من ساحات الفداء إلى ساحات الإنسحاب

حيدر المكاشفي

حيدر المكاشفي

شاهدت فيديو مبذول في منافذ السوشيال ميديا، يوثق للحظة استقبال عناصر الجيش السوداني (المنسحبين) أو ان شئت (الفارين) من حروب غرب كردفان (حربي بابنوسة وهجليج) الى داخل حدود دولة جنوب السودان، وفي الفيديو يظهر أحد جنرالات جيش جنوب السودان وهو يرحب بالجنود السودانيين وقادتهم، وإلى هنا يبدو الأمر عادي وطبيعي، ولكن كان اللافت للنظر والمثير للإنتباه، أن لحظة الاستقبال كانت تصاحبها موسيقى الجيش السوداني التي كان يستخدمها مع البروجي برنامج ساحات الفداء كمقدمة وعنوان ثابت له، والمعروف ان هذا البرنامج كان يبث من تلفزيون السودان خلال حرب الجنوب الجهادية التي ولغ فيها النظام البائد باسم الدين ضد ما اسموه الكفر والزندقة والالحاد، ومعلوم أيضاً ان ذلك البرنامج كان يحتشد بقصص الدجل والخرافة والتهريج والتضليل باسم الدين، وأعراس الشهيد والقرود التي تنزع الالغام والغزالة التي جاءت بقدميها للمجاهدين وجثت على ركبتيها وطأطأت رأسها وقالت لهم اذبحوني وتغذوا من لحمي، هذا غير أباطيل روائح المسك التي تفوح من جثامين ضحايا التضليل والتدليس السياسي، وغيرها من قصص الاستهبال الديني من شاكلة ان جنوداً من الملائكة تصطف الى جانبهم وتقاتل معهم الكفرة الفجرة، وقد وفر هذا الدجل مادة خصبة للساخرين فنسجوا على ضوئها عشرات النكات الساخرة، ولكن رغم قتال الملائكة معهم حسب زعمهم لم ينتصروا في الحرب ويخضعوا الجنوب لسلطان الدولة، بل انتهى بهم الامر الى توقيع اتفاقية نيفاشا التي أدت في المحصلة الى ذهاب الجنوب لحال سبيله واقامة دولته المستقلة، لتروح مئات الالاف من ارواح الشباب والجنود في الحرب سدى وعبثا..

كان اللافت والمثير في استقبال الجنود السودانيين وقادتهم، هو كما جاء في الفيديو المار ذكره، أن تصحب لحظة الاستقبال بث موسيقى برنامج ساحات الفداء، في لحظة بدت أقرب إلى المفارقة التاريخية منها إلى أي عمل إعلامي عابر، فقد كان المشهد حافلاً بالرمزية، ومحملاً بقدر من السخرية السياسية لا يمكن أن يتجاهلها أي متابع للشأن السوداني منذ تسعينيات الحرب الأهلية، فبرنامج (ساحات الفداء) لم يكن برنامجاً عسكرياً عادياً، بل كان أداة مركزية في ماكينة الدعاية الأيديولوجية للحركة الإسلامية السودانية وكان عقيدتهم الاعلامية والثقافية. في ذلك الزمن، كانت تلك الموسيقى نفسها التي بثت من جنوب السودان تستخدم للحشد ضد الجنوبيين، ولبث خطاب تكفيري وعنصري مهد لسنوات طويلة من الكراهية والقتل والتعبئة العقائدية للجنود والشباب السوداني، وكان البرنامج يصوِّر الجنوبيون في خطاباته كـ(كفارأعداء الله)، ومتمردين تجب إبادتهم ويعتبرهم مشاريع نصر جهادي، وكانت كاميرات البرنامج تتباهى بعرض القتلى والأسرى بطرق مهينة لا تليق بإنسان. المفارقة اليوم أن موسيقى البرنامج ذاتها بثت في المشهد المضاد تماماً، إذ كانت تستخدم للتحريض على القتال فأصبحت تستخدم لاستقبال المنسحبين من القتال. نشيد كان يستدعى لرفع معنويات الجيش السوداني والمجاهدين، فصار خلفية لمشهد انسحابه في ساحة كانت مسرحاً لجرائم النظام البائد الماضية. وما كان رمز تعبئة جهادية ضد الجنوبيين، أصبح يوظّفه الجنوبيون ليؤمّنوا سلامة جنود كانوا يوماً ما أداة قتل ضدهم. وهكذا قلب التاريخ المعادلة، إنه انقلاب رمزي على مشروعٍ كامل مشروع ادعى النقاء، واحتكر الوطنية، وحول الدين إلى ذخيرة، ، وليس على موسيقى برنامج فحسب، فالآلة الدعائية التي استخدمت في تأجيج الكراهية، تُوظَّف اليوم كمعزوفة لانسحاب وانهيارٍ سياسي وعسكري. فالمشروع الذي غذى الحرب في السودان لعقود، انتهى إلى الفرار ذات يوم الى الأرض التي كان يحشد أتباعه لقتالها. وأن يستخدم جيش جنوب السودان موسيقى برنامج ساحات الفداء لا يشير فقط إلى سخرية تاريخية، بل إلى انتصارٍ أخلاقي وسياسي عميق، ذلك ان الجنوبيين الذين وصِفوا لعقود بما يهين إنسانيتهم، هم اليوم من يعاملون المنسحبين بما لم يعاملهم به خصوم الأمس. إنها اللحظة التي ينتصر فيها الإنسان على خطاب الكراهية. فهناك هزائم تقاس بالخسائر العسكرية، وهناك هزائم تقاس بالمعنى. فظهور موسيقى ساحات الفداء كخلفية لإنسحاب الجيش السوداني، يكفي وحده كشهادة تاريخية على إنهيار مشروع استند إلى الدم والفتنة وتزييف الوعي. فالرموز التي بنيت عليها آلة الدعاية الإسلامية تفككت أمام أول اختبار جدي، وانهار معها الخطاب الذي لطالما ادّعى النصر والتمكين. ولم يكن أكثر المحللين جرأة ليتخيل يوماً أن تعود موسيقى ساحات الفداء بهذه الصورة. إنها لحظة مكتملة الشماتة السياسية والعسكرية، لحظة تقول للخطاب الجهادي صنعتم موسيقى للحرب فصارت موسيقى لتقهقركم، وهكذا هي السياسة السودانية تدور دوراتها الثقيلة، وتعيد إنتاج مشاهد لا تخطر على البال. فالجنود الذين غذّيت عقولهم بهذا النشيد سنين طويلة، وجدوا أنفسهم يسمعونه من جديد، لا ليهتفوا بالحرب، بل ليوقعوا على وثيقة انسحابهم بصمت. ويبقى الدرس الأهم أن الحرب مهما تم تجميلها إعلامياً لا تصنع مشروعاً، ولا تحمي سلطة، ولا تبني وطناً. وأن كل خطاب قائم على الكراهية يعود يوماً ليسقط فوق رؤوس أصحابه..و.. لا للحرب ولا لكل آلة دعائية عُبّئت بالكذب حتى اختنقت بموسيقاها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى