لماذا يرفضون السلام؟

بقلم : الزين عثمان 

أسبوع آخر ينقضي في سودان الحرب، وحكايات أخرى عن صمود شعب لم يعد يمتلك رفاهية “الانهيار”، يخوض معركته من أجل الحياة في قلب الموت، يتقلب في نيران الوجع دون أن يسقط أمله في سودان ما بعد مجازر وانتهاكات الفاشر.

يرفض المؤثر السوداني في تيكتوك “كارتا” الانصياع للضغوط وهي تطالبه بضرورة الانخراط في الحرب ودعم أحد طرفيها، يقول ببساطة: “أنا أمي بتريدني، ومن سقطوا في الفاشر أمهاتهم يحملون لهم الحب ذاته، لن أدعم الموت ولن أسقط في بئر خطاب الكراهية”.

وقتها لم يكن الدرامي السوداني “سيد صوصل” يؤدي مشهدًا تمثيليًا حين انخرط في موجة بكاء طويلة، وهو يستدعي مشهدًا يجسد إحدى أبشع صور الحرب التي تمزق السودان، لطفل يحاول الرضاعة من ثدي والدته الميتة. يقول صوصل إنه يؤمن بحقيقة الموت، لكنه يرفض الموت المصنوع عبر الحرب، ويرفع أكف الضراعة بأن تنتهي في هذه اللحظة .

لكنهم وكلما جاءت سيرة السلام تحسسوا “بنادقهم”، ورفعوها في وجه الكل بعد أن يحشوها بطلقات “التخوين والعمالة للخارج والجبن”، يخوضون معاركهم من أماكنهم الآمنة. تفعل آلة الموت فعلها في الفاشر أو تعيد الانتهاكات ذاتها القديمة في مكان جديد ويتردد ذات صوتهم في الفراغ “بل بس”.

في بلاد تمضي نحو انهيارها بخطى متسارعة يصبح الجدال حول صراع موقف “بل بس” وموقف “لازم تقيف” ترفًا قد لا تحتمله اللحظة، وهي لحظة سرعان ما تعيد طرح سؤالها “لماذا يرفضون السلام؟”.

في الأخبار: وافـق القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، على مقترح تقدمت به الرباعية يقضي بإعلان هدنة إنسانية تمتد لثلاثة أشهر وتخضع لرقابة دولية.

وبحسب مصادر متطابقة تحدثت لـ”أفق جديد”، بينها دبلوماسي غربي، فإن الطرفين طلبا مهلة للتشاور مع حلفائهما قبل التوقيع النهائي، موضحة أن وفدي الدعم السريع والقوات المسلحة لا يزالان في واشنطن، وأن جميع التفاصيل الفنية تم الاتفاق عليها، فيما تبقى فقط “الإرادة السياسية”، وفق ما نقل مصدر سياسي سوداني مطلع على مجريات التفاوض غير المباشر الجارية في العاصمة الأمريكية.

من جانبه، قال كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون الأفريقية مسعد بولس في تصريح لقناة سكاي نيوز عربية: “نتواصل مع الطرفين للتوقيع على مقترح الهدنة الإنسانية الذي عرضناه عليهم”، كاشفًا عن أن التفاوض وصل إلى نقاط متقدمة. ودعا بولس الطرفين للتوقيع على الهدنة، فليس هناك ترف لإضاعة الزمن أو مبررات للتأخير :

التداول الكثيف حول إمكانية حدوث “هدنة” إنسانية يلتقط من خلالها المدنيون أنفاسهم المرهقة بفعل الانتهاكات، وتجد المساعدات طريقها للوصول إليهم، ولد في المقابل ردود أفعال رافضة لها من قبل كثيرين، إذ الخبر لا يبدو في الهدنة وإنما في موافقة أطراف النزاع عليها وفي معسكر الجيش، الخبر دائمًا ما كان في موافقة رئيس مجلس السيادة عليها. 

بعد ساعات من انتشار خبر “الهدنة” التي دخلت مراحلها الأخيرة، بحسب ما نقلت مصادر، خرجت وسائل إعلام مقربة من الإسلاميين لتؤكد على لسان مصادر من مجلس السيادة أن خبر الهدنة المتداول عارٍ من الصحة، وأن الخيار المفضل هو خيار الاستمرار في “بل بس”.

يقول الصحفي الإسلامي عبد الماجد عبد الحميد: “الحديث عن توقيع هدنة بين القوات المسلحة السودانية ومليشيات وعصابات التمرد غير صحيح، هنالك ضغوط أمريكية مكثفة على الحكومة السودانية للقبول بهدنة تسوّق لها واشنطن تحت ذرائع إنسانية. هذه الضغوط تخفي وراءها تمريرًا ناعمًا للقبول بالأمر الواقع في مسارح العمليات تمهيدًا لخطوات قادمة. دوائر الداعمين للمليشيات تقوم بتدوير الحديث عن هدنة وهو عين ما تطلبه عصابات التمرد”.

فيما يصرح الصحفي عثمان ميرغني: “هنالك شعبان: الشعب السوداني في إسطنبول يرفض السلام والآخر في السودان يكتوي بنار الحرب وحمى الضنك يريد السلام”، وهو الحديث الذي يشير بشكل واضح لمن يرفضون السلام في السودان، وهي الجماعات الإسلامية من منسوبي النظام السابق الذي أطاحت به الثورة، وهي المجموعة التي توضح الإجابة عن سؤال لماذا يرفضون السلام، وفي الوقت نفسه يتحسسون بنادقهم كلما لاح في الأفق بصيص أمل؟ 

مكنت الحرب السودانية المشتعلة منذ عامين ونصف العام فلول النظام السابق من استعادة مكانهم في كابينة السلطة، وهو ما لم يكن دون قيام الحرب، التي تُتهم الحركة الإسلامية ومكوناتها بالضلوع في إشعالها لدرجة أن بيان الرباعية في سعيه لإيجاد حلول اشترط إبعادهم كضرورة لتحقيق الاستقرار في السودان، وهو الأمر الذي يبرر لماذا يرفضون السلام ويحشدون في المقابل من أجل استمرار الحرب، وذلك عبر الاستمرار في إعادة رسم سيناريوهات إعلان التعبئة العامة وإعادة فتح المعسكرات في المدن السودانية، وهو أمر ارتبط أيضاً بالدعوة المباشرة لرفض “الهدنة” لكونها محاولة لإعادة تموضع الدعم السريع ومناصريه من أجل إعادة كرة الحرب بصورة أكثر شراسة.

قد يبدو مفهومًا ومنطقياً أن يواجه الإسلاميون ومنسوبو النظام المحلول وقائمة طويلة من المستفيدين من الحرب الدعوة لوضع نهاية لها واعتبار “الهدنة” دعوة حق أريد بها باطل، لكن ما يثير الدهشة هو أن آخرين انخرطوا في هذا المنحى وبشدة معلنين رفضهم الهدنة وتسوية النزاع بالوصول للسلام، مستندين في ذلك على تداعيات ما حدث في الفاشر، وبالطبع الإشارة إلى الانتهاكات التي يرتكبها الدعم السريع واستحالة التعايش معه مستقبلاً والقبول بوجوده في المشهد السياسي للسودان، وهو أمر يفسره البعض بأنه جاء نتاجاً للدعاية الإعلامية المتزامنة مع الحرب، وهي الدعاية التي تمت صناعتها في مطابخ المجموعة ذاتها من سودانيي أسطنبول ممن يرفضون “الهدنة” لإيقاف الحرب، ويرفضون أيضاً مغادرة “هدنة” أماكنهم الآمنة ويزجون بأبناء السودان نحو جحيم الموت يغازلهم فقط حلم العودة إلى نعيم السلطة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى