الرياض حيث تُنسَج الخيوط… وكردفان حيث يُختَبَر الصبر

*عثمان فضل الله*
الرياض حيث تُنسَج الخيوط، وكردفان حيث يُختَبَر الصبر. بين هذين المكانين يتشكل اليوم أحد أكثر فصول الأزمة السودانية تعقيدًا. فبينما تواصل المدافع حديثها الخشن في سهول كردفان وقراها المبعثرة، كانت السياسة، بهدوئها البارد، تعيد ترتيب مفرداتها في غرف مغلقة، بعيدًا عن ضجيج البيانات وسوق التصريحات والتكهنات. اللقاء الثالث الذي جمع القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان بمبعوث الرئيس الأمريكي للشؤون العربية والإفريقية، مسعد بولس، لم يكن مجرد اجتماع عابر في جدول مزدحم، بل لحظة شدّ عقدة، تُمسك فيها الخيوط قبل أن يُعاد شدّ المسرح كله.
لم يكن اللقاء الثالث امتدادًا ميكانيكيًا لما سبقه في جنيف والقاهرة، بل جاء في سياق مختلف تمامًا: حرب أكثر إنهاكًا، ميدان أكثر سيولة، وضغوط إقليمية ودولية تتكاثف بصمت. هنا، لا تُكتب العناوين العريضة في البيانات الرسمية، بل تُختبر الخيارات الثقيلة التي لا تُقال دفعة واحدة.
لقاء ثالث… ولكن بنبرة مختلفة
على ذات النسق الذي إتُّبع في لقاءي جنيف والقاهرة، عُقد لقاء الرياض في صمت شبه كامل. لا صور، لا بيان ختامي، ولا تصريحات تُشبع فضول المتابعين. غير أن هذا الصمت لم يكن فراغًا، بل كان امتلاءً محسوبًا. ففي الوقت الذي كانت فيه كردفان تشهد تصعيدًا ميدانيًا متقلبًا، كانت الرياض تستضيف نقاشًا يعكس إدراكًا بأن الحرب دخلت مرحلة استنزاف مفتوح، وأن إدارة هذا الاستنزاف سياسيًا باتت ضرورة، لا ترفًا.
اللقاء، بحسب توصيف مصادر مطلعة، لم يكن مجرد جلسة استماع، بل أقرب إلى مراجعة شاملة لمسار الحرب وإمكانات كبحها، في ظل انسداد المسارات السابقة أو تعثرها. واللافت أن اللقاء الثالث عُقد دون إعلان مسبق، ودون أي محاولة لتسويقه سياسيًا، ما يعكس رغبة واضحة في إبقائه بعيدًا عن ضغط الرأي العام والتجاذبات الإعلامية.
مسار لا يُعلَن… لكنه يتحرك
مصدر مطّلع على مجريات اللقاءات الثلاثة يؤكد أن السعودية لا تتحرك بوصفها وسيطًا منفردًا، ولا تسعى لتقديم نفسها كبديل لمسارات سابقة، بل تعمل ضمن تنسيق كامل مع دول الرباعية، في ما يشبه «افتراعًا محسوبًا لمسار وساطة جديد». مسار لا يُعلَن باسمه، ولا يُدشَّن بمؤتمر صحافي، لكنه يتقدم بخطوات بطيئة ومتماسكة، مستفيدًا من عاملين أساسيين: إرهاق الحرب، وضيق الخيارات أمام أطرافها.
الرياض، وفق المصدر ذاته، لا تبحث عن بطولة دبلوماسية أو مكسب رمزي، بل عن نتيجة قابلة للاستدامة. هذا ما يفسر استضافة اللقاء الثالث في صمت، وترك التفاوض يتحرك بهدوء، بعيدًا عن الأضواء التي كثيرًا ما أفسدت مسارات سابقة، وحوّلت الوساطات إلى ساحات استعراض بدل أن تكون أدوات حل.
تأكيد المؤكد… لا تفصيلًا عابرًا
في هذا السياق، لم يكن تأكيد كاميرون هدسون على عقد لقاء الرياض مجرد تفصيل عابر في هامش الأخبار، بل إشارة سياسية ثقيلة الدلالة. لقاء ثالث غير مُعلن، وبرعاية سعودية مباشرة، يعني أن المسار لم يتوقف، بل دخل مرحلة أكثر حساسية. تكرار اللقاء، وسريته، ثم الطريقة التي انتهى بها — عودة البرهان وبقاء وفده — كلها عناصر تفتح الباب أمام قراءة أعمق لما يجري خلف الكواليس.
يتقاطع ذلك مع ما أعلنه وكيل وزارة الخارجية السفير معاوية عثمان خالد، من أن البرهان أكد حرصه على العمل مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووزير خارجيته ومبعوثه من أجل تحقيق السلام. عند جمع هذه الإشارات معًا، تتضح تدريجيًا صورة لا يراد لبعض الأطراف أن تلتقطها مبكرًا.
لقاءات بلا صور ولا بيانات
ثلاثة لقاءات متتالية، بلا بيانات رسمية، ولا صور تذكارية، ولا تصريحات ختامية. هذا النمط وحده كافٍ للدلالة على أن ما يُناقش يتجاوز المجاملات الدبلوماسية. واشنطن لا تكرر الاجتماعات السرية بلا سبب، والرياض لا تستضيف هذا النوع من اللقاءات إلا إذا كانت الملفات المطروحة تمس أمن الإقليم وتوازناته الاستراتيجية.
في هذه المرحلة، لم يعد الملف السوداني ملفًا إنسانيًا محضًا، بل صار جزءًا من معادلة أوسع تشمل أمن البحر الأحمر، توازنات النفوذ الإقليمي، ومستقبل السلطة في الخرطوم. لذلك، فإن الصمت ليس غيابًا للموقف، بل أداة لإدارته.
كردفان… الجرح المفتوح
في خلفية هذا الحراك السياسي الهادئ، تقف كردفان بوصفها الجرح المفتوح. لا حسم، ولا خطوط تماس مستقرة، ولا قدرة لأي طرف على الادعاء بسيطرة كاملة. هذا المشهد المائع هو ما جعل اللقاء الثالث مختلفًا في نبرته؛ فالحرب هناك لم تعد مجرد صراع على الأرض، بل صراع على الزمن، وكل يوم يمرّ يضيف كلفة سياسية جديدة على طاولة التفاوض في الرياض.
على امتداد السهول الصفراء، حيث كانت القطعان تتبع المطر، تتحرك الآن أرتال السلاح. كردفان لم تعد هامشًا بعيدًا، بل صارت قلبًا نابضًا للصراع. الريح التي تعبر المراعي تحمل صدى المدافع، والقرى التي كانت تستيقظ على صوت اللبن والحياة اليومية، تستيقظ اليوم على أزيز المسيّرات ودوي الدانات.
وهجليج ليست مجرد اسم نفطي في خرائط الاقتصاد السوداني، بل عقدة مركزية في هذه الحرب. حين انكسر التوازن هناك، انفتح الباب على مصراعيه. السيطرة على الحقل غيّرت المعادلة: المال صار سلاحًا، والأنبوب صار جبهة، وفجأة انتقلت الحرب من كسب الأرض إلى كسب الزمن، ومن احتلال المواقع إلى التحكم في شريان الاقتصاد.
هذا التحول جعل من كردفان ساحة تتجاوز بعدها المحلي، وتستدعي اهتمامًا إقليميًا مباشرًا، لأن أي تهديد لتدفق النفط لا يُقرأ بمعزل عن مصالح دول الجوار وشركاء الإقليم.
خرائط تتبدل بلا ثبات
لا ثبات في كردفان. اليوم قرية، غدًا طريق، وبعده حقل نفطي أو عقدة إمداد. القوات تتحرك بخفة، تضرب وتنسحب، وتترك خلفها فراغًا يتمدد. الجيش يحاول استعادة المبادرة عبر عمليات محدودة ومحسوبة، بينما يوسّع الدعم السريع انتشاره على هيئة أقواس، يضغط من الأطراف ويختبر العمق.
لا انتصار حاسمًا، بل رجحان كفّة مؤقت يختفي مع الغبار. السماء لم تعد محايدة؛ الطائرات المسيّرة تحوّل الليل إلى كمين، وتقصّ الأثر من فوق، ضربة هنا تغيّر حسابات أسبوع، وضربة هناك تُربك إمدادًا أو تُسقط قائدًا.
المدنيون… خارج الحسابات
هذه حرب رخيصة الكلفة عالية الأثر، تُسرّع الاستنزاف وتضاعف الأخطاء، وتترك المدنيين بلا ملاذ. بابنوسة، أم عدارة، أطراف الأبيض… أسماء تُتداول كأنها نبضات، المستشفيات تُصاب، الأسواق تُفرغ، والبيوت تُغلق أبوابها على عجل، المدينة لا تُحتل دفعة واحدة؛ تُنهك أولًا: الماء ينقطع، الدواء ينفد، والناس يتعلمون العيش على الحد الأدنى من الأمان.
القوافل لا تُعلن، عائلات تتحرك قبل الفجر، تحمل ما خفّ وزنه وثقل معناه. النزوح في كردفان ليس مشهدًا واحدًا، بل تسرب مستمر، ومع كل موجة تتآكل قدرة الإغاثة، وتتسع المسافة بين الحاجة والاستجابة.
هندسة الخوف والولاءات
في هذا الفراغ، تنبت تفاهمات سريعة. قوى محلية تمسك السلاح دفاعًا أو مصلحة، وولاءات تُعاد صياغتها تحت ضغط البقاء. هذه ليست اصطفافات أيديولوجية، بل هندسة خوف. اليوم صديق، وغدًا خصم، بحسب اتجاه الريح وحسابات الحقل والطريق.
هذا الواقع المائع يعقّد أي حديث عن حسم عسكري، ويجعل من التسوية السياسية — مهما بدت بعيدة — خيارًا يُفرض من الميدان لا من الرغبة.
ظل إقليمي يثقل المشهد
حين تمسّ الحرب حدود النفط، تدخل الجغرافيا السياسة. الجوار يراقب، ويتدخل لضمان التدفق، ويمسك العصا من الوسط. حضور إقليمي لتأمين المنشآت، وضغوط دبلوماسية لتفادي الانفجار، كردفان صارت عقدة في شبكة أوسع؛ أي اهتزاز فيها يتردد صداه خارج حدود السودان.
كل ذلك، إضافة إلى تفاصيل لم يحن وقت الإفصاح عنها، تضغط على البرهان، وتزيد من القلق داخل مصانع القرار في الرياض والقاهرة، وبالقرب منهما واشنطن. لذا، لم يكن لقاء اليوم كسابقاته، ولا يُنتظر أن تكون نتائجه خارج ما تريده هذه العواصم وتترقبه قطاعات واسعة من السودانيين.
الواجهات المتعددة
يحذر مصدر دبلوماسي غربي من أن تعدد الواجهات العاملة في الملف السوداني — مبادرات إقليمية، مسارات دولية، وقنوات خلفية — إذا لم يُحكم التنسيق بينها، فإن ذلك يفتح الباب أمام أطراف الحرب «للتبضع في أسواق المبادرات»، واختيار ما يناسب لحظتهم التكتيكية، لا ما يخدم السلام.
ويضيف أن هذا التشتت كان أحد أسباب فشل محاولات سابقة، حين تحولت الوساطات إلى بدائل متنافسة بدل أن تكون مسارات متكاملة.
في المقابل، يرى آخرون أن ما يبدو من الخارج مبعثَرًا ليس كذلك في جوهره. ثمّة «خيط ناظم» لكل هذه التحركات، حتى تلك التي تبدو متباعدة في الشكل، وهذا الخيط ينتهي دائمًا عند واشنطن. فالعاصمة الأمريكية، عبر مسعد بولس تحديدًا، تمسك بالخيوط الأساسية، وتترك لبقية العواصم هامش الحركة لا هامش القرار.
في هذا الإطار، تُقرأ عودة البرهان وبقاء وفده. البرهان حضر ليستمع إلى الإطار العام، بينما تُركت التفاصيل الثقيلة والمعقّدة لتُطبخ على نار هادئة بين وفده والوسطاء.
بولس والملف الحقيقي
مسعد بولس ليس مبعوث مجاملات، حضوره يعني أن واشنطن تبحث عن ترتيبات عملية: وقف نار بشروط قابلة للتنفيذ، إعادة هيكلة المشهد العسكري، ضمانات تتعلق بمستقبل الحكم والانتقال، وتحجيم الفوضى التي تهدد المصالح الأمريكية في الإقليم.
تكرار اللقاء مع البرهان يوحي بأن واشنطن ما زالت ترى فيه «العنوان الرسمي» الممكن، لكن ليس بالضرورة «الخيار النهائي».
عودة البرهان من الرياض، مقابل بقاء وفده، ليست تفصيلة بروتوكولية، إنها رسالة سياسية مزدوجة: أولًا، البرهان أدّى دوره بالاستماع وتقديم التزامات مبدئية وفتح الباب. ثانيًا، التفاوض الحقيقي تُرك للفريق الفني لمناقشة التفاصيل التي لا تحسم بتصريح علني أو قرار فردي.
بقاء الوفد يعني أن النقاش دخل مرحلة الصياغة: أوراق، جداول زمنية، تعهدات مكتوبة، وربما خطوط حمراء أُبلغت بها المؤسسة العسكرية بوضوح.
أكثر من مجرد وسيط
الرياض هنا ليست مجرد مضيف، السعودية تحاول تثبيت نفسها كضامن إقليمي لأي تسوية سودانية قادمة، خاصة بعد تعثر مسارات سابقة، استضافة اللقاء وقبلها الجهود الجبارة التي بذلتها وتنقل مسؤوليها ودبلوماسيتها بين العواصم وبورتسودان تؤكد أن الملف السوداني انتقل من مربع «الأزمة الإنسانية» إلى مربع «الترتيبات الأمنية والسياسية».
ما الذي يُطبخ؟
لا شيء نهائي بعد، لكن المؤشرات واضحة: واشنطن لم تُغلق بابها مع البرهان، لكنها ترفع سقف الشروط، وتعمل على مسار طويل النفس، لا صفقة سريعة. بقاء الوفد يعني أن ما بعد البرهان — أو ما حوله — بات جزءًا من النقاش.
بين الدم والكلمات
ما يجري في الرياض ليس فصلًا منفصلًا عن كردفان، بل امتداد لها بلغة أخرى. هناك، تُكتب الجغرافيا بالدم، وهنا تُعاد صياغتها بالكلمات. اللقاء الثالث ليس تكرارًا، بل تصعيدًا ناعمًا: صمت كثيف، ضغط محسوب، وخيوط تُنسج بعناية. قبل أن يُكشف الستار، يبقى المشهد معلقًا بين احتمالين: تسوية تُنهي الاستنزاف، أو فراغ أكبر يطيل زمن الحرب. وبين الاثنين، يظل السؤال الأثقل: بأي كلفة، ولصالح من تستمر الحرب؟





