حين تصبح الأرض دليل إدانة والبقاء في المنزل خيانة (تسويغ قضائي لإعدام المدنيين)

ملف خاص - قضية المحامي السوداني أبوبكر منصور .. حين يتحوّل العدل إلى ضحية

بقلم : عبد المنعم عمر إبراهيم

مقدّمة

في الخامس من أكتوبر 2025، دوّى في قاعة محكمة سنجة حكمٌ بالإعدام شنقاً حتى الموت على المحامي والناشط الحقوقي أبوبكر منصور محمد حمزة، في واقعةٍ لم تصدم أسرته ومجتمعه فحسب، بل هزّت الضمير القانوني والإنساني وضمير العدالة في السودان وخارجه. جاء الحكم في أعقاب محاكمة تفتقر لأبسط معايير العدالة ووُصفت من هيئات محلية ودولية بأنها “مهزلة قانونية” و”إعدام سياسي تحت ستار العدالة”!

تعكس هذه القضية ملامح الانهيار القضائي في السودان بعد الحرب، حيث باتت المحاكم أداة للتصفية السياسية وسط مناخ من الفوضى والانتهاكات الحقوقية. ويجمع المحامون والحقوقيون وناشطو المجتمع المدني على أنّ هذا الحكم جائر ويعبّر عن تسييس القضاء وتدخُّل الأجهزة الأمنية في سير العدالة، مما أثار غضباً واسعاً في الأوساط المحلية والدولية ودعوات عاجلة لوقف تنفيذ الحكم وإنقاذ حياة المحامي.

الخلفية: انهيار القضاء بعد حرب السودان الشاملة

شهد السودان حرباً شاملة اندلعت في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، أدّت إلى انهيار سلطة الدولة في مناطق عديدة وانتشار الفوضى وانعدام الأمن. ضمن هذا المشهد، تعرّضت ولاية سنار (وعاصمتها مدينة سنجة) لهجمات من قوات الدعم السريع في منتصف 2024، وشهدت اشتباكات عنيفة ضمن توسّع رقعة المعارك. وتوثّق التقارير الدولية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من كلا الطرفين. وقد كان المحامون والمدافعون عن حقوق الإنسان من بين الأكثر استهدافاً أثناء الحرب من قبل الطرفين؛ حيث تعرّض العديد منهم للاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب وحتى القتل. 

وفي ظل هذا الانهيار المؤسساتي، انعدمت فعلياً ضمانات المحاكمات العادلة واستقلال القضاء. ومع انتقال مقر سلطات الأمر الواقع الحاكمة إلى بورتسودان، تصاعد نفوذ الأجهزة الأمنية في إدارة القضاء، بما في ذلك انتداب قضاة طوارئ خاصين للنظر في قضايا ذات طابع سياسي. وخلقت الحرب بيئة أصبح فيها مجرّد الاشتباه أو الوشاية كافياً لاعتقال الأفراد ومحاكمتهم أمام محاكم استثنائية؛ “فالقضاء نفسه بات ضحية للحرب: “حيث أنّ القاضي قد أعدم القضاء نفسه بهذا الحكم قبل أن يعدم أبوبكر”!

 

من المحاكمة إلى الفضيحة القانونية

حكم ينسف أبسط المبادئ القضائية

أصدرت محكمة سنجة حكمها بالإعدام بعد أن كانت قد قضت بسجن أبو بكر عشرين عاماً وغرامة مالية. لكن المفارقة أن محكمة الاستئناف، بدلاً من تصحيح الخطأ، أوعزت للمحكمة العامة فزادت العقوبة إلى الإعدام، في مخالفةٍ صريحة لقاعدة قانونية راسخة مفادها أن “المستأنِف لا يُضار باستئنافه” ، أي لا يجوز أن يُساء موقف المتهم بسبب ممارسته حق الاستئناف؛ ولا يجوز تشديد عقوبة المتهم إذا استأنف الحكم طلباً للإنصاف. ورغم أن القاعدة تقضي بالعمل بالرأي الأخف لصالح المتهم وعدم الأخذ بأيّ تشديد ما لم يكن محل إجماع، إلا أن محكمة سنجة فيما بعد أخذت بالرأي المشدّد الذي طُرح ضمنياً في مذكرة الاستئناف. هذا الخرق غير المسبوق يعاقب المتهم على ممارسته حقه في الاستئناف ويبعث برسالة ردع خطيرة ضد اللجوء للقضاء؛ حيث تحوّلت عقوبة أبوبكر “بقدرة قاضي” من السجن 20 عاماً إلى الإعدام؛ وتحوّل طلب الإنصاف إلى سيف مسلّط على رقبة صاحبه، في سابقة لم يعرفها القضاء السوداني في تاريخه الحديث. 

فما الذي حدث بالفعل؟!!

 

التسلسل الزمني لقضية أبوبكر منصور (2024–2025)

  • منتصف 2024 – دخول قوات الدعم السريع سنجة:

مع اقتراب المعارك من مدينة سنجة في يوليو 2024 تقريباً، اختار الأستاذ أبوبكر البقاء في مدينته رعايةً لوالده المقعد البالغ من العمر 90 عاماً، ووفاءً بواجبه تجاه جيرانه ومجتمعه، رغم موجة النزوح الجماعي آنذاك. وخلال الأسابيع التي سيطرت فيها قوات الدعم السريع على المدينة، لم يُنسب لأبي بكر أي فعل عدائي؛ بل عُرف بنشاطه الإنساني في تلك الفترة، إذ بادر مع متطوعين محليين إلى توزيع الأدوية مجاناً على المرضى والمحتاجين الذين عجزوا عن الوصول للمستشفيات. تلك الأدوية وفّرها من مخزون تبرع به شقيقه الصيدلي من صيدليات العائلة والمعارف، وفتح أبوبكر منزله كمستوصف ميداني ساهم في إنقاذ أرواح العديد من المدنيين العالقين. شهادات أهل سنجة أكّدت أنه لم يكن فارّاً ولا متعاوناً مع أيّ جهة مسلحة طوال فترة وجود قوات الدعم السريع.

  • نوفمبر 2024 – اعتقاله واختفاؤه قسرياً:

 استعادت القوات المسلحة السودانية السيطرة على سنجة أواخر نوفمبر 2024 بمساندة ميليشيا البراء بن مالك. واعتُبر كل من بقي في المدينة مُشتبهاً به.. وفي ليلة 24/11/2024 داهمت قوة عسكرية منزل المحامي أبوبكر واعتقلته بعنف. وتعرّض أثناء المداهمة للضرب والإهانة أمام والده المسنّ، ثم عُصبّت عيناه واقتيد مكبّلاً إلى جهة مجهولة؛ حيث أنكرت السلطات احتجازه، ليبقى مخفياً قسراً لأكثر من ثلاثة أشهر انقطعت خلالها أخباره تماماً.

  • ديسمبر 2024 – فبراير 2025 – احتجاز سري وتعذيب:

 كشفت شهادات لاحقة أن المحامي “أبوبكر” قد احتُجز سرّاً في عنابر سكن طلاب جامعة سنار بمدينة سنجة، بعد تحويلها إلى معتقل غير رسمي تديره ميليشيا البراء بن مالك.. وهناك خضع لتحقيقات قاسية تحت التعذيب الوحشي بغرض انتزاع اعتراف بتعاونه مع (قوات الدعم السريع). تعرّض الأستاذ أبوبكر للضرب المبرح والصعق بالكهرباء والحرمان من النوم لأيام متواصلة، وفق شهادات معتقلين أُفرج عنهم من ذات الموقع. ورغم تدهور صحته امتنعوا عن توفير العلاج له. وخلال هذه الفترة كانت أسرته تطلق نداءات استغاثة لمعرفة مصيره، لاسيّما بعد توارد أنباء عن وفاة محتجزين تحت التعذيب في مناطق أخرى. (جدير بالذكر أن أحد رفاقه في حزب المؤتمر السوداني، صلاح الطيب، قُتل تحت تعذيب الاستخبارات العسكرية في ولاية الجزيرة في أبريل 2024). هذه الانتهاكات تشكل خرقاً صارخاً لالتزامات السودان بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 7) التي تحظر التعذيب والمعاملة القاسية.

  • مارس 2025 – الظهور وتوجيه تهم رسمية:

 في مطلع مارس 2025 تقريباً، وبعد أكثر من 100 يوم على اختفائه القسري، تم نقل أبوبكر إلى سجن سنجة العمومي وأُبلغت عائلته لأول مرة عن مكانه. بعدها وجهت إليه نيابة سنجة ومن ثمّ المحكمة مجموعة اتهامات خطيرة بموجب القانون الجنائي السوداني لعام 1991، من أبرزها المادة 50 (تقويض النظام الدستوري، عقوبتها الإعدام أو السجن المؤبد)، المادة 51 (إثارة الحرب ضد الدولة، عقوبتها قد تصل للإعدام)، المادة 65 (إنشاء منظمة إرهابية)، بالإضافة إلى تهم الاشتراك الجنائي والمعاونة وجرائم الحرب والإرهاب وغيرها، تحت المواد 21 والمادة 186 و190/191 كما وُجهت إليه لاحقاً تهم تحت المواد 15/16 من قانون الأدوية والسموم لسنة 2009 بزعم ممارسته نشاطاً طبياً دون ترخيص. ولم يُسمح لأبي بكر بلقاء محاميه أثناء فترة التحري ولم يُخطر محاموه بمواعيد التحقيق، في مخالفة صريحة لقانون الإجراءات الجنائية الذي يوجب حضور محامٍ مع المتهم في مثل هذه القضايا الخطرة. وهذا الإجراء التعسفي مهّد لمحاكمة تفتقد لضمانات الدفاع منذ بدايتها.

  • أبريل 2025 – المحاكمة الأولى والحكم بالسجن 20 عاماً:

 قُدِّم أبوبكر للمحاكمة أمام محكمة جنايات سنجة برئاسة القاضي عبد اللطيف آدم محمد علي، وهو قاضٍ منتدب من محاكم الطوارئ للنظر في قضايا ذات طابع سياسي. عُقدت عدة جلسات في مارس وأبريل 2025 حضرها حشد شعبي غير مسبوق من أهالي سنجة، تضامناً مع المحامي الذي عرفوه نزيهاً وخيّراً. خلال الجلسات، فشل الاتهام في تقديم أي دليل مادي مباشر يربط أبوبكر بالتهم: لم يوجد شهود رأوا أيّ تواصل بينه وبين قوات الدعم السريع، ولم تُبرز مستندات تُثبت ضلوعه في أيّ خطط عسكرية. في المقابل، قدّم الدفاع العديد من الشهود الذين نفوا عنه أي نشاط إجرامي وأكّدوا دوره الإنساني خلال فترة سيطرة الدعم السريع على المدينة. ورغم غياب الأدلة، أصدرت المحكمة في 30 أبريل حكمها بإدانته تحت المواد 50 و51 وغيرها، وقضت بسجنه عشرين عاماً مع غرامة قدرها 10 ملايين جنيه. أُصيب الجمهور في القاعة وخارجها بذهول واحتقان بسبب هذا الحكم القاسي الذي يفتقر للعدالة، خاصةً أنه صدر دون الأخذ بقاعدة “الشك يُفسَّر لصالح المتهم”؛ كما رأى مراقبون أنّ المحكمة تبنّت سردية الاتهام السياسية دون سند قانوني فعاقبت أبوبكر على بقائه في مدينته وتقديمه الدواء للمرضى وكأنها جرائم، في تجاهل لمبدأ “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”.

  • مايو – يوليو 2025: الاستئناف وإعادة المحاكمة:

 سارع فريق الدفاع إلى استئناف الحكم أمام محكمة الاستئناف بولاية سنار، مبيّنين أوجه القصور القانوني والإثباتي في الحكم الابتدائي. وبالفعل، بتاريخ 29 يوليو 2025 أصدرت محكمة الاستئناف المشكّلة من د. عباس سليمان علوان رئيساً وفتح الرحمن الطيّب إبراهيم عضواً وناصر عبد الله النور عضواً، مذكرة القرار بالنمرة ف ج/74/2025 قضت فيها بشطب عدد من التهم لعدم ثبوتها، حيث لا ترى سبباً للإدانة تحت نصّ المادة 186 كما أنها رأت أن الإدانة بموجب المادة 21 جاءت غير سليمة؛ كما أنها لا تجد ما يشير إلى توافر العنصر المادّي لجريمة تقويض النظام الدستوري مما يخرجه من دائرة الإدانة وفق نصّ المادة 50!! فوجّهت في أمرها النهائي بتأييد الإدانة وضبطها تحت نصوص المواد 51/1-2 و 65 من القانون الجنائي والمواد 15/39 من قانون الأدوية والسموم، كما أمرت بأن تُعاد الأوراق لمحكمة الموضوع لتوقيع العقوبة المناسبة على المُدان.

  • أكتوبر 2025 – اعتقال محامي الدفاع وتأجيل الجلسة:

 في واحدة من أبشع صور التدخّل الأمني، اعتُقل أحد محامي الدفاع الرئيسيين (الأستاذ أبوبكر الماحي) قبل أيام فقط من جلسة النطق بالحكم، جاء هذا الاعتقال قبيل إعادة المحاكمة بهدف واضح هو حرمان المتهم من محاميه الأساسي في لحظة حاسمة. وبالتوازي، فوجئ المحامون بتقديم موعد جلسة النطق بالحكم إلى 5 أكتوبر بدلاً عن 9 أكتوبر دون أي إخطار رسمي. ولم يعلم الدفاع بالموعد الجديد مما جعل حضورهم مستحيلاً.. وهكذا مضت السلطات نحو الجلسة المصيرية والمحامي أبوبكر محروم فعلياً من حقه في الدفاع. وصدر الحكم في غياب المحامين، دون مرافعة ختامية أو حقّ في الكلمة الأخيرة. بهذا الفعل، أُعدم مبدأ الدفاع قبل أن يُعدم الإنسان نفسه.

  • 5  أكتوبر 2025 – جلسة الحكم بالإعدام غيابياً:

وفي صباح ذلك اليوم، عُقدت الجلسة الختامية في محكمة سنجة بحضور المتهم دون محامين – إذ كان أحدهم معتقلاً والآخرون لم يُبلّغوا بالموعد. وخلال دقائق معدودة، تلا القاضي (عبد اللطيف) منطوق الحكم الصادم: إعدام أبوبكر منصور شنقاً حتى الموت. لم يُسمح للمتهم بالكلام أو الاعتراض، ولم تُقدَّم حيثيات تفصيلية للحكم. اكتفى القاضي بإشارات مقتضبة إلى أن “بقاءه في المدينة تحت سيطرة التمرّد يعدُّ تعاوناً لا يحتاج لإثبات” وأن ما قام به يشكّل “خيانة عظمى”؛ اعترض بعضُ المحامين الذين صادف وجودهم طلباً لتأجيل النطق حتى يحضر الدفاع، فقوبل طلبهم بالرفض. سارع القاضي إلى إصدار الحكم ورفع الجلسة وسط ذهول عام. وفور سماع الحكم، أُغمي على أبوبكر منصور من هول الصدمة، ونُقِل وهو في حالة صحية سيئة إلى زنزانة الإعدام حيث يقبع منذ ذلك الحين بانتظار المصير المجهول.

 

العلم القضائي.. حين يصبح الظنّ دليلاً

في حيثيات هذا الحكم المثير، اعتبر القاضي أن «كل من بقي في المناطق التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع يُعد متعاوناً معها»، مستنداً إلى المادة 14 من قانون الإثبات. هكذا حوّل القاضي مجرد البقاء في المدينة إلى «قرينة خيانة»، من دون أيّ دليل مادي أو نية جرمية مثبتة. لقد تحوّل الظن إلى يقين، والبقاء في الدار إلى تهمةٍ بالخيانة العظمى. وهو منطق يقلب روح العدالة رأساً على عقب.

استخدام “مستندات سرية” لإدانته:

بعد صدور الحكم، تبيّن أن القاضي اعتمد في إدانة أبوبكر على تقارير أمنية سرية للغاية زعم أنها تحتوي أدلة عن تعاون المتهم مع قوات الدعم السريع. هذه المستندات لم تكن موقعة أو مختومة من أي جهة رسمية معروفة، ولم يُتح لفريق الدفاع الحصول على نسخة منها أو مناقشة مضمونها أمام المحكمة. وبرّر القاضي اعتماده على أوراق بلا توقيع بأنها هكذا “حفاظاً على سرية المصدر”، واعتبر محتواها “علماً قضائياً لا يحتاج لإثبات”!! هذا الإجراء الخطير خالف أبسط قواعد العدالة والإثبات، ويشكل توسّعاً غير مسبوق في تفسير مفهوم العلم القضائي المنصوص عليه في المادة 14 من قانون الإثبات السوداني 1994. فالمادة تُجيز للمحكمة أن تعتبر من الأمور الثابتة بديهةً ما هو معلوم للكافة ولا خلاف عليه، كحقائق عامة (مثال: الشمس تشرق من الشرق). أما الولاءات السياسية أو بقاء شخص في منطقة نزاع فهي وقائع خاصة قابلة للجدل ولا يمكن اعتبارها من “المعلوم للكافة” دون دليل. افتراض أن كل من بقي في مناطق سيطرة طرف الحرب متعاون معه هو تخمين سياسي خطير أشبه بدعاية حربية، ولا سند له من القانون. إنّ قبول القضاء بهذه الفرضية يعني إدانة ملايين المدنيين الأبرياء الذين اضطروا للبقاء في منازلهم خلال الحرب بدلاً من النزوح – فهل يُعقل اتهامهم جميعاً بالخيانة وإعدامهم؟!! 

 

المحامي الذي اختار البقاء مع الناس/ إنسان قبل أن يكون محامياً

(فمن هو المحامي أبوبكر منصور؟)

بعيداً عن تفاصيل الإجراءات، تحمل قضية أبوبكر منصور وجهاً إنسانياً بالغ الأثر يُنبّهنا بأننا أمام إنسان ومحامٍ كرّس حياته لخدمة الآخرين قبل أن يصبح ضحية لهذه المظلمة. أبوبكر في العقد السادس من عمره، وهو من أبناء مدينة سنجة حاضرة ولاية سنار. على مدى هذه العقود، بنى سمعة مرموقة كواحد من أبرز المحامين السودانيين المدافعين عن حقوق الإنسان. عُرف بشجاعته واستقامته ونزاهته، وباستعداده لتسخير وقته وموارده الخاصة في الدفاع عن المظلومين دون أي تطلّع للشهرة أو المنفعة.

في ظل نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، كان أبوبكر في طليعة المحامين الذين تصدوا للدفاع عن المعتقلين السياسيين والطلاب والنقابيين الذين طالتهم حملة القمع. وقد تعرض شخصياً لمضايقات أمنية واعتقالات متكررة بسبب مواقفه المبدئية وانحيازه لقضايا العدالة. لكنه لم يلن أو يتراجع، وظل ثابتاً على مبادئه مدافعاً عن حقوق الإنسان والحريات حتى سقوط ذلك النظام في 2019.

إلى جانب عمله القانوني، كان أبوبكر ناشطاً مجتمعياً بارزاً في سنجة. أطلق وقاد عدة مبادرات تطوعية لخدمة أهالي مدينته، منها حملة “نداء سنجة” لإغاثة المتضررين، ومشروع “إعادة تأهيل المدارس” في سنجة، ومبادرة “دعم الأسر الضعيفة” لمساعدة الفقراء. اكتسب تقديراً واسعاً بين مجتمعه لما أبداه من روح العطاء والتضحية، إذ كرّس وقته وماله لخدمة الناس دون انتظار مقابل.

وعندما اندلعت الحرب في 2023 ووصلت نيرانها إلى سنجة في 2024، تجلت إنسانية أبوبكر بأبهى صورها. فبينما فرّ كثيرون من جحيم المعارك، آثر البقاء بجانب والده المُسن وعدم التخلي عنه. وحين انهارت الخدمات الأساسية في المدينة المحاصرة، بادر مع مجموعة شباب متطوعين إلى إنشاء وحدة طبية صغيرة داخل منزله تقدم العلاج المجاني للمرضى الذين لم يتمكنوا من الفرار. جمعوا ما تيسر من أدوية مخزنة من صيدليات أسرهم، وحولوا البيت إلى أشبه بمستشفى ميداني لعلاج المصابين والمرضى وسط شح الموارد. وقد أكّد شهود كُثر أن هذه المبادرة أنقذت أرواحاً عديدة كانت مهددة بسبب غياب المستشفيات والأطباء في سنجة أثناء تلك الفترة. لذا ينظر أهل منطقته إليه كبطل شعبي قدّم يد العون في أحلك الظروف.

هذه الخلفية الشخصية تفسّر جانباً من استهداف السلطات لأبي بكر. فهو ليس مجرد محامٍ عادي، بل شخصية لها ثقل اجتماعي وسياسي. فهو عضو قيادي في حزب المؤتمر السوداني. وقد دفع ثمن مواقفه مراراً عبر الاعتقال والتنكيل. وعند اعتقاله عام 2024، عذّبوه بقسوة لمحاولة كسر إرادته وإجباره على الاعتراف بتهم ملفّقة. وحتى بعد أن صمد أمام التعذيب وافتضحت أساليبهم في قضيته، لفقوا له اتهامات خطيرة لا أساس لها كوسيلة للانتقام منه وإسكاته.

يصف زملاؤه في العمل الحقوقي “أبوبكر” بأنه شخص متفانٍ وشجاع، لم يتردد يوماً في خوض المعارك القانونية دفاعاً عن ضحايا الانتهاكات. تقول Front Line Defenders في تعريفه إنه قدّم المساعدة القانونية والدعم لمجتمعه طوال مسيرته، وأنه بعد اندلاع حرب 2023 “بقي في بلدته ليقدم الدعم الإنساني بتوزيع الأدوية مجاناً حين انهار النظام الصحي، وظل طوال حياته معارضاً سلمياً للحرب ومدافعاً عن حقوق الناس”. هذه السمعة الطيبة جعلته محبوباً في محيطه، ومكّنت حملة التضامن معه من حشد دعم شعبي واسع. فعند محاكمته الأولى، احتشد أهالي سنجة داخل المحكمة وخارجها تأييداً له حتى ضاقت بهم القاعة. وبعد صدور حكم الإعدام، انتظمت عدة حملات احتجاجية داخل وخارج السودان تطالب بإنقاذه، وازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي بالبيانات والمرافعات وبنداءات الاستغاثة لإنقاذ المحامي أبوبكر منصور.

القضية بالنسبة لرفاقه وتلامذته أعمق من كونها شأن فردي؛ إنها رمز لصراع الحق ضد الظلم. فهم يرون في أبي بكر قدوة للمحامي النزيه الجسور الذي دفع حياته ثمناً لتمسكه برسالته المهنية والإنسانية. لذا تتعالى أصوات زملائه بالقول إن إنقاذ أبي بكر ليس فقط إنقاذاً لرجل بريء، بل هو دفاع عن شرف المهنة القانونية ورسالة الدفاع عن المظلومين في السودان.

فحين غابت الدولة، ملأ الفراغ بنفسه وبيته، فحوّله إلى مركز إسعاف مجاني، لإنقاذ الأرواح، تلك هي «جريمة» أبوبكر التي أُدين بسببها بالإعدام. إنه “رجل لا يساوم على المبدأ حتى حين يكون الثمن حياته”. فلم يكن أبوبكر مجرّد محامٍ في أوراق النقابة، بل صوتاً للضمير الوطني، وواحداً من الذين اختاروا البقاء إلى جانب الناس في لحظة انهيار الدولة، يقدم الدواء والنجدة في مدينةٍ تحاصرها الحرب، فجازاه النظام القائم بالمشانق بدل التكريم.

 

تحليل قانوني: انتهاكات صارخة للدستور والقانون الدولي

مثّلت محاكمة أبوبكر منصور مثالاً صارخاً على دهس القانون وانتهاك الحقوق الأساسية. فقد اجتمعت فيها سلسلة من الخروقات الجسيمة للإجراءات والضمانات، سواء في القانون السوداني نفسه أو في التزامات السودان الدولية بموجب معاهدات حقوق الإنسان. فيما يلي أبرز الانتهاكات القانونية والحقوقية:

انتهاك قاعدة “لا يضار المستأنف باستئنافه”، كما أسلفنا

إساءة تفسير القانون وتسييس الأدلة:

بنيت إدانة أبوبكر بشكل كبير على افتراضات أيديولوجية لا على وقائع مثبتة. إذ اعتبرت المحكمة مجرد وجوده في مدينة تحت سيطرة قوات متمردة دليل إدانة قاطع، وحوّلت الظن إلى حقيقة قضائية دون بينة. هذا التأويل الخاطئ للمادة 14 من قانون الإثبات (العلم القضائي) يتعارض مع نص القانون وروحه. فالقاضي سوّغ عدم حاجته لإثبات التعاون بأن “الأمر معلوم للكافة”، في حين أن انتماء شخص أو ولاءه السياسي ليس حقيقة عامة، بل استنتاج سياسي منحاز لا مكان له في ميزان العدالة. وبذلك انتهكت قرينة البراءة الدستورية في العالم (الوثيقة الدستورية 2019 تنص على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بعد محاكمة عادلة)، حيث انطلقت المحكمة من فرضية أن أبوبكر متهم وخائن سلفاً بدلاً من إثبات ذلك قانوناً. كما خالفت المبدأ الجنائي الأساسي بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ولا يُسأل شخص عن فعل لم يكن جريمة وقت ارتكابه. لقد أُدين أبوبكر دون إثبات ركن مادي أو نية إجرامية محددة، إذ أن توزيع الأدوية على المدنيين ليس جريمة ولا يمس النظام الدستوري أو أمن الدولة. وهكذا جرى تفصيل القانون لمعاقبة فعلٍ خيري مشروع عبر وصمه زوراً بالتعاون مع المتمرّدين.

انتهاك حق الدفاع والمحاكمة العادلة:

شهدت هذه القضية انتهاكاً فاضحاً لحق المتهم في الدفاع عن نفسه بواسطة محامٍ من اختياره كما يكفله الدستور السوداني (وثيقة الحقوق 2019 المادة 52/6) وجميع المواثيق الدولية. فعلى الرغم من أن قانون الإجراءات الجنائية السوداني يلزم المحكمة بانتداب محامٍ في القضايا التي عقوبتها الإعدام إذا لم يكن للمتهم محامٍ حاضر، عُقدت جلسة النطق بالحكم بالإعدام في غياب محامي أبوبكر دون توفير بديل. لقد اعتُقل محاميه قبل أيام وتعمدت المحكمة استعجال الجلسة دون إخطار البقية، ما حرم المتهم فعلياً من أي تمثيل قانوني في لحظة مصيرية. هذا الإجراء يبطِل المحاكمة شكلاً وموضوعاً لمخالفته القانون. كذلك مُنع أبوبكر من التشاور مع محاميه بحرية قبيل الجلسة، في خرق واضح لمبادئ الأمم المتحدة بشأن دور المحامين والمبدأ الذي يكفل للمحامين حق التواصل الحر والسرّي مع موكليهم. كما إن اعتقال المحامي أبوبكر الماحي قُبيل المحاكمة هو مثال فجّ على ترهيب المحامين بسبب قيامهم بواجبهم المهني، وينتهك المبدأ الذي يوجب على الحكومات حماية المحامين من أي تدخل أو مضايقة عند أداء عملهم. وقد حذرت نقابات قانونية دولية من أن هذه الممارسات تبعث رسالة تخويف خطيرة لسائر المحامين وتعرقل استقلالية مهنة المحاماة في السودان.

هيمنة الأمن على القضاء وتقويض استقلاله:

شكّلت قضية أبوبكر نموذجاً لتغلغل الأجهزة الأمنية في العمل القضائي، في انتهاك لمبدأ استقلال القضاء المكفول دستورياً (الوثيقة الدستورية 2019 تنص على استقلال السلطة القضائية وحظر أي تدخل في عمل القضاء). فمنذ البداية تم انتداب قاضٍ من منظومة الطوارئ خصيصاً لهذه القضية ذات البُعد السياسي، بدل مثول المتهم أمام قاضيه الطبيعي المستقل. ثم جاء اعتقال جهاز الأمن لمحامي الدفاع والتلاعب بمواعيد المحكمة كأدلة صارخة على تدخل تنفيذي مباشر في مجرى العدالة. وإضافة لذلك، اعتمدت المحكمة على تقارير أمنية سرية لم يُعرف مصدرها، مسنِدةً إليها حكم الإعدام. هذه كلها مظاهر قضائية مشوّهة توحي بأن القرار صدر تحت إملاءات أمنية لا وفق استقلالية ونزاهة مفترضة. وبذلك أخفق السودان في الالتزام بواجباته الإقليمية بموجب الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب – الذي صادق عليه – وتحديداً المادة 7(1) التي تكفل حق التقاضي العادل بما في ذلك وجود محام، والمادة 26 التي تلزم الدول بضمان استقلال القضاء. لقد انتهك السودان صراحةً هاتين المادتين بعدم توفير محاكمة علنية عادلة لأبي بكر وبفشله في صون محكمته من التدخلات الأمنية.

حكم بالإعدام بعد محاكمة جائرة – انتهاك الحق في الحياة:

إن إصدار عقوبة الإعدام في ظل هذه الخروقات يجعل من تنفيذها حرماناً تعسفياً من الحق في الحياة، ويُصنّف كإعدام خارج إطار القضاء. فالمادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (الذي انضم إليه السودان) تنص على أن الحق في الحياة حق أصيل ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً، ولا تُفرض عقوبة الإعدام إلا في أخطر الجرائم وبعد محاكمة عادلة نهائية أمام محكمة مختصة. كما تشترط المعايير الدولية أعلى درجات مراعاة الأصول القانونية في قضايا العقوبة القصوى. وفي حالة أبوبكر منصور، جرت محاكمة مليئة بالعيوب الجوهرية: اختفاء قسري وتعذيب في الاحتجاز (مما يخرق حظر التعذيب المطلق في المادة 7 من العهد الدولي)، وحرمان من التواصل مع محامٍ في مرحلة التحقيق، واعتقال محاميه الرئيسي قبل المحاكمة وانعقاد جلسة الحكم دون أي دفاع، والاعتماد على بينات سرية أحادية المصدر. كل واحدة من هذه الانتهاكات تنتهك الحد الأدنى من ضمانات المحاكمة العادلة المنصوص عليها في المادة 14 من العهد الدولي، والتي تشمل حق المتهم في أن يُفترض بريئاً، وفي أن يُحاكَم حضورياً أمام محكمة مستقلة ونزيهة، وأن يتمكن من إعداد دفاعه ومناقشة الشهود والأدلة المزعومة. وقد أكدت اللجنة الأممية المعنية بحقوق الإنسان (في تعليقها العام رقم 32) أنه في قضايا الإعدام، أي إخلال بمعايير المحاكمة العادلة يجعل تنفيذ العقوبة انتهاكاً خطيراً للحق في الحياة. وبناءً على ذلك، اعتُبر حكم الإعدام الصادر ضد أبوبكر – إن نُفذ – بمثابة إعدام خارج نطاق القضاء بحكم القانون الدولي. وقد شدّدت الأمم المتحدة على أن أي حُكم إعدام يصدر إثر محاكمة جائرة يجب إلغاؤه فوراً.

مجمل القول، انعدمت الشرعية عن هذه المحاكمة من أساسها. فهي باطلة دستورياً وقانونياً لانتهاكها مواد الوثيقة الدستورية 2019 (قرينة البراءة، حق الدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى