رغما عن تصريح ترامب المستفز ..

السودان في قلب الاستراتيجية الأمريكية

محمد أحمد شبشة

السودان، الدولة التي كثيراً ما يُنظر إليها على أنها ضحية للصراعات الداخلية، ليس مجرد رقعة جغرافية في خارطة أفريقيا، بل مفتاح استراتيجي بامتياز في حسابات الولايات المتحدة. عندما يتحدث دونالد ترامب عن “اكتشافه السودان عبر وسيط”، فهو لا يلقي كلمات فارغة، بل يعكس خطاباً سياسياً محكماً، لكنّه يغفل الحقائق التي تعكس عمق العلاقة الأميركية-السودانية على مرّ عقود.

منذ التسعينيات، كان السودان موضع مراقبة أمريكية دقيقة، ليس فقط لأنه بلد كبير جغرافياً، بل لأنه نقطة مركزية في شبكة المصالح الأمنية والاقتصادية الأميركية. فالسودان جغرافياً يشرف على شريط مهم من ساحل البحر الأحمر، وهو ممر بحري حيوي عالمياً. هذا البحر، الذي يربط الشرق بالإفريقى، يمثل نقطة عبور استراتيجية للتجارة والطاقة، وهو ما يجعل استقرار السودان أمرًا ذا أولوية بالنسبة لواشنطن، التي لا تغفل عن أي تهديد يمكن أن يزعزع أمن هذا الممر. 

لكن الأهمية الأميركية للسودان لا تقتصر على الجغرافيا؛ فهي تمتد لتشمل ملف الإرهاب والاستخبارات. ففي الماضي، تعاون جهاز المخابرات السوداني مع الولايات المتحدة لتبادل معلومات حول شبكات “القاعدة” التي تواجدت في السودان في التسعينيات، وهي معلومات أرادها الأمريكيون بشدة بعدما ضربت القاعدة السفارات الأمريكية في نيروبي ودار السلام عام 1998. وبعد تلك التفجيرات، نفّذت واشنطن ضربات صاروخية على مصنع الأدوية “الشِفاء” في ضواحي الخرطوم، وهو ما يُعرف بعملية “Infinite Reach”. 

ثم يأتي الملف الأخطر: الإرهاب. في ديسمبر 2020، أزالت إدارة ترامب السودان رسميًا من قائمة “الدول الراعية للإرهاب” بعد اتفاق لتعويض ضحايا تفجيرات السفارات الأميركية، بلغت قيمته 335 مليون دولار.  هذا القرار لم يكن مجرد خطوة رمزية، بل أتاح للسودان العودة تدريجيًا إلى النظام المالي الدولي، وحمل في طياته دلالة سياسية كبيرة على رغبة واشنطن في إعادة توازن علاقاتها مع الخرطوم. 

بالمقابل، يبدو أن ترامب وظّف هذا القرار ضمن خطاب سياسي مدروس: في تغريدة له، أعلن أنه سيرفع تصنيف السودان من القائمة بمجرد دفع التعويض، ملمحًا إلى أن هذه الخطوة ليست مجرد تصحيح تاريخي، بل إنجاز سياسي بامتياز.  وكان جزء من الاتفاق يقضي بمنح السودان حصانة قانونية من دعاوى لاحقة تتعلق بتفجيرات السفارات، في ما وصفه بعض المراقبين بأنه صفقة دبلوماسية معقدة تحمل تبعات قانونية وإستراتيجية معًا. 

لكن لماذا تبدي واشنطن هذا الاهتمام؟ الجواب يكمن في استراتيجيتها الأوسع: السودان ليس “تابعًا”، بل شريك. فهو يوفر أداة مراقبة جغرافية، قاعدة استخباراتية، وعامل ضغط محتمل في ملف الهجرة والتهريب. علاوة على ذلك، لعب السودان دوراً في محاولات الحد من الهجرة من القرن الإفريقي عبر اتفاقات مع الغرب، ما جعله لاعباً مهماً في سياسات الهجرة التي تشغل دولاً كبرى. ولا يمكن تجاهل الأثر الاقتصادي للسودان أيضاً: موارده من الذهب والزراعة والصمغ العربي تضيف بعداً استثمارياً لا يستغنى عنه في رؤية واشنطن طويلة المدى.

وفي هذا السياق، تُعد تصريحات ترامب “المبالغ فيها” جزءًا من لعبة دبلوماسية: دعوة للاستفادة من العلاقات، تشييد لدور الوسيط، وتسويق لانطباع بأن السودان “اكتُشف” حديثًا، في حين أن ما يجري في الواقع هو ترتيب لخارطة مصالح قديمة–جديدة.

في المقابل، على الساسة السودانيين أن يدركوا أن ردود الفعل العاطفية أو الرد بالمثل قد تخسر البلاد الكثير من الفرص الاستراتيجية. فالتحدي لا يكمن في مجرد الوقوف ضد تصريحه، بل في إدارة العلاقة بذكاء: استقبال المبادرات الحقيقية، رفض الوصاية، والحفاظ على الكرامة السيادية.

إذا أراد السودانيون أن يعيدوا كتابة مستقبلهم، فليكن ذلك عبر خطاب واضح، دبلوماسي وواعٍ، لا ينطوي على ذل ولا تهاون، بل ينطلق من فهم عميق لتاريخهم ومكانتهم الجيوستراتيجية. فالعالم بحاجة إلى السودان، وكذلك السودان بحاجة إلى مخاطبة العالم من موقع قوة.

 

المراجع

  1. “US ends Sudan’s pariah status by removing country from terrorism list.” The Guardian. 
  2. “US removes Sudan from ‘state sponsors of terror’ list.” Al Jazeera. 
  3. Max Bearak & Naba Mohieddin, “Sudan removed from U.S. terrorism sponsors list.” The Washington Post. 
  4. “US to remove Sudan from State Sponsors of Terrorism list: Trump.” Al Jazeera. 
  5. “US removes Sudan from terrorism blacklist in return for $335m.” The Guardian. 
  6. “US Removes Sudan from State Sponsors of Terrorism List.” Asharq Al-Awsat. 
  7. “US removes Sudan from terror sponsors list.” DW. 
  8. “محدودية الدور.. هل تملك الولايات المتحدة أدوات التأثير في الأزمة السودانية؟” المرصد. 

 . “تداعيات التطورات في السودان على دول الجوار وأمن البحر الأحمر.” مركز الجزيرة للدراسات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى