مسعد بولس .. رواية ما لم يُرو

بقلم : شوقي عبد العظيم
في لقاء لم يتعدَّ نصف ساعة، كشف مستشار الرئيس الأمريكي مسعد بوليس عن شيء من الغموض الذي يكتنف المحادثات التي تدور في واشنطن. وقبل تفاصيل اللقاء، من المهم الإشارة إلى منهج حكومة بورتسودان في علاقتها مع الرأي العام الداخلي، الذي يقوم على تغييبه عبر سرية التحركات، ودفع أبواق إعلامية لتغبيش الحقائق وتضليل الرأي العام. والشواهد على منهج الحكومة كثيرة، وكلنا نذكر لقاء القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان مع مسعد بوليس نفسه في سويسرا، وقبله مفاوضات المنامة، والتي لم يخرج الإعلام الرسمي ليخاطب المواطن في الداخل بشفافية عمّا جرى في هذه اللقاءات، أو قال إنها لم تحدث. وما كشفه بوليس هو أن هنالك وفودًا موجودة في واشنطن من الجيش والدعم السريع، تناقش تفاصيل هدنة إنسانية مدتها ثلاثة أشهر بعد أن رحّبوا بها جميعًا – الجيش والدعم السريع – على حد قوله.
بعد أن أعلنت المسؤولة عن تنظيم وإدارة اللقاء بين الصحفيين ومسعد عن فرصة سؤال واحد لكل صحفي، كان السؤال المباشر عمّا يدور في واشنطن، وتحديدًا عن الأخبار التي رشحت بخصوص التشاور حول الهدنة الإنسانية. ولم يتحفّظ بوليس في أن يقول: “هناك وفد من الجيش ووفد من الدعم السريع في واشنطن، ونحن نتشاور معهم حول هدنة إنسانية”، واستطرد يشرح أهمية التدخل الإنساني العاجل وضرورة الهدنة الإنسانية. سألناه عن أي طرف متعنت أو ممانع في قبول الهدنة، فأعاد علينا أن كليهما “مرحب وموافق” على الهدنة، وأنهم الآن يعملون على ترتيب التفاصيل المتعلقة بتنفيذ الهدنة على الأرض من دعم لوجستي وتفاصيل المراقبة.
اللافت خلال اللقاء حرص بوليس على تسمية ما يجري في واشنطن بـ(المشاورات) أو (الاجتماعات)، وحرصه في ذات الوقت على تكرار عبارة (لم ندعُ إلى مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة). وبحسب تقدير كثيرين، فإن حرصه هذا نابع من طريقة تعاطي الجيش مع الملف، وكلنا نشاهد قادة الجيش في المنابر العامة وفي المناسبات الاجتماعية يعلنون على رؤوس الأشهاد أن “لا تفاوض مع المليشيا” على حد قولهم. ويخشى بوليس، حال أطلق الاسم الصحيح “مفاوضات” على ما يجري في واشنطن، غضبة الجيش وربما انهيار جولة التفاوض. فهو، على طريقة الرئيس، لا يهتم بالمسميات والبروتوكولات، ولكن يهتم بالنتائج.
قطعًا السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح في هكذا لقاء هو: هل سيتوصل الطرفان إلى اتفاق؟ أو بطريقة أخرى: هل ستنجح المفاوضات في تحقيق هدنة إنسانية لوقف الحرب ثلاثة أشهر على الأقل؟
وعند هذه النقطة استخدم بوليس الحذر الدبلوماسي، وبدأ الإجابة بأنهم في الولايات المتحدة، وكذلك الرباعية، حريصون على أن تحقق “المشاورات” هدنة إنسانية، وأن الأطراف – الجيش والدعم – مرحّبون ومنخرطون في المشاورات، وأنهم في مرحلة التفاصيل. ومضى مسعد موضحًا بأنهم قدموا مقترحات للطرفين، وأن كل طرف عكف على دراستها، وأن الوفود وصلت إلى واشنطن منذ مدة “أكثر من أسبوع” على حد قوله. في نهاية الأمر، فضّل كبير المستشارين تقديم إشارات على أن “التشاور” حول الهدنة الإنسانية ماضٍ، وفي الغالب يحقق نتائج إيجابية، على تقديم تعهدات قطعية ربما، حال حدوث طارئ، تهدد مصداقيته ومصداقية إدارته بكاملها.
من الموضوعات الهامة التي جرى تناولها خلال اللقاء، سؤال طرحه أحد الصحفيين، ينطوي على تأنيب للإدارة الأمريكية عن صمتها على دور دولة الإمارات في الحرب ودعمها لقوات الدعم السريع، وكذلك يتعدى اللوم أمريكا إلى مبادرة الرباعية التي لم تُراعِ أن الإمارات “داعمة” للحرب من خلال ما تقدمه للدعم.
إجابة مسعد كانت مباشرة وربما غير متوقعة، عندما قال: “ليست الإمارات وحدها التي تتدخل في هذه الحرب، دول كثيرة متدخلة، وكل الجانبين يتلقى دعمًا خارجيًا”. واتخذ من دعم إيران للجيش السوداني شاهدًا، وقال: “إيران تدعم الجيش السوداني”، واستطرد: “بحسب علمنا، فإنها أوقفت الدعم”. ثم استثمر المنبر للتذكير بأن حرب السودان حرب مدمرة ولها عواقب وخيمة، ويجب أن نتحدث فيها إلى جميع الأطراف، ومن بينهم الإمارات بطبيعة الحال، لصالح حل الأزمة. وأضاف في محاولة لرفع اللوم عن كاهل الإدارة الأمريكية والرباعية على حد سواء: “في الرباعية قلنا صراحة بضرورة توقف الدعم الخارجي لأطراف الحرب”.
“لماذا لم تصنفوا الدعم السريع منظمة إرهابية؟” بناءً على ما ارتُكب من جرائم في الفاشر وغيرها، والمعنيون في السؤال هم الأمريكيون، أو بالأحرى “الإدارة الأمريكية”. خلال الإجابة، تجلت واقعية مسعد، وبصورة أدق واقعية إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وكاد أن يقول: “كيف نصنفه إرهابيًا ونحن ندعوه للتفاوض؟” ومن المعلوم أن القانون الأمريكي يمنع التفاوض مع الجماعات والكيانات المصنفة من قبل أمريكا بأنها “إرهابية”.
وعاد مسعد في إجابته إلى حديثه السابق بأن إيقاف الحرب هو الأولوية في هذه المرحلة، واصفًا الصراع في السودان بأنه الأسوأ، والذي خلّف كوارث إنسانية قبيحة. وفي محاولة لتقليل الضغط على الإدارة الأمريكية، ذكّر الحاضرين بالعقوبات التي فرضتها الخزانة الأمريكية على شخصيات في الجيشين، وهم قادة مهمون على حد قوله.
في آخر اللقاء، طُرح سيناريو التقسيم، والذهاب إلى النموذج الليبي حال فشلت المفاوضات أو “المشاورات” بحسب تسمية مسعد لها. أشار مستشار ترامب صراحة إلى أنهم مع وحدة السودان، وأن الرباعية تعمل على تجنب تقسيم البلاد المنهكة بسبب الحرب. وقال إن المخاوف من التقسيم أصبحت مقلقة بعد سيطرة الدعم السريع على الفاشر، وضرورة العمل على أن يظل السودان بلدًا موحدًا.
ما أراد أن يقوله مستشار ترامب في لقائه مع عدد من الصحفيين السودانيين، هو أن مبادرة الرباعية تمضي إلى الأمام، وأن حراك الإدارة الأمريكية تجاه السودان بدعم كبير من الرئيس دونالد ترامب، والأهم من ذلك أن واشنطن تحتضن ممثلين للأطراف المتصارعة “يتناقشون” حول مرحلة جديدة عنوانها “هدنة إنسانية”، مفندًا الدعاية التي يطلقها قادة الجيش وقادة حكومة بورتسودان على رؤوس الأشهاد بأن “لا تفاوض”، مؤكدًا أن حرب السودان لن تنتهي إلا بالجلوس إلى طاولة مفاوضات، وقد بدأ هذا فعليًا في واشنطن.





