أحد: أين لغتنا الأم؟ وأين ذاكرة النوبة التي أنطقت الصخر والماء؟
أما الدكتور محيي الدين صابر النوبي الدنقلاوي، فقد خان لغته الأم حين عرّب المناهج، فكوفئ بمنصبٍ رفيع في منظمة الألكسو (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم)، ثم أصبح لاحقًا مديرًا عامًا لها. ونُسي أن تعليم الإنسان بلغته هو أول أركان الحرية، فكانت تلك بداية الضياع الثقافي الذي جعل السودان يفاخر بانتماءٍ لا يعترف به، ويستحي من هويةٍ كانت يومًا منارةً للإنسانية.
لكن رغم هذا الخراب، ظلّت جذوة الكوشي-النوبي حية. النوبي العظيم، قدوتي في الحياة، والأديب الدبلوماسي جمال محمد أحمد قال لأبنائه: «صعبُ العلا في الصعب»، وكتب سالي فو حمر، وكتب لنا نحن صغار المهاجرين: «تعلّموا الحياة في مصادرها و خذوا منها ما يفيدكم لا ما يقيدكم». كانت وصية جيلٍ آمن أن النهوض لا يأتي من الخارج، بل من صميم الذات.
وكذلك الإداري ورجل الأعمال المحنك داوود عبد اللطيف، ظلّ شعلةً مستنيرةً في الحياة كما في الممات، يذكّر بأن الهوية ليست شعارًا سياسيًا، بل طريقًا شاقًا نحو الكرامة والوعي.
و كذلك المحارب النوبي العظيم احمد خيري علي (اوندي) الذي اثر البقاء مع الضباع حتي اعاد بناء قريتة (مك ناصر) التي تم إغراقها بكاملها و هي الان تضح بعشرات المزارعين من خريجوا الجامعات و سواهم من المواهب و القدرات التي هي الان علي استعداد لبناء السودان الجديد
ومن رحم هذا الوعي الكوشي-النوبي القديم، تولد اليوم فكرة التأسيس الجامع لفضاء السودان الواسع الكامل . فما يدعو إليه هذا الجيل ليس انغلاقًا على الجذور، بل استلهامها لإعادة بناء الإنسان والدولة معًا — دولة تقوم على الاعتراف بالذات قبل الاعتراف بالآخر، وعلى وحدةٍ تُصان بالتعدد، لا تُفرض بالقوة. إن التأسيس الجامع في جوهره ليس وثيقة أو حكومة، بل عودة الوعي إلى أصله الأول: الإنسان الحرّ، ابن النيل والجبال و السهول و المراعي الذي يعرف أن الحضارة لا تُستورد، بل تُستعاد.
حاشية:
منظمة الألكسو (ALECSO):
المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تأسست عام ١٩٧٠م في تونس كإحدى منظمات جامعة الدول العربية، وتُعنى بتطوير التعليم والبحث العلمي والثقافة في الدول العربية، على غرار اليونسكو. شغل الدكتور محيي الدين صابر منصب مديرها العام لعدة سنوات بعد مغادرته وزارة التربية والتعليم في السودان.
نواصل