النفط أهم من الدم: هجليج تفضح قيادة الحرب وصفقاتها

*رضوان بلال*
لم يكن انسحاب الجيش من هجليج حدثًا عسكريًا معزولًا، بل لحظة كاشفة لطبيعة القرار السياسي الذي يحكم هذه الحرب. ففي الوقت الذي كانت فيه الدماء تُسفك على امتداد الجغرافيا السودانية، جرى إبرام اتفاق ثلاثي بين الجيش والدعم السريع ودولة جنوب السودان، اتفاق خاطف لم يستغرق وقتًا ولا مشاورات ولا نقاشًا عامًا. سرعة التوقيع وحدها كانت كافية لتأكيد الحقيقة القاسية: النفط كان أهم من الدماء. من أجل البترول تُطوى الخصومات، وتُدار الخلافات بين أعداء الأمس، بينما يُترك المواطن وحده في مواجهة القتل والنزوح والانهيار.
وهنا يبرز السؤال الأخطر: أين ذهبت الشروط التي وضعتها قيادة الجيش للتفاوض مع الدعم السريع؟ أين اختفت لغة “لا تفاوض قبل فك الحصار” و”لا شرعية لمليشيا” و“لا اتفاق قبل تسليم السلاح”؟ كيف سقطت هذه الشروط دفعة واحدة، وبلا تمهيد ولا تبرير، فقط لأن النفط دخل المعادلة؟ هذا التراجع المفاجئ لا يمكن تفسيره كمرونة سياسية، بل كاعتراف عملي بأن ما قُدِّم للرأي العام بوصفه ثوابت وطنية لم يكن سوى أوراق ضغط مؤقتة، تُرفع حينًا وتُسحب حين يلوح المال في الأفق.
وتتعقد الصورة أكثر حين نعلم أن بترول جنوب السودان يُباع في جزء معتبر منه لدولة الإمارات. عندها يصبح السؤال مشروعًا ولا يمكن القفز فوقه: هل كانت الإمارات طرفًا مباشرًا أو غير مباشر في هذا الترتيب؟ وإن لم تكن حاضرة على طاولة التوقيع، فهل كان النفط المتجه إليها عاملًا حاسمًا في تسريع الاتفاق وتجاوز كل الخطوط الحمراء؟ وكيف يستقيم هذا مع خطاب رسمي ظل يصنّف الإمارات عدوًا للنظام وحليفًا للدعم السريع؟ كيف تكون (عدوًا) في الإعلام و(شريكًا) في سوق النفط؟ وكيف يُعاد تعريف العدو والحليف بهذه السهولة حين يتعلق الأمر بالبراميل لا بالضحايا؟
هذا التناقض لا يكشف ازدواجية خطاب فحسب، بل يفضح منطقًا قديمًا ظل يحكم علاقة السلطة بالموارد: النفط فوق الدم، وفوق الخطاب، وفوق ما يُسمّى بالثوابت الوطنية. وحين يحضر البترول، تتلاشى شروط التفاوض، وتُعلّق الشعارات، ويُعاد ترتيب التحالفات ولو مؤقتًا، حتى بين أطراف يفترض أنها في حالة حرب.
هذه اللحظة ليست استثناءً، بل امتدادًا لمنهج أرسته الحركة الإسلامية منذ استيلائها على الدولة؛ منهج يرى الموارد السيادية أدوات تمكين، لا حقوقًا عامة. فمنذ دخول البترول دائرة الحكم، جرى إخراج عائداته من ولاية المؤسسات، وتحييد وزارة المالية، وتعطيل الرقابة، لتنشأ خزينة موازية تُدار بعقل أمني وتنظيمي. استخدمت هذه الخزينة في تمويل الأجهزة القمعية، وشراء الولاءات، وإدامة الحروب، لا في بناء دولة أو تنمية مناطق الإنتاج التي ظلت أفقر وأكثر تهميشًا.
وحين انفصل الجنوب وسقطت العائدات، انكشف النموذج كاملًا: دولة لم تُبنَ، واقتصاد لم يتنوع، وسلطة لم تعرف غير الريع. عندها لجأت القيادة نفسها إلى الجبايات وتعميق القمع لتعويض ما فقدته من نفط، مؤكدة أن الهدف لم يكن يومًا بناء وطن، بل إدارة بقاء.
إن ما جرى ويجري في ملف البترول هو جريمة سياسية واقتصادية مكتملة الأركان، تشترك فيها قيادة عسكرية اختارت عقد الصفقات حين حضر النفط، والتشدد حين كان الثمن دم الآخرين. ولا معنى للحديث عن ثوابت وطنية أو حرب كرامة ما دام القرار يُبدّل شروطه بهذه السرعة عندما تتقاطع البنادق مع البراميل. الحقيقة البسيطة التي تكشفها هجليج هي أن من قدّم النفط على الدم لا يملك أي حق أخلاقي في ادعاء تمثيل الدولة أو الدفاع عنها.





