فيلم جديد عن الأم تيريزا يصور رمزاً كاثوليكياً معيباً

برلين – دويتش فيلة – بقلم سيلكه وونش

تدور أحداث فيلم “الأم” في الهند خلال أربعينيات القرن العشرين، ويصوّر راهبةً ممزقةً بين الشك الذاتي، والمبادئ الصارمة، والتضحية بالنفس. كما يطرح الفيلم السؤال التالي: هل كانت تيريزا مناصرةً لحقوق المرأة؟

كانت تيريزا في التاسعة عشرة من عمرها عندما انتقلت إلى الهند . وهناك، واجهت الراهبة المبتدئة البؤس والجوع والمرض. عاشت كراهبة ومعلمة في كلكتا (كولكاتا حاليًا) كعضوة في رهبنة لوريتو الكاثوليكية، التي كرست نفسها للعمل التعليمي والتبشيري في الهند.

كانت كلكتا مكتظة بالسكان، ونظام الرعاية الاجتماعية الحكومي مُرهَق، ونظام الرعاية الصحية شبه معدوم. بعد نحو مئتي عام من الحكم الاستعماري، واجهت الهند تحديات جسيمة بعد فترة وجيزة من استقلالها عن بريطانيا العظمى. كانت البلاد تعيش حالة من الاضطراب، ولقي آلاف الأشخاص حتفهم في أزمات عنيفة.

يصور فيلم “الأم” مدى هذه الفوضى. فبدلاً من الجماليات البراقة، يُظهر مشهداً حضرياً مليئاً بالضوضاء والظروف المزدحمة وحشود الناس.

ولدت تيريزا عام 1910 باسم أنجيزي غونكسي بوجاكسيو في سكوبيه (التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وهي الآن عاصمة مقدونيا الشمالية)، وتظهر في الفيلم كامرأة تبحث عن دعوتها وسط الخراب والمشقة.

يقال إنها شعرت خلال رحلة بالقطار بـ “نداء داخل نداء”: ألا تعيش فقط من أجل الله، ولكن من أجل أفقر الفقراء وبينهم.

 *امرأة تتمرد على كنيستها* 

يُظهر الفيلم تيريزا (التي لعبت دورها ببراعة نومي راباس) ليس كشخصية خارقة للطبيعة من النور، بل كامرأة تتمرد على  الكنيسة الكاثوليكية .

ففي النهاية، كانت خطتها ثورية: مغادرة الدير، وتأسيس نظامها الخاص، والانتقال إلى الأحياء الفقيرة ورعاية المرضى والمحتضرين – كراهبة تعيش خارج النظام.

عرقلت الكنيسة الكاثوليكية أفكارها، لأن رغبات تيريزا كانت تعني القطيعة مع التقاليد القديمة والطاعة. لكنها ظلت عنيدة.

لم يتراجع الفاتيكان إلا في عام 1948 ، وفي عام 1950 أسست أخيرًا النظام العالمي لمرسلات المحبة .

الفيلم كثيف بصرياً، قليل الحوار، ومصحوب بصوت غيتارات كهربائية مشوهة، ويعرض الناس الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة في كلكتا وهم يكافحون الفقر والمرض، والعالم المثالي لمدرسة الفتيات بفساتينهن الوردية، وغرف الراهبات البسيطة داخل جدران الدير – حيث حكمت تيريزا، بصفتها الأم الرئيسة، بقبضة من حديد.

 *الغرور أم الإحسان؟* 

يصوّر الفيلم تيريزا بشكل نقدي ولكن محترم، مع الإشارة فقط إلى بعض الجوانب المثيرة للجدل. على سبيل المثال، في مشهد جاد، تتساءل تيريزا في نفسها عما إذا كان التزامها ينبع حقًا من الإحسان الخالص أم من الغرور – وهي لحظة تتخلى لفترة وجيزة عن الأسطورة وتظهر تيريزا وهي تفحص نفسها.

لاحقًا، تناقش موضوع الإجهاض مع الكاهن الذي يرأس الدير. يذكّرها الكاهن بألا تدين النساء، بل أن تتأمل في الأسباب التي دفعتهن إلى اتخاذ هذه الخطوة. وفجأة، يطرح الفيلم تساؤلًا حول ما إذا كانت الرحمة تسمح أيضًا بالمعارضة – ضد مؤسسة الكنيسة التي تدين الإجهاض.

 *الجانب المظلم للأسطورة* 

على الرغم من تبجيلها، فقد تشوهت صورة تيريزا الحقيقية – التي أعلنها البابا فرنسيس قديسة عام 2016 – منذ زمن طويل. لقد كانت شخصية مثيرة للجدل حتى في حياتها.

اتهمتها منظمات حقوق الإنسان بتوفير مسكنات ألم غير كافية ونظافة غير لائقة في ملاجئها، التي وصفتها بأنها أقرب إلى دور رعاية المسنين منها إلى المستشفيات. وقد تلقت مئات الملايين من الدولارات كتبرعات من مصادر مشبوهة في بعض الأحيان، بينما كانت المعايير الطبية في مرافقها مزرية.

لخص الصحفي البريطاني كريستوفر هيتشنز الأمر بقوله: “كانت صديقة للفقر، لا صديقة للفقراء”. فقد اعتبرت المعاناة “هبة من الله” ولم تفعل شيئًا لإنهاءها. وساوت بين بؤس الفقراء ومعاناة المسيح، ويُنسب إليها قولها: “إنه لأمر جميل أن نرى الفقراء يتقبلون مصيرهم ويعانونه كما عانى المسيح”.

 *إلى أي مدى كانت تيريزا مناصرة لحقوق المرأة؟* 

كانت تيريزا صريحة بشكل خاص في قضية الإجهاض. ففي خطابها عند قبولها جائزة نوبل للسلام عام 1979، وصفت الإجهاض بأنه “جريمة قتل” و”أكبر مدمر للسلام”. وهذا ما جعلها قائدة أخلاقية للحركات المحافظة.

وفي الوقت نفسه، حوّل ذلك تيريزا إلى هدف للنقد النسوي، الذي اتهمها بإخضاع حقوق المرأة لفكرة التضحية بالنفس.

ومع ذلك، تقول مخرجة الفيلم، تيونا ستروجار ميتيفسكا، إن تيريزا كانت تتمتع بصفات نسوية. وقالت ميتيفسكا في مقابلة مع مجلة “فيلمدينست” السينمائية: “لقد أخذت على عاتقها أن تكون على طبيعتها لتحقيق هدفها. في رأيي، هذا يجعلها شخصية نسوية بامتياز ” .

بصفتها امرأة اكتسبت نفوذاً في كنيسة أبوية، وأسست رهبانيتها الخاصة، وحققت شهرة عالمية، يمكن اعتبار تيريزا بلا شك شخصية نسائية قوية. لقد تحدت الأعراف، وتركت الدير، وقادت آلاف الراهبات – وهو شكل من أشكال الاستقلالية لم يكن شائعاً آنذاك.

في الوقت نفسه، مثّلت صورةً للمرأة تركز على الأمومة والتضحية والطاعة. كرّست عملها للمعاناة، لا لتغيير البنى الاجتماعية. لم تكن نسوية بالمعنى التحرري، لكنها كانت كذلك بلا شك من حيث حضور المرأة وقيادتها.

عانت تيريزا من شكوكٍ عميقة في عقودها الأخيرة. تكشف رسائلها ومذكراتها، التي نُشرت عام 2007، عن قدرٍ كبير من الوحدة وتساؤلاتٍ متكررة حول وجود الله. كتبت المرأة التي رمزت للأمل في جميع أنحاء العالم أنها تشعر من الداخل ببرودةٍ قارسة، وأن الجنة لم تعد تعني لها شيئًا: “بالنسبة لي، تبدو كفراغٍ موحش”. لعل هذا ما يجعل شخصيتها إنسانيةً للغاية.

 *لماذا يأتي الفيلم في الوقت المناسب* 

لا تزال قضايا الإجهاض، والفقر، والصراعات الدينية، وسلطة المرأة في الكنيسة، حاضرة بقوة ومقلقة. يطرح الفيلم علينا سؤالاً هاماً: هل يمكن للمرأة أن تكون قديسة، وفي الوقت نفسه مثيرة للجدل سياسياً؟ ويُظهر تيريزا كشخصية ذات حدود.

لعلّ هذا هو جوهر أهميتها اليوم: ليس كشخصية قديسة منيرة، بل كشخصية تطرح قضايا. قد يكون هذا الفيلم، الذي لا يشرح شيئاً بل يكتفي بالملاحظة، فرصة جيدة للحديث عن تيريزا من منظور جديد.

كُتبت هذه المقالة في الأصل باللغة الألمانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى