من دون دعوة… إلى قلب الحدث الشَّاعر سيد أحمد على بلال يُشَرِّفُ معرض الشَّارقة ويلمعُ في سماءِ أبوظبي

*محمَّد خلف*
هجس اليونان وكتاب «المتن الروائي المفتوح»
لم أكُن، برفقةِ سيدأحمد، مَدعُوَّيْنِ لحضور معرض الشَّارقة، إذ إنَّ “معهد إفريقيا”، الَّذي أصبح فيما بعد جامعةً للدِّراساتِ العالميَّة، ظلَّ يُركِّزُ بصورةٍ أساسيَّة هذا العام على تدشينِ المجلًّد الأوَّل من الأعمالِ الكاملة للكاتبِ السُّودانيِّ الكبير الرَّاحل جمال محمَّد أحمد. إلَّا أنَّنا ارتأينا الذَّهابَ على حسابِنا -بتشجيعٍ من الأستاذ الأمين محمَّد عثمان الَّذي استضافنا بمنزلِه طيلة فترةِ إقامتِنا- وذلك، لسببَيْن: أوَّلاً: استضافةُ المعرضِ هذا العام لليونان، عِلماً بأنَّ الشَّاعر سيدأحمد بلال هو من أوائل المترجمين من اللُّغةِ اليونانيَّة القديمة إلى العربيَّةِ مباشرةً، من غيرِ وساطةِ لغةٍ إنكليزيَّة أو فرنسيَّة؛ لذلك، قدَّرنا أنَّ المعرض سيكونُ سانحةً لا تتكرَّر، وفرصةً لمقابلةِ الكُتَّابِ والمترجمين اليونانيِّين الَّذين من المقرَّرِ أن يحضروا هذه المناسبةِ المُهمَّة؛ ثانياً، تدشينُ كتابِنا “المتن الرِّوائي المفتوح”، ومقابلةُ النَّاشرين والمشرِفين على التّوزيع، والوقوفُ عن كَثَبٍ على أحدثِ تطوُّراتِ صناعةِ الكتب السُّودانيَّة وأساليبِ عرضِها في المحافلِ الإقليميَّة والدَّوليَّة.
احتفاء عفوي تحت سماء أبوظبي
إلَّا أنًّنا وجدنا نفسَيْنا فجأةً في قلبِ الحدث، وما ذلك إلَّا لوجودِ عددٍ من مصادفاتٍ سعيدة، قد يرِدُ ذكرُها في تقريرٍ منفصل. أمَّا في هذا العرض، فإنَّ تركيزَنا سينصبُّ على مقابلة سيدأحمد للنَّاشرين اليونانيِّين، إضافةً إلى الوقوف على حقوقِه عند “دار المدى”؛ والأهمُّ من كلِّ ذلك، هو الاحتفاءُ به تحت سماءِ أبوظبي المرصَّعة، حقيقةً ومجازاً، بالنُّجوم. ففي اليوم الأوَّل لوصولنا، كان يتعيَّن علينا، بصحبة أستاذ الأمين، أن نُوصِّلَ وصايا لأهلِ سيدأحمد، ففوجئنا بأنَّ شقَّتهم كانت مُعَدَّةٌ عن قصد، أو بالمصادفة، للاحتفاء بسيدأحمد؛ فكان بها سبعةُ أشخاصٍ غيرُنا، يتبادلونَ الغناءَ ويعزِفونَ على جيتارٍ وعُودَيْن وكيبورد وكمنجة، ولم يكُن بينهم عازِفٌ أو مُغَنٍّ محترف، سوى أُسامة المبارك، عازفِ الكمنجة؛ إلَّا أنَّ أداءهم الجماعيَّ بمجملِه كان في غايةِ الطَّرب، كما أنَّ ارتجالَهُم للعزفِ والغناء لم تَشُبْهُ أيُّ مَسحَةٍ من هرجلةٍ أوِ اضطِّراب. فانتشى لأدائهِم سيدأحمد، واستيقنَ على الفورِ بصوابِ قرارِه المجيءَ إلى الشَّارقة، حيثُ تعبَّأت روحُه فيها بغِبطةٍ غامرة، وأضاء وجهُه اللَّندنيُّ المُتعَبُ بإشراقٍ جديد.
حين قال الشاعر: أقرأ تحت أي شجرة

في اليوم الأوَّل للمعرض (٥ نوفمبر ٢٠٢٥)، ذهبنا أوَّلاً إلى صالةِ النَّاشرينَ اليونانيِّين، ثمَّ قام سيدأحمدُ بعدَها بساعةٍ تقريباً بصُحبةِ كمال اِبنِ أخيه عبد الله والخطَّاطِ السُّودانيِّ المعروف تاج السِّر حسن سيدأحمد بزيارةِ صالة عرضِ “دار المدى” لحسمِ شؤونٍ متعلِّقةٍ بطبعاتٍ متلاحقة لكتاب “تصوُّف”؛ وقد وَعَدَتِ الدَّارُ بتسويةِ الأمر بما يُرضي الطَّرفين. من جهةٍ أخرى، قام الأستاذ الفنَّان الأمين محمَّد عثمان بجمعِِ وتصميمِ ثلاثةِ دواوينِ شعرٍ لسيدأحمدَ في كتابٍ واحد؛ كما قامتِ الدُّكتورة ليمياء شمَّت بحجزِ قاعة “إسمارت ميديا” بالشَّارقة للاحتفالِ به يوم السَّبت (٨ نوفمبر)؛ إلَّا أنَّ مديرَ القاعة كان يخشى من تقاطُرِ الجمهورِ إلى فعاليَّاتِ المعرض بمركز “إكسبو”، وهو البؤرةُ الثَّقافيَّةُ المركزيَّة بالإمارةِ الخليجيَّة في تلك الأيَّامِ المشهودة. غير أنَّ سيدأحمدَ قد حَسَمَ الأمرَ بسجيَّتِه المعهودة، حيثُ قال على رؤوسِ الأشهادِ إنَّه مُستَعِدٌ لإلقاءِ أشعارِه والتَّحدُّثِ عن سيرتِه تحت ظلِّ أيِّ شجرةٍ على قارعةِ الطَّريق.
فالتقطت لمياءُ الرِّسالة، فتواصلت مع د. محمد إبراهيم/ صاحب “مطعم زول كورنر”، فرحَّب على الفورِ باستضافة الجميع بأقصى درجاتِ الحفاوة والفخامة في مكانِ مطعمِه، الَّذي يُمثِّلُ في حدِّ ذاتِه قطعةً أثريَّة، يعكسُ تصميمُها الفخرَ والاعتزازَ بجِذرِنا الحضاريِّ التَّليد: من أهراماتٍ ومعالمَ عريقةٍ، بالإضافةِ لاقتباسٍ للملك تهارقا؛ كما يعبقُ المكانُ ذاتُه بروائحِ وطُعومِ ومزاجِ البلاد. وقد حضر الدُّكتورُ لاستقبالِ الضُّيوفِ والتَّرحيبِ بهم، والوقوفِ بنفسِه على تفاصيل الضِّيافة؛ كما التقط لفيفٌ من الأصدقاءِ الرِّسالة، وفي مقدِّمتهم الأستاذ علي سيدأحمد، فهيَّأوا للشَّاعر سيدأحمد علي بلال يوم الجمعة (7 نوفمبر 2025) اِحتفالاً باذِخاً تحت سماءٍ مرصَّعةٍ بالنُّجومِ في أبوظبي، شارك فيها معه القامةُ الباسقة أزهري محمَّد علي، والفنَّانُ الأصيل أبو بكر سيدأحمد، وأمونة عازفة المِزمار، والموهبةُ اليانعة أيمن عابدين؛ وبحضورِ مرتضى الغالي وهاشم حبيب الله وعادل بابكر ومجذوب عيدروس والأمين محمَّد عثمان ومصطفى آدم ونجوى دفع الله وبدري إلياس وأحمد حيمورة والماحي علي الماحي؛ وبالطَّبع، دكتورة ليمياء شمَّت.
وقد قدَّم كمال عبد الله بلال اِبنُ أخِ سيدأحمدَ عرضاً ضافياً لسيرةِ الشَّاعر وأعمالِه الخيريَّة في قرية “حِزيمة”، الَّتي شملت تأسيسَ مكتبةٍ وتشجيعَ العملِ النِّسويِّ ودعمَ إنشاءِ مشروع “منهل الوديان”، إضافةً إلى إقامةِ ندواتٍ صحِّيَّة وثقافيَّة ورعايةِ جوائزَ تحفيزيَّةٍ للطُّلَّاب، وعَقدِ كورساتِ تعليم الكمبيوتر واللُّغةِ الإنكليزيَّة للأطفال بواسطة بناتِ الشَّاعرِ عند حضورِهم في الإجازات، وذلك اِستمراراً وتواصلاً منهُنَّ لمسيرةِ سيدأحمدَ الَّتي بدأت من السِّتينيَّاتِ في تدريسِ اللُّغةِ الثَّانيَّةِ أثناء الإجازاتِ الصَّيفيَّة. هذا وقد سبق الحفلَ استقبالٌ حفيٌّ وتقديمُ وجبةٍ في مطعم “زول كورنر” السُّودانيِّ بأبوظبي؛ وقدِ استضاف الدُّكتور أمير ميرغني الحفلَ بمنزلِه العامر؛ كما قام الأستاذ علي سيدأحمد بالتَّرتيب للمحفل والإشراف على الضِّيافة باقتدارٍ وكرمٍ فيَّاض. على إثر ذلك، شرع بعضُ الحاضرين في الإدلاءِ بشهاداتٍ صدرت عن أقاربَ وأصدقاءَ مقرَّبينَ ونشطاءَ مهتمِّينَ بكتاباتِ سيدأحمدَ من أشعارٍ وترجماتٍ وسِيراتٍ ذاتيَّة.
شهادات من الدم والقربى
ومن الأهلِ، ابتدرت إيناسُ ابنةُ أخيه إبراهيم بلال الحفلَ بقولها: “العمُّ والأستاذُ والشَّاعرُ والكاتبُ والمفكَّرُ سيدأحمد بلال شهادتُنا فيه مجروحة، فهو إن قالَ شعراً أنصت له الجميع؛ وإن كتبَ روايةً، لا تستطيعُ أن تتركها حتَّى تُكمِلَها؛ وإن جَالَسَكَ، لا تملُّ حديثَه ولا تملِكُ إلَّا أن تُعجَبَ بروحِه الرَّقيقة وأدبِه الجمِّ. هو رجلٌ محبوبٌ جميلُ المعشر، يستحِقُّ التَّكريمَ في كلِّ يومٍ، وكلِّ شهرٍ، وكلِّ عام”. ومضت إيناسُ في شهادتِها تقول: “ماذا يُمكِنُ قولُه فى هذه العجالة دون ابتسارٍ مخلٍّ في حقِّ سيدأحمد، المثقَّفِ الَّذي ظلَّ يتنقَلُّ بيُسرٍ وسلاسةٍ يُحسَدُ عليهما بين الثَّقافاتِ العربيَّةِ واليونانيَّةِ (قديمِها وحديثِها) والأنجلوساكسونيَّة، قارئاً وناقداً ومترجماً. حين تجلسُ وتتحدَّثُ إليه، يُدهِشُكَ بسَعَةِ مداركِه وعُمقِ ثقافتِه، مع بساطةِ أسلوبِه الَّذي يخلو من الاصطناعِ والتَّقعُّر. ولاغروَ، فالبساطةُ والزُّهدُ فى متاعِ الدُّنيا أسلوبُ حياةٍ بالنَّسبةِ لسيدأحمد، كأنَّه خرج لتوِّه من خلوةٍ أو ’مسيد‘؛ إذ
لم يكُن سيدأحمدُ يطلبُ مجداً أو شهرةً في كتاباتِه، ولعلَّه كتب بدافعِ الوفاء لفكرةٍ ما أو شخوصٍ ما؛ أمَّا شعرُه، فهذا بابٌ آخر. ومع إنَّه يُعتبَرُ مُقِلَّاً، فهذا ربَّما كان بسببِ احترامِه الشَّديد للكلمةِ المنظومة، واعتدادِه بالقوافي”.
وقالت أماني اِبنةُ أخيه إبراهيم: “عمِّي سيدأحمد كان وما زال يُمثِّلُ بالنِّسبةِ لي السَّندَ والأمانَ والمحبَّة…. كان مُعلِّمي ومُرشِدي وأنا أتحسَّسُ خُطواتيَ الأولى نحو المستقبل.. أهمُّ نقطةٍ يُمكِنُني الكلامُ عنها هي أنَّه نصيرٌ للمرأة ويُؤمِنُ بحقوقِها في زمنٍ كانت حقوقُ النِّساء محلَّ جدلٍ كبير ….تعلَّمتُ منه أنا وبناتُ جيلي من الأسرة الثِّقةَ بالنَّفس وتقديرَ الذَّاتِ و الاعتزازَ بما نفعلَهُ ….ترافقنا رَدَحَاً من الزَّمن وأنا في سنواتِ دراستيَ الجامعيَّة، نهلتُ فيها منه الكثيرَ من المعارفِ الإنسانيَّة، واستمتعتُ بذائقتِه الأدبيَّةِ والشِّعريَّة؛ وأتاح لي فرصةَ التَّعرُّفِ الى عددٍ من أصدقائه الَّذين يتشارَكونَ معه المحبَّةَ والمعرفة…..أعتقدُ أنَّه على مستوى الأسرة قدَّم لنا العمُّ سيدأحمد الكثيرَ، وفتَحَ نفَّاجاتٍ كبيرة للعلمِ والثَّقافة.. قرأنا أشعارَه وترجماتِه العظيمة، فحرَّضت داخلَنا الرَّغبةَ في المعرفة. على المستوى الإنساني، أنا تعلَّمتُ منه أن تكونَ نظرتي للأمورِ موضوعيَّةً بقدرِ الإمكان، وأن أبتعِدَ عن إصدارِ الأحكام. تعلَّمتُ منه أيضاً احترامَ الآخرِ المختلِفِ ثقافيَّاً أو دينيَّاً أو عرقيَّاً. أُدينُ له بالكثير، وأعتقِدُ أنَّنا محظوظون جدَّاً بقرابةِ الدَّمِ الَّتي تربِطُنا”.
من «مقاشي» إلى الوعي الجمعي
وضمن شهادتِه الضَّافية عن سيدأحمد علي بلال من الرَّياض، أورد محمَّد العبَّاس الحسين القولَ بأنَّه “على مستوى الأسرة والأهل، فإنَّ له تأثيراً واضحاً؛ فنحنُ على سبيل المثال في ’مقاشي‘، حيثُ وُلِدت وترعرعت والدتُه الخالة مديني بت سيدأحمد طيَّب اللهُ ثراها، كُنَّا ننتظرُ زياراتِه بكثيرٍ من الشَّغفِ والحبِّ، ليس الأهل فحسب، ولكن كلَّ أبناءِ جيلِه في “مقاشي” مِمَّن يهتمُّونَ بحركةِ الفكرِ والثَّقافة. ويحسَبُ للأستاذ سيدأحمد أنَّه من الأوائلِ الَّذين قدحوا زنادَ الوعيِ والمعرفةِ والاستنارةِ وسط قُرانا، وذلك من خلالِ حديثِه الهاديءِ الوقورِ وفراستِه الَّتي تقرأُ اهتماماتِ من يتحدَّثُ إليهم، ومعرفةِ أيسرِ الطُّرُقِ الَّتي يُوصِلُ بها رسالتَه النَّبيلة. كان لسيدأحمدَ قطعاً أثرٌ كبيرٌ في دَفعِ أجيالٍ من أسرتِه الصَّغيرةِ والكبيرة وكثيرٍ من شبابِ “مقاشي” و”حزيمة” وبعضِ القرى المجاورة التَّوجُّهَ نحو مظانِّ العلمِ والمعرفةِ والثَّقافةِ ومراتعِ النِّقاشاتِ الفكريَّةِ بمختلفِ اتِّجاهاتِها، دونما مغالاةٍ وبشكلٍ متحضِّر؛ فسيدأحمد بلال رجلٌ حرُّ عاشقُ للحرِّيَّة، ظلَّ منافِحاً ومدافعاً عنها، وقد دَفَعَ في ذلك ثمناً؛ سيدأحمدُ موسوعيُّ الثَّقافةِ وغنيٌّ بالتَّجارب، مستمِعٌ جيِّد ومناقِشٌ هاديءٌ وصاحبُ جلساتٍ لا تملُّ؛ سيدأحمدُ، حتَّى لكبارِ السِّنِّ كان يُشكِّلُ مجلسَ أُنسٍ لطيفٍ بما حباه اللهُ به من قدرةٍ على التَّواصلِ مع مختلفِ الأعمار من الجنسين؛ سيدأحمدُ تلتقيه بشوقٍ وتُفارِقُه وأنتَ أكثرُ شوقاً له، فكُلُّ لحظةٍ معه متعةٌ وسياحة”.

هذا ما وَرَدَ عن بعضِ أهلِه وأقربائه الّّذين هم أصدقاؤه ومُحِبُّوه في ذاتِ الوقت، ولكن فلنستمعْ جيِّداً لما قالت عنه هويدا بلال، زوجتُه وأمُّ بناتِه ضحى ونوَّارة وسماء، في الفقرتَيْنِ التَّاليّتَيْن:
“سيدأحمد بلال رجلٌ متصوِّف، زاهِدٌ غزيرُ المعرفة، لا يُحِبُّ الأضواءَ، ويُحِبُّ العلمَ والمتعلِّمين؛ له تأثيرٌ كبيرٌ في حبِّنا للقراءةِ وطَلَبِ العلم، وتأثيرُه في الأسرةِ الممتدَّةِ ظاهرٌ وملموسٌ بالنَّصيحةِ والدَّعمِ المادِّيِّ والتَّشجيع؛ وهو يدعَمُ النِّساءَ وتعليمَ النِّساء، وكان السَّببَ في تخرُّجِ العديدِ من بناتِ أسرتِه من الجامعات. يترُكُ سيدأحمدُ أثراً في نفسِ كلِّ مَن يَعرَفُه، وقد تحدَّث الكثيرُ من أصحابِه في فترةِ اليونانِ عن تأثيرِه في طريقةِ تفكيرِهم وتوجُّهاتِهِمُ الحياتيَّة. وكان أوَّلُ كتابٍ أهداه لي عند عودتِه بعد غيابٍ طويل في دولِ المهجر كان نسخةً من كتاب “تصوُّف”؛ فهذه النُّسخة الَّتي أهداها لي قد تمَّ تصويرُها عشراتِ المرَّاتِ، لِيقرأها الكثيرُ من الشَّبابِ في ذلك الوقت؛ وأعتقِدُ أنَّ كتاب “تصوُّف” هو كتابٌ تصلُحُ قراءتُه في كلِّ الأزمنة، حتَّى زمنِ الذَّكاءِ الاصطناعي.
وعندما يكونُ سيدأحمدُ مندمجاً في شُغلِ ترجمةٍ أو كتابةٍ، ينسى حتَّى الأكل. كنتُ أزعلُ حينَها واصفةً له بأنَّه ذو اتِّجاهٍ واحد، ولكن فهِمتُ لاحقاً غير ذلك؛ فهِمتُ أنَّه يُعطي روحَه كلَّها لِما يعملُ به وينسحِبُ من كلِّ الدُّنيا من حوله. وفي القريةِ، كان له كبيرُ الأثرِ؛ وهو ملهِمٌ للكثيرِ مِنَّا. فقبلَ سنينَ عديدةٍ، قُمنا بإنشاءِ مكتبةٍ صغيرة، وكان سيدأحمدُ داعماً لنا بشدَّة. والآنَ، في مشروع “منهل الوديان” و”مكتبة الدُّكتور إبراهيم” بالقرية، هو من الدَّاعمينَ الأساسيِّين. سيدأحمد قارئٌ نهِمٌ، يُحِبُّ الكُتُبَ في كلَّ المجالات، وتعمَرُ مكتبتُه بالكثيرِ من الكتب: ابتداءً من كتب التَّغذية البسيطة، وحتَّى كتب الفلسفة المعقَّدة جدَّاً، لكلِّ الكُتَّابِ في العالم، وبلُغاتٍ مختلفة ما بين اليونانيِّ والإنجليزيِّ والعربي. فبالتَّأكيدِ هو زوجٌ محبٌّ وداعِمٌ، وكان السَّببُ في حصولي على درجة الماجستير في علوم الكمبيوتر من بلاد العجم؛ وهو كذلك أبٌ رائعٌ لبناتِه ومُشَجِّعٌ لهُنَّ في المُضِيِ في طريقِ العلمِ والتَّعلُّم؛ وأخٌ متفهِّمٌ وقريبٌ من أخواتِه؛ وخالٌ وعمٌّ حنونٌ ومحتضنٌ لكلِّ مَن يحتاجُه”.
في الشعر… حيث لا تقول الموسيقى كلاماً
وافتتحَ صديقُه، فتحي محمَّد عثمان، كِلمتَه متسائلاً: “هل يُمكِنُ الحديثُ عن سيد أحمد علي بلال في سطورٍ معدودات؟ ذلك أمرٌ يبدو مستحيلاً، تقريباً، عند مَن عَرَفَه على مدى أربعةِ عقودٍ ونَيِّف. فقدِ التقيتُ سيدأحمدَ لأوَّلِ مرَّةٍ في أثينا، حيثُ كان يدرُسُ، ضمنَ علومٍ أخرى، اللُّغةَ الإغريقيَّةَ القديمة؛ وذلك، في حدِّ ذاته، خيارٌ يُنبئُكَ عن شخصيَّةٍ لا تُشبِهُ غيرَها. كانتِ الاختياراتُ الصَّعبةَ سبيلَه على الدَّوام، منذُ أن غادرَ قريتَه النِّيليةَ الصَّغيرة ’حِزيمة‘ ، وهو صبيٌّ يافع، لِيلتحِقَ بأبيه في “عنابرِ التِّجاني” على شاطئِ البحرِ الأحمر، لِيبدأَ مِشوارَ تعليمِه المدرسي، ومن بعده تعليمَه العالي الَّذي تنقَّلَ فيه بين الخرطوم وأثينا وإدنبرة، ومن هندسةِ المساحة إلى فضاءِ اللُّغويَّاتِ و الفلسفة؛ كما غادرَ صخبَ الحركيَّةِ السِّياسيَّةِ (الثَّوريَّةِ) إلى هدوءِ عالَمِ الكتابةِ والنَّقد؛ ولم تتوقَّفِ انتقالاتُه الصَّعبةُ الجسورةُ عند هذا الحدِّ، فاعتزلَ “رائحةَ الشِّواءِ” وطعمَ الثَّريدِ، لِيكتفيَ ببعضِ النَّباتِ طعاماً يسُدُّ الرَّمَق؛ وأخيراً، اِنتهى باحِثاً في الأعشابِ وأسرارِها الخفيَّة”.
وخلُصَ فتحي في حديثِه المكثَّفِ عنِ المُحتفى به بقولِه: “إنَّني أرى في سيد أحمد، قبل كلِّ صِفةٍ أخرى: ’الإنسان‘، بكلِّ ما تعنيه الكِلمة؛ وفي قلبِ هذه الصِّفة، تكمُنُ ’المحبَّة‘ كجوهرةٍ ظلَّ يصونُها على الدَّوام، وتَبرُزُ في لُطفِه ورِقَّتِه وأدبِه الجمِّ. ثمَّ اُنظُر بعُمقٍ في تجلِّيَّاتِ المُعلِّمِ، المترجمِ، الكاتبِ، الصَّحفيِّ والشَّاعرِ الَّذي غاصَ عميقاً في بحرِ الكلامِ حتَّى إذ ’تنفَّسَ الماءُ‘ غازَلَ الموسيقى الَّتي ’لا تقولُ كلاماً!‘؛ ولعلَّ علاقتَه القديمة، العميقةَ والحميمَة بالكاتبِ الرِّوائي والفيلسوفِ اليونانيِّ نيكوس كازانتزاكس هي أفضلُ ما يُفصِحُ عن شخصيَّةِ سيدأحمد؛ فهو مثلُه تماماً: ’لا يأمَلُ في شيءٍ، لا يرغَبُ في شيءْ، فهو حرٌّ‘”. هذا فيما قال صديقُه شرف الدِّين يس: “في آخرِ إصدارٍ للكاتب الشَّاعر سيدأحمد بلال ’عنابر ديم التِّجاني‘ وهو يحكي عن النَّشأةِ والدِّراسة، عقدتُ مقارنةً -وأنا أُتابِعُ القراءة- بين أساليبه الأدبيَّة الَّتي تتشابه إلى حدٍّ بعيد في كثير من الأوجه -شِعراً ونَثراً وترجمةً- ولكنَّ المُدهِشَ حقَّاً هو البساطةُ والأريحيَّةُ في الكتابةِ التي تقودُكَ من صفحةٍ الى أخرى بصورةٍ سحريَّةٍ دون أن تشعُر: ’إنَّ سيدأحمد هو متكئُنا النَّقيُّ الطَّيِّب، الَّذي نحِسُّ فيه بالارتياحِ، إذا التقيناه شخصيَّاً أو بين طيَّاتِ ما كتب‘”.
وحكى الشَّاعر بابكر الوسيلة أنَّه وجد الأبياتَ الشَّعريَّةَ أدناه مرسومةً على الغلاف الخلفىِّ لمجلَّة “المحتوى”، تلك الَّتي كان يُصدِرُها تنظيمُ الجبهة الدِّيمقراطيَّة لأساتذة جامعة الخرطوم حينها؛ وكان ذلك في العام 1987:
(الموسيقى لا تقولُ كلاماً..
ولكنَّها تردمُ الهاوية.
الموسيقى لا تقولُ كلاماً..
ولكنَّها تفتحُ الطُّرُقاتِ ما بين مركزِ القلبِ وأطرافِه النَّائية.
الموسيقى لا تقولُ كلاماً..
ولكنَّها تصحَبُ الرُّوحَ وهي تعتلي القافية.
الموسيقى لا تقولُ كلاماً..
ولكنَّها تفرُشُ الدَّربَ للقَدَمِ الحافية.
الموسيقى لا تقول كلاماً..
ولكنَّها تَمنحُ الصَّحَّة والعافية)
فقلتُ للصَّادق الرَّضي، صديقي في دروبِ الشِّعرِ: “إنَّ هذا شعرٌ جميلٌ ومختلفٌ عمَّا نقرأه هذه الأيَّام”، فأضاف لمَسمَعي عبارةً شعريَّةً أخرى:
(عَزاءُ الضَّريحيِّ،
أنَّ قلبَ مَن تُحِبُّه
ما زال كائناً على الأرض).
وواصل بابكرُ سردَه قائلاً: “أخذتني عبارتُه الشِّعريَّةُ هذه من شغافي أيَّ مأخَذ، ومن يومها وأنا أتعلَّقُ بشاعرٍ يتموضَعُ في ذاكرتي باسمِ سيدأحمد بلال. عرَفتُ وقتَها أنَّه هاجَرَ لبلادِ الفِرنجة، وقلتُ في نفسي: ’قد خسرتْ أرضُ السُّودان شاعراً، لكنَّ عزاءنا أنَّه ما زال كائناً في أرضِ الشِّعر‘. ذهب العمرُ دُرُوباً، وذهب الشِّعرُ ضُرُوباً إلى أن التقيتُه بقَدَرٍ جميلٍ حين جاء مشارِكاً في أحدِ اللَّقاءاتِ الثَّقافيَّة الَّتي نظَّمَها المجلسُ البريطانيُّ بالخرطوم، في بدايةِ الألفيَّةِ الثَّانية. جاء ’والماءُ إذا تنفَّس‘ بين يدَيَّ بإهداءِ يدَيه. عَكَفتُ على قراءتِه زمناً طويلاً مع نفسي، فتسرَّبَ (لا بدَّ أنَّه تسرَّب) إلى كتاباتي، فمِثلُ شِعرهِ يتركُ أثراً ولا تمحوه الذَّاكِرةُ المتردِّمة؛ فطوبى للشِّعرِ به!”.
قراءة نقدية: الهوية الإنسانية واللغة
ومن زاويةِ النَّقدِ المسرحيِّ، قال النَّاقد السِّر السّّيِّد: “بالنِّسبةِ لي يُمَثِّلُ الشَّاعرُ والمترجمُ السُّودانيُّ، والمسرحيُّ أيضاً، سيدأحمد بلال لحظةً أو حالةً وجوديَّةً، سقفُها ما أُسمِّيه بِـ’الهُويَّةِ الإنسانيَّة)‘ الَّتي صنعها في منفاهُ العتيد، علي رافعةِ ’اللُّغة‘، إذ إنَّه يتوفَّرُ على أكثرَ من لغةٍ، بما فيها العربيَّة، فهو يكتبٌ بفصيحِها وعامِّيَّتِها.. اللُّغةُ ليس بحُسبانِها جسراً للتَّواصلِ، وإنَّما باعتبارِها أداةً لاكتشافِ الذَّاتِ وإعادةِ خلقِ العالم”. أمَّا صديقُه الفنَّانُ التَّشكيليُّ عبد الواحد ورَّاق، فقد قال: “قابلتُه لأوَّلِ مرَّةٍ في شارع الجمهوريَّة، بالقرب من وكالة السُّودان للأنباء (سونا )، يحمِلُ شنطةً من الجلد، بها سيورٌ مدلاة؛ له نظراتٌ حادَّة، وبهِ قلقٌ؛ ورويداً رويداً، بدأت مواهبُه ومكامنُ ذاتِه تتقشَّر. ونقرأُ في سيرتِه وأخبارِه، وتحِسُّ بتيَّارٍ جارفٍ لا يخلو من حنينٍ وإلفة، يجذُبُكَ إليه. عَلِمنا أنَّه قادِمٌ من اليونان، وأخذ يُحدِّثُنا عن جُزُرِ اليونانِ وسياحتِه فيها، وكأنَّه يفتَحُ حقائبَ عتيقةً ويدعونا بكرَمٍ قرويٍّ لكي نقرأَ فيها مشاهداتِه وأشعارَه وأفكاره. حدَّثنا عن زوربا اليوناني، الَّذي التقاهُ الفيلسوفُ الرِّوائيُّ كازانتزاكس في إحدي غاباتِ اليونانِ النَّائية؛ وأخذ يتحدَّثُ معه، فيكتشِفُ تيَّارَ النَّهرِ الفلسفيِّ الَّذي يجري مجرى الدَّمِ في دواخلِ زوربا، فيهيمُ إعجاباً لا يخلو من دهشة، ثم لا يلبثُ أن وجَدَ نفسَه يكتُبُ عنه باندفاعٍ، فيرتقي به لمصافِّ فلاسفةِ اليونانِ الكبارِ والأجِلَّاء، أمثالِ سقراطَ وهيروقليطسَ وغيرِهم! وبعد زمنٍ وجيز، انثال شعرُ سيدأحمد:
(الموسيقي لا تقول كلاماً)
وديوان (والماء إذا تنفَّس)
والحوارُ الخالدُ مع الباحثِ المبدع محجوب كرَّار، الَّذي تمخَّضَ عنِ الحديثِ والنِّقاشِ العفويِّ في تلك الأُمسيةِ الحالمة؛ وتحوَّلَ إلى كتابٍ من الأهمِّيَّةِ بمكان بعنوان: (ذادُ المبدعين)؛ ومؤخَّراً، كتابُه القيِّم عن عُمَّالِ كلَّاتِ ديم التِّيجاني بميناء بورتسودان، الَّذي يروي فيه سيرةَ نضالِ والدِه ورفاقِه من العتَّالة، ساكني العنابرِ ذاتِ المارقود؛ وسيدأحمدُ طالبُ المدرسةِ الأوَّليَّة -الَّذي عاشَ مع والدِه وقاسى حياةَ العزوبيَّة- يذهبُ للدَّرسِ، ويُنظِّمُ أسرةَ العمَّالِ، ويُوزِّع الشَّايَ للأعمامِ، ويكتبُ خطاباتِ زملاءِ والدِه آخرَ كلِّ شهرٍ مع المصاريفِ للأريافِ المتفرِّقة؛ فالحديثُ يطولُ عن سيدأحمد علي بلال، المتعدِّدِ الاهتماماتِ والقدراتِ والنَّوايا”.
وبالفعلِ، يطولُ الحديثُ وزمانُ الحفلِ قصيرٌ قصير؛ فلا بُدَّ، إذاً، من خاتمةٍ لهذه السَّهرةِ التَّي ألقى فيها الشَّاعرُ المُحتفَى به أشهرَ قصائدِه، التَّي تضمَّنت قصيدتَي “توازن” و”موسيقى”، وقصيدتَيْنِ لأمِّه وأبيه، هما: “أبوي البعرفو رجل فنجري”، وهي القصيدة الَّتي أُبرِزت في افتتاحيَّة كتاب “عنابر ديم التِّيجاني”، وقصيدة “أمي يا أوَّل الكلمات” وهي من مجموعة “وقع الغطاء عني” المهداة لروح والدته؛ وهي ليلةٌ ساهرةٌ صدَحَ فيها أيضاً الفنَّانان أبوبكر سيدأحمد وأيمن عابدين بباقةٍ من أجملِ أغانيهما؛ كما ألقى خلالها الشَّاعرُ أزهري محمَّد علي قصيدةً مطوَّلةً جديدة؛ فاستمتع الحاضرون لتلك السَّهرة الاستثنائيَّة بليلةٍ لا تُنسى تحت سماءٍ مرصَّعةٍ بالنُّحوم، علاوةً على ضيافةٍ مقدَّرة قدَّمها دكتور أمير، وأدارها ببشاشةٍ وكرمٍ سخيٍّ الأستاذ علي سيدأحمد.





